العدد 472 -

السنة التاسعة والثلاثون، جمادى الأولى 1447هـ الموافق تشرين الثاني 2025م

قلبُ المعادلة: حين يتحوّل الشرع إلى عبء، والتفلّتُ منه إلى منهج!

الأستاذ منذر عبد الله

بات لافتًا في السنوات الأخيرة ظهورُ فئةٍ لا همَّ لها سوى تسويغ الانحراف، والبحث عن المخارج التي تبرّر التفلّت من أحكام الشريعة الإسلامية الغراء. هؤلاء باتوا لا يرون حملَ الإسلام وتطبيقَه طريقًا إلى القوة، ولا منهجًا للنهضة، وإنما يرونه عبئًا ثقيلًا يسعون للتخفّف منه بأي وسيلة ممكنة. وهذا يخالف صريحَ القرآن، قال تعالى: (وَلَوۡ أَنَّهُمۡ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِۦ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَشَدَّ تَثۡبِيتٗا).

وإذا دَعَوْتَهم بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم ليطبّقوا الإسلام، قالوا لك: ألا ترى حال البلاد وما تعانيه من تأخّر ومشكلات وفساد وخراب؟ دعنا نصلح الأمور أولًا ونعالج المشكلات، ثم نطبّق الشرع حين تتحسّن ظروف البلد!

وهذا، ولا ريب، منطقٌ أعوج يتوهّم أن المشكلات يمكن أن تُعالَج بشكل صحيح بغير الإسلام، وكأنهم يرون في الإسلام تكليفًا دينيًا غيرَ متضمِّن للحلول والمعالجات! مع أن الإسلام جاء بمعالجاتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ واجتماعيةٍ وأمنيةٍ وعسكريةٍ فعّالة، هي الوحيدة الصالحة للإنسان ومجتمعه، بخلاف الأنظمة الوضعية التي تفاقم مشكلات الناس بدلا من معالجتها.

 بل إن النظام الوضعي نفسه هو الذي أنتج ما تعيشه البلاد من بلاء وفساد وسوء أحوال.

 إن جوهر المشكلة في بلاد المسلمين ليس في من يجلس على كرسي الحكم، بل في النظام نفسه الذي يُطبَّق. فالنظام الرأسمالي القائم اليوم في باكستان ومصر وتركيا وسائر البلاد الإسلامية نظام عاجز بطبيعته عن حل المشكلات، لأنه صُمم أصلًا على أساس جعل المنفعة المادية هي المقياس، وفصل الدين عن الحياة، وترك الاقتصاد لقانون العرض والطلب وجشع السوق.

 لذلك فهو حتى لو طُبِّق تطبيقًا «نموذجيًا» كما في بعض دول الغرب، لا ينتج استقرارًا حقيقيًا، بل يدخل البلاد في دورات متكررة من الركود والبطالة والتضخم وغلاء الأسعار وتركّز الثروة في أيدي قلة قليلة، بينما تتسع دائرة الفقر والديون على مستوى الأفراد والدولة معًا.

أكثر من قرن من التجارب السياسية في بلاد المسلمين أثبتت ذلك بوضوح؛ تبدلت الرؤوس والوجوه والأحزاب؛ عسكرية كانت أو مدنية، إسلامية بالاسم أو علمانية صريحة، لكنهم جميعًا حافظوا على نفس القاعدة: النظام الرأسمالي وقوانينه ومؤسساته وشروطه الدولية.

 فكانت النتيجة واقعًا رديئًا يعاد إنتاجه في كل مرة، مع بعض «الجرعات المسكّنة» من القروض والدعم والبرامج المؤقتة التي تخفف الألم قليلًا ثم سرعان ما تعيد البلاد إلى نقطة الصفر أو إلى ما هو أسوأ.

ويكفي النظر إلى تجربة تركيا في العقود الأخيرة؛ فقد حققت بعضَ مؤشرات النمو مدةً من الزمن، لكنها بقيت أسيرة الديون الخارجية، وتقلبات سعر العملة، وتضخم يلتهم دخول الناس، وعجز مزمن عن التحرر من قبضة المؤسسات المالية الدولية. هذا كله يدل على أن إعادة إنتاج النظام نفسه في بلاد المسلمين لن يقدّم لهم حلًا حقيقيًا، بل سيُبقيهم يدورون في نفس الحلقة المفرغة التي صنعها هذا النظام من الأساس.

إن التشريع الإسلامي معجزٌ في قوته وفاعليته وانسجامه وتماسكه وتكامله، وفي غناه وسعته، وفي قدرته على تفجير طاقات البشر، وبناء شخصياتهم، وإنتاج القادة والمفكرين والأبطال والمجاهدين، ولكنَّ المنافقين لا يعلمون.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يعلو ولا يُعلى».

هذا الانحراف في الرؤية ليس تفصيلًا عابرًا، بل هو قلبٌ للمعادلة من جذورها؛ إذ يتحوّل الشرعُ – الذي هو مصدر العزّة والرفعة – إلى عبءٍ في نظرهم، بينما يصبح الهوى هو الأصل الذي تُقاس عليه الأحكام، ويُعاد تفسيرُ النصوص لخدمته. فبدل أن يبذل المرءُ جهدَه للالتزام، يبذل جهدَه للتهرّب، وبدل أن يبحث عن حكم الله، يبحث عمّا يوافق رغباتِه وعجزَه والوَهنَ الذي يفتك بعزيمته.

إن أخطر ما في هذا المسلك أنّه لا يكتفي بارتكاب المعصية، بل يسعى إلى إلباسها شرعيّةً مصطنعة، فيُفرَغ الشرعُ من محتواه، ويحوَّل إلى قائمةِ استثناءاتٍ لا إلى منهجِ حياة، بل يحاول أن يجعل من الانحراف مدرسةً ومنهجًا، ويفسد بذلك دينَ المسلمين، ولذلك يجب أن يُواجَه هؤلاء الضالّون بقوةٍ حفظًا للدين ومنعًا للفتنة الحالقة.

وهنا نستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الغرباء الذين يحبّهم الله، ويجسّدون المنهج الحق، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «طوبى للغرباء». قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: «الذين يُصلحون إذا فسد الناس». وفي رواية: «يُصلحون ما أفسده الناس».

إن منهجَ هؤلاء الفاسد يجعل الرخصة – التي شُرعت للتيسير عند الحاجة – منهجًا دائمًا، بينما تُهمل العزائم، وهي الأصل في التكليف. هذا، إذا كان فعلهم من قبيل الأخذ بالرخصة، إذ إنه في أغلب الأحيان لا يستند حتى إلى رخصة شرعية، وإنما هو تفلت من الحكم الشرعي.

إن الأمة التي تتعامل مع شرع ربها بهذه الروح لا يمكن أن تنهض؛ فالنهضة لا تصنعها الأهواء، ولا تتحقّق تحت راية التخفّف من الالتزام، ولا بالبحث عن الأسهل، ولا بالعزائم المنكسرة، ولا بمهادنة أعداء الله، بل تقوم حين يُعادُ للشرع مكانُه الطبيعي: مصدرًا للقوة، ودافعًا للعمل، وبوصلةً تهدي ولا تُستبدل.

قال تعالى:

(وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذۡنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ٩٦).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *