العدد 472 -

السنة التاسعة والثلاثون، جمادى الأولى 1447هـ الموافق تشرين الثاني 2025م

الصحابيُّ الجليلُ عُتبةُ بنُ غزوانَ رضيَ اللهُ عنه…

الأستاذُ محمّدٌ مشهورٌ

في ركبِ السّابقينَ الأوّلينَ يسطعُ اسمُ عُتبةَ بنِ غزوانَ رضيَ اللهُ عنه، الرجلِ الذي حملَ مشعلَ الدّعوةِ في أيّامِها الأولى، فذاقَ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مرارةَ الحصارِ في شِعبِ أبي طالبٍ، وشاركَ في لحظاتِ الشِّدّةِ حينَ كان الصّحابةُ يُطارَدونَ في طُرقاتِ مكّةَ ويُعذَّبونَ لِيَثنوهُم عن دينِهم، لكنّه لم يتراجعْ ولم يتردّدْ، بل ظلّ ثابتًا كالطّودِ الشّامخِ.

لقد عاشَ عُتبةُ مرحلةَ الاستضعافِ بكلِّ تفاصيلِها: جوعًا، وخوفًا، وتكذيبًا من قريشٍ، حتّى قال يومًا يَخطُبُ أهلَ البصرةِ مُذكِّرًا: «لقد رأيتُني سابعَ سبعةٍ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ما لنا طعامٌ إلّا ورقُ الشّجرِ…»، في إشارةٍ إلى سنواتِ الجوعِ والحصارِ. كانت أيّامًا سوداءَ في ظاهرِها، لكنّها صنعت رجالًا لا يُقاسونَ بذهبِ الأرضِ كلِّه.

ومضتِ السّنونُ حتّى هاجرَ عُتبةُ إلى المدينةِ، فانتقلَ مع إخوانِه من مرحلةِ الاستضعافِ إلى مرحلةِ التّمكينِ؛ من المطاردةِ في مكّةَ إلى تأسيسِ الدّولةِ في المدينةِ. ثمّ شاركَ في بدرٍ وأُحدٍ والخندقِ وغيرها، يَشهَدُ أنّ النّصرَ ليس هِبةً بلا ثمنٍ، بل هو ثمرةُ الصّبرِ والثّباتِ والجهادِ.

وحينَ اتّسعتِ الفتوحُ، لم يَعُدْ ذاك الشّابُّ المُعذَّبُ في مكّةَ مُطارَدًا، بل أصبحَ قائدًا وجنديًّا في دولةِ الإسلامِ، حتّى ولاّه عمرُ بنُ الخطّابِ على البصرةِ، ليؤسّسَ هناك مدينةً كاملةً تكونُ قاعدةً عسكريّةً وسياسيّةً للدّولةِ الفتيّةِ. لم يُنشِئْ سوقًا للرِّبحِ، بل أنشأ مِصرًا وثكنةً تنطلقُ منها الجيوشُ وتُدارُ منها شؤونُ الدّعوةِ. هكذا فهِمَ أنَّ العُمرانَ أداةٌ لحملِ رسالةٍ، لا غايةً دنيويّةً بحدِّ ذاتِها.

ومع كلِّ هذا، بقي قلبُه زاهدًا خائفًا من فتنةِ الدّنيا. خطبَ في النّاسِ مُحذِّرًا:“أمّا بعدُ فإنّ الدُّنيا قد آذَنَتْ بصُرمٍ وولَّتْ حذّاءَ، وإنّما بقي منها صُبابةٌ كصُبابةِ الإناءِ صبَّها أحدُكم، وإنّكم مُنتقِلونَ منها إلى دارٍ لا زوالَ لها، فانتقِلوا ما بحضرتِكم ـ يُريدُ من الخيرِ ـ، فلقد بلغني أنّ الحجرَ يُلقى من شفيرِ جهنّمَ فما يَبلُغُ لها قعرًا سبعينَ عامًا، وايمُ اللهِ لَتُملأنَّ، أفعجبتُم؟ ولقد ذُكِرَ لي أنّ ما بينَ مِصراعَيِ الجنّةِ مسيرةُ أربعينَ عامًا، وليأتِيَنَّ عليه يومٌ وهو كَظيظٌ من الزّحامِ، ولقد رأيتُني سابعَ سبعةٍ مع رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم ما لنا طعامٌ إلّا ورقُ الشّجرِ حتّى قرِحَتْ منّا أشداقُنا، ولقدِ التقطتُ بُردةً فشققتُها بيني وبينَ سعدٍ، فَاتَّزَرتُ بنصفِها واتَّزرَ سعدٌ بنصفِها، ما منّا أحدٌ اليومَ حيٌّ إلّا أصبحَ أميرًا على مِصرٍ من الأمصارِ، وأعوذُ باللهِ من أن أكونَ عظيمًا في نفسي صغيرًا عندَ اللهِ، وإنّها لم تكنْ نبوّةٌ إلّا تناسختْ حتّى تكونَ عاقبتُها مُلكًا، ستبلونَ الأمراءَ بعدَنا»، مُذكِّرًا أنّ الغايةَ ليست جمعَ المتاعِ، بل نُصرةَ الدّينِ.

وهكذا، انتقلَ عُتبةُ من المطاردةِ في مكّةَ إلى القيادةِ في البصرةِ، ومن الجوعِ في الشِّعبِ إلى إدارةِ بيتِ المالِ، ومن الاستضعافِ إلى التّمكينِ. إنّها قصّةُ رجلٍ جسّدَ سنّةَ اللهِ في الدّعواتِ: صبرٌ وثباتٌ إلى نصرٍ وتمكينٍ.

فهل نتعلّمُ الدّرسَ؟ إنّ طريقَ التّمكينِ اليومَ ليس أقصرَ ممّا سلكَهُ عُتبةُ وإخوانُه، إنّه طريقُ عملٍ وصبرٍ وجهادٍ سياسيٍّ مبدئيٍّ، حتّى يستخلفَ اللهُ الأمّةَ بالخلافةِ الرّاشدةِ على منهاجِ النّبوّةِ.

فكنْ أنتَ عُتبةَ هذا الزّمانِ…

ثابتًا أمامَ المطاردةِ، صابرًا على التّضييقِ، عامِلًا لإقامةِ الدّولةِ، حتّى يجعلَ اللهُ لكَ ولأمّتِكَ مخرجًا، وتعودَ القيادةُ الإسلاميّةُ لتقودَ البشريّةَ كما قادتها يومًا عُتبةُ وإخوانُه.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *