العدد 472 -

السنة التاسعة والثلاثون، جمادى الأولى 1447هـ الموافق تشرين الثاني 2025م

فضائح إبستين: حين تنكشف عورة الحضارة الغربية ونخبتها الحاكمة

لم تكن قضية جيفري إبستين مجرّد قصة منحرفٍ ثريّ يستغل قُصَّراً في جزيرة نائية؛ بل هي نافذة كُشف من خلالها وجه حضارةٍ تزعم قيادة العالم، وطبقةٍ سياسية ومالية وإعلامية ترسم مصائر الشعوب وهي غارقة في الوحل. إبستين، المموِّل الأمريكي المدين بالاتجار الجنسي بالقاصرات، لم يكن هامشياً، بل كان جزءاً من “نادي الصفوة”: شبكة معقّدة تمتد إلى رؤساء دول، وأمراء، وكبار الساسة، ورجال المال، وأيقونات الثقافة والإعلام. الوثائق القضائية التي كُشف عن جزء منها، ثم موجة “ملفات إبستين” التي تضغط الشعوب اليوم لكشفها كاملة، كشفت أن أسماءً لامعة – من رؤساء أمريكيين سابقين مثل بل كلينتون ودونالد ترامب، إلى شخصيات ملكية كالأمير أندرو، إلى وجوه علمية وفنية معروفة – وردت في السجلات، سواء في “الدفتر الأسود” أو في سجلات الطيران والاتصالات والمواعيد، ما يُظهر حجم الاختلاط العميق بين مراكز القرار السياسي والمالي والإعلامي وبين رجلٍ ثبتت عليه جرائم استعباد جنسي بحق فتيات صغيرات، واستمر مع ذلك سنواتٍ في الحركة داخل أروقة النخب، حتى بعد إدانته الأولى عام 2008. اليوم، وبعد ضغط شعبي وإعلامي متصاعد، يضطر الكونغرس الأمريكي لتمرير قانون يُلزم وزارة العدل وFBI  بنشر ملفات إبستين خلال مهلة محدَّدة، بعد سنوات من المناورات، والتسريبات، والقصص المتضاربة عن “انتحاره” في زنزانته، وعن غياب قائمةٍ رسمية لما سُمّي بـ “قائمة الزبائن”. لكن جوهر الفضيحة لا يقف عند سؤال: من صعد الطائرة؟ ومن زار الجزيرة؟ بل يتجاوز ذلك إلى طبيعة المنظومة التي تجعل مثل هذا الرجل “نافعةً” للنخبة؛ وسيطاً للمال، والصفقات، والعلاقات، ومصالح الجامعات الكبرى، والشركات العملاقة، ومؤسسات النفوذ. هذه القضية ليست شذوذاً منفرداً؛ بل حلقة في سلسلة طويلة من الفضائح الأخلاقية والسياسية التي تلاحق تلك الطبقة التي تُنصِّب نفسها قيّمةً على “النظام العالمي”: منها: فضائح الاستغلال الجنسي، من هوليوود إلى الكنائس، مروراً بساسةٍ انهاروا تحت ضربات حركة MeToo“.وفضائح الحروب الكاذبة: أكاذيب أسلحة الدمار الشامل في العراق، وتقارير التعذيب في أبوغريب وغوانتانامو، وفضائح المال والفساد البنكي: من أزمات الرهن العقاري إلى تسريبات “أوراق بنما” وأخواتها، حيث تُهرَّب ثروات الشعوب إلى ملاذاتٍ ضريبية بينما يُلقى بالفقراء إلى التقشف والضرائب. والقاسم المشترك بين هذه الفضائح جميعاً ليس “أخطاء أفراد”، بل بُنية حضارةٍ تقوم على تقديس المنفعة، وتسليع الإنسان، وتحويل الجسد إلى سلعة، والمال إلى إلهٍ يُعبد من دون الله. إن فضائح إبستين وأمثالها تكشف للمسلمين حقيقةً ينبغي ألا تُنسى: هؤلاء الذين يحدِّدون مصائر العالم، ويملون شروط “الحرب على الإرهاب”، ويفرضون على بلادنا مناهج التعليم، وقوانين الاقتصاد، وحدود “الديمقراطية المقبولة” – ليسوا سوى نخبة فاسدة مهترئة، تشبه من الداخل قصور إبستين: فخامة في الظاهر، وجرائم واستعباد في الباطن.

هذه الحضارة التي تملك المال والسلاح والإعلام لا تملك معياراً ثابتاً للحق والباطل، ولا أساساً خلقيًا مستقراً؛ لأنها فصلت الدين عن الحياة، وجعلت الإنسان – بهواه وشهوته ومصلحته – مصدر التشريع والحكم والقيمة. لذلك فإعادة استنساخ أنظمتها في بلاد المسلمين، والارتهان لنخبها ومؤسساتها، هو في حقيقته ارتماءٌ في حضن منظومةٍ ثبت فسادها في عقر دارها. إن الواجب على الأمة، وهي ترى هذا العري الأخلاقي، ألا تُفتن ببريق الشعارات الغربية عن الحرية والشفافية وسيادة القانون، بل أن تعود إلى مبدئها الرباني، وإلى نظامٍ يقوم على تقوى الله، ومحاسبة الحاكم، وصيانة العرض، وحفظ المال والدم والعقل، لا على الصناعات اللامعة لشبكات المال والجنس والابتزاز. فضائح إبستين ليست صفحةً تُطوى، بل مرآةٌ يرى فيها المسلمون طبيعة من يدّعون قيادة البشرية… ليوقنوا أن حمل رسالة الإسلام للعالم ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة لإنقاذ الإنسان من هذا الانحطاط المقنّع.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *