العدد 472 -

السنة التاسعة والثلاثون، جمادى الأولى 1447هـ الموافق تشرين الثاني 2025م

لوازم الفهم السياسي ورسم السياسات – الحلقة السادسة والأخيرة

الأستاذ: لقمان حرزالله

الأحلاف والتكتلات

يلزم بحث الأحلاف والتكتلات للسياسي ولراسم السياسات، وذلك باعتبار أن الأحلاف والتكتلات تتيح المجال للطغيان العسكري والاقتصادي، وتوصل العالم إلى حروب واسعة كالحروب العالمية التي كادت أن تفني البشر. وإن الأحلاف والتكتلات هي من الأساليب التي تتخذها الدول حتى تجمع ما عندها من قوة عسكرية أو اقتصادية، فيكون للحلف أو التكتل وزن أعلى من وزن الدولة المنفردة على الساحة الدولية، وعليه فإن أي عضو في الحلف سيحمل وزن الحلف في جانب اختصاص الحلف لا وزن دولته فحسب، وهذا يجعل تأثير الحلف في العلاقات الدولية واضحاً، وبالتالي تأثير الدول المكونة للحلف، وبالتحديد الدول أو الدولة التي ترسم سياسات الحلف وتقوده.

والحلف هو علاقة تعاقدية بين دولتين أو أكثر، تتفق أطرافه على المساعدة في حالة الاعتداء أو الحرب، وحين نطلق كلمة الحلف نذهب باتجاه الحلف العسكري. ودوافع تشكيل الأحلاف متعددة، وإن كان دافع المصلحة يبرز أكثر من غيره، فقد يظهر دافع عقائدي خلف الحلف مثل الحلف المقدس الذي اتفقت من خلاله روسيا وبروسيا والنمسا عام 1815 على أن تقوم رابطة بين الدول الأوروبية على ما نادى به المسيح، فيكون الموقعون على الحلف مكلفون من الله بالدفاع عن السلام والنظام. وقد يكون حلفا ماديا مصلحيا مثل تحالف الأباطرة الثلاثة في عام 1873، حيث أنشأ أباطرة ألمانيا وروسيا والإمبراطورية النمساوية المجرية حلفا للدفاع المشترك في حال تعرض إحدى هذه الإمبراطوريات للحرب، ومثل حلف شمال الأطلسي وهو حلف للدفاع المشترك أنشئ في عام 1949 للوقوف في وجه الاتحاد السوفياتي الذي قام بدوره بإنشاء حلف وارسو عام 1955.

والتكتل الدولي، هو تعاقد بين مجموعة من الدول على اتخاذ توجهات سياسية أو اقتصادية بشكل مشترك وما يتعلق بها من سياسات. وقد ظهرت في العالم تكتلات سياسية وتكتلات اقتصادية وتكتلات سياسية اقتصادية، فقد انقسم العالم في القرن الماضي إلى كتلتين سياسيتين رئيستين هما الكتلة الشرقية أو المعسكر الشرقي، والكتلة الغربية أو المعسكر الغربي، فاتحدت الكتلة الشرقية حول موقف الاتحاد السوفييتي، واتحدت الكتلة الغربية حول موقف الولايات المتحدة الأمريكية في سبيل الصراع بين الغرب والاتحاد السوفييتي، وكذلك أنشأت كتلة دول عدم الانحياز وكان نواة إنشائها في مؤتمر باندونغ الاندونيسية عام 1955، وقام على إنشائها جواهر لال نهرو وجمال عبد الناصر وجوزيف تيتو، وكانت قد أخذت موقف «الحياد الإيجابي»، وكان واضحاً أن هذه الكتلة كانت تصب في صالح الكتلة الغربية إبان صراعها مع الاتحاد السوفييتي. ومن التكتلات الاقتصادية السياسية المجموعة الاقتصادية الأوروبية التي أنشأت كثمرة لمؤتمر روما عام 1957، وكان الهدف منها تحقيق تكامل اقتصادي من خلال إنشاء سوق مشتركة أوروبية واتحاد جمركي بين الدول الست الأعضاء بلجيكا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا الغربية ولوكسمبورغ وهولندا. ومن ثم تم إنشاء الاتحاد الأوروبي عقب اتفاقية ماستريخت عام 1991، فوحدت عملة الاتحاد الأوروبي مع احتفاظ بعض دوله بعملتها الأساسية، وإنه وأن كان للاتحاد الأوروبي أدوار سياسية إلا أن الأبرز فيه هو الجانب الاقتصادي، حيث أن السياسة النقدية تم توحيدها فيه، ولم يتم توحيد السياسية الضريبية، وبالتالي هو اتحاد سياسي اقتصادي يبرز فيه الجانب الاقتصادي. ومن أهم التكتلات السياسية الاقتصادية مجموعة السبع التي أنشأت عام 1973 من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان وكندا، وكان هدف إنشاء المجموعة مناقشة وتنسيق الموقف من القضايا الكبرى في مجالات الأمن والتجارة والاقتصاد والتغير المناخي. ومثال التكتل الاقتصادي مجموعة بريك التي انطلقت بعد مجموعة من الاجتماعات الدبلوماسية التي توجها اجتماع في مدينة ايكاترنبيرج في روسيا عام 2008، وقد تشكلت المجموعة من البرازيل وروسيا والهند والصين، ثم اتسعت المجموعة لتنضم إليها جنوب إفريقيا عام 2010، فأصبح اسمها بريكس، حيث طرحت أن إنشاء المجموعة جاء في إطار إيقاف أحادية القطبية (المالية) في العالم واشتغلت على إنشاء هيكل مالي جديد، فأنشات بنك التنمية الجديد ومقره شنغهاي، وتم عمل ترتيبات احتياطي الطوارئ للحماية ضد ضغوط السيولة العالمية، وبدأت دول بريكس مناقشات عام 2015 لإنشاء نظام دفع بديل عن نظام سويفت، لضمان الاستقلالية عن الغرب في نظام الدفع.

ويلحق بالأحلاف والتكتلات، المؤتمرات والمنتديات، وقد عرجنا على المؤتمرات الدولية في الأمثلة التي بحثت في موضوع القانون الدولي والموقف الدولي وفي هذا الباب، حيث كانت المؤتمرات الدولية مؤسساً للأحلاف والقانون الدولي ورسم السياسات المشتركة، ومن أبرز المؤتمرات مؤتمر بريتون وودز عام 1944 حيث أسس للدولار ليكون العملة الرئيسة في العالم، ومؤتمر ويستفاليا عام 1648 الذي أسس لموقف أوروبي ضد الدولة الإسلامية. أما المنتديات فإنها تكون مكاناً لتجمع الزعماء السياسيين والاقتصاديين والمفكرين وذلك لبحث ومناقشة كبرى القضايا في العالم، ومن أبرز المنتديات العالمية المنتدى الاقتصادي العالمي المنعقد سنوياً في منتجع دافوس، ويجمع المنتدى أبرز الرأسماليين في العالم وكبريات الشركات والمفكرين والسياسيين، وتناقش فيه أبرز التوجهات المتعلقة بالقضايا الكبرى في العالم.

والأحلاف والتكتلات خطرة، فهي تدخل العالم في بوتقة الحروب الكبرى، وإن الأحلاف العسكرية هي التي أدخلت العالم في حربين كبريين راح ضحيتهما عشرات الملايين من الناس، فإن بريطانيا التي أشعلت الحربين العالميتين لم يكن بمقدورها خوضهما وحدها، فحلفت الأحلاف لأجل ذلك، فأهلكت الحرث والنسل، وإن راسمي السياسات لا بد لهم من إيجاد رأي عام عالمي ضد فكرة الأحلاف، حتى تمنع الحروب الكبرى التي تهلك البشر، وساعتئذ فلا مشكلة في الحروب الصغرى بين أي دولتين في تحقيق سيادة أي منهما أو تحقيق أية مصلحة، حيث يبقى أثر الحرب الصغرى محدوداً من حيث الخسائر البشرية.

كما إن السياسي لا يصح له أن يغفل عن التكتلات والمنتديات واجتماعاتها، فإنها اجتماعات مهمة يتم من خلالها مناقشة الكثير من القضايا العالمية؛ الاقتصادية والسياسية، ويقوم زعماء دول العالم المؤثرة ليبثوا وجهة نظرهم في تلك القضايا، وهذا يلفت نظر المتتبع إلى ربط الأحداث المتعلقة بقضية معينة مع وجهة نظر الدول المؤثرة حول القضية المعينة، وهذا يجعل المتتبع لا ينجرف مع تفاصيل الأحداث تجاه أفهام جزئية لا علاقة لها بالصورة الكلية.

الوعي السياسي

إنه لا يكفي أن يحذق العامل على النهضة التحليل السياسي، فإن التحليل ليس هدفاً لذاته، وإذا اقْتُصِر عليه فإن العامل على النهضة لا يمكن أن يحقق أهدافه ولا أن يستفيد من فهمه السياسي، فيبقى محللاً سياسياً نظرياً لا أثر له في النهضة. وحتى يستطيع العامل على النهضة أن ينهض بأمته لا بد أن يكون واعياً سياسياً. وليس الوعي السياسي هو نفسه الوعي على الموقف الدولي والوعي على الأحداث، فالوعي السياسي يعني الوعي على رعاية الشؤون، أي هو تدبر الإنسان لرعاية شؤونه، وبالتالي هو النظر إلى العالم من زاوية خاصة.

والرابط بين تدبر الإنسان لرعاية شؤون نفسه والنظر إلى العالم من زاوية خاصة هو أن الإنسان حين يرعى شؤون نفسه لا بد من أن ينظر فيمن له تأثير عليه، ويدرك مدى تأثيرهم عليه، ويدرك أساليبهم في التأثير عليه، والخطر الآتي من أولئك الذين يؤثرون عليه وبالتالي يستطيع أن يتخذ إجراءات ويرسم سياسات يتقي بها الخطر، ويفوت الفرصة على من يطلبون التأثير به، بل يذهب باتجاه التأثير على غيره.

والزاوية الخاصة التي ينظر من خلالها إلى العالم يمكن أن تكون عبارة عن مجموعة من القيم أو القواعد، ويمكن أن تكون مبدأ، فإذا انطلق في نظرته إلى العالم من خلال القومية أو الوطنية كان وعيه على العالم ضيقاً، وإذا انطلق في نظرته للعالم من قيم المساواة الإنسانية أو العيش المشترك كان خيالياً، وأحياناً ينطلق في نظرته من زاوية مبنية على فكرة معينة أو هدف معين، فتكون أعماله كلها مبنية على الزاوية التي اتخذها. وإذا انطلق في نظرته للعالم من مبدأ كان وعيه السياسي ثابتاً، واضح الغاية، مرتبط الأساليب بالغاية التي يقصدها.

والزاوية الخاصة الذي ينظر من خلالها المسلم للعالم هي زاوية العقيدة الإسلامية. فحين ينظر المسلم إلى الحكام العرب وهم ينسجون العلاقات مع أمريكا على أساس من التبعية، فإنه يرى ذلك فتقاً في الأمة وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قال: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ عَلَيۡكُمۡ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينًا١٤٤) [النساء، 144]، وحين ينظر إلى المسلمين إذا دهمهم خطب نادوا الأمم المتحدة وطلبوا النصر من إحدى قوى الكفر، فإنه يرى ذلك جرماً موصلا إلى الخسران، وذلك لقول الله سبحانه وتعالى: (فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ يُسَٰرِعُونَ فِيهِمۡ يَقُولُونَ نَخۡشَىٰٓ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٞۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأۡتِيَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرٖ مِّنۡ عِندِهِۦ فَيُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ نَٰدِمِينَ٥٢) [المائدة،52]، وهكذا.

والزاوية الخاصة التي ينظر منها المسلم تدفعه إلى العمل بناء عليها، فإذا رأى أمريكا قد اشتغلت لصياغة حل لقضية فلسطين بناء على رؤيتها للحل، من خلال إقامة كيان فلسطيني بجانب دولة ليهود، فلا بد له من الكفاح ضد هذا المشروع، ويتخذ في سبيل ذلك ما يناسب من أسلوب، كنشر رأي عام بين الناس ضد المشروع، أو الخروج في مظاهرات، أو توزيع بيانات، أو إلصاق ملصقات، أو دفع الناس إلى توقيع عرائض ضده، أو التواصل مع أهل القوة وتبصيرهم بالمشروع وخطره وأن بيدهم الحل لو أرادوا وعزموا وتوكلوا على الله.

والزاوية الخاصة التي ينظر منها المسلم العامل على النهضة تدفعه إلى التأثير بأمته ابتداءً، لتتخذ مبدأه مبدأها، فتنعتق من ربقة الكافر المستعمر، فتقيم لها دولة راسخة الأركان عظيمة البنيان، تؤثر في العالم فتحمل الإسلام نظام هداية ونوراً للعالم.

والزاوية الخاصة التي ينظر منها المسلم في دولته تجعله يبصر مكائد الكافرين، فيشن حرباً هنا ويعاهد هناك، ولا يقاتل إلا في سبيل الله، ولا تدفعه قلة ذات اليد إلى التحول إلى النظرة الاستعمارية لتحصيل الثروات أو مخالفة الحكم الشرعي، وقد قال الله سبحانه وتعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ فَلَا يَقۡرَبُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَٰذَاۚ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ عَيۡلَةٗ فَسَوۡفَ يُغۡنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦٓ إِن شَآءَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ٢٨) [التوبة، 28]، وفي المقابل تجعله يضع العالم كله أمامه، ويرسم السياسات التي تسهل عليه فتحه للبلدان لحكمها بالإسلام، فيرسل التجار هنا يحملون رسالة الإسلام معهم، ويوجه الإعلام هناك حاملاً رسالة الإسلام، ويدعم جماعات مسلمة في دولة حربية ليشغلها بنفسها، ويرسل جيشه هناك ليتم الفتح.

ولذلك فإن الاقتصار على النظر إلى المجال المحلي حتى لو كان من خلال زاوية خاصة لا يعتبر وعياً سياسياً، بل هو إخفاق على صعيد الوعي السياسي، وهو إخفاق على صعيد العمل للنهضة، حيث أن العامل لنهضة أمته لا بد أن ينظر في الأمم والدول التي تؤثر في أمته، وينطلق في نظرته هذه من زاوية خاصة.

وإنه لا يكفي أن يوجد أفراد في الأمة لديهم وعي سياسي، لأن هذا لا يقي الأمة مكائد أعدائها مهما كثر عدد الواعين فيها، بل لا بد أن يبذل الوسع لتصبح الأمة بمجموعها كأمة واعية سياسياً، وإن كان لا يتأتى أن يحصل في كل فرد من أفرادها.

وإنه لا بد من التحذير الشديد من أن ينجرف الواعي اتجاه عاطفته في فهمه للسياسة والموقف الدولي ومن ثم ما يترتب عليه من أعمال، فإن الانجراف باتجاه العاطفة أو الأحكام المسبقة أو التحيز في الفهم لميل ذاتي أو حزبي أو مبدئي يعرض الفهم للضلال، وبالتالي فإنه يعرض الأعمال التي تترتب على هذا الفهم إلى العبثية.

رسم السياسات

إن الواعي سياسيا لا بد له من أن يتخذ خططاً وأساليب ليصل من خلالها إلى الهدف الذي رآه من خلال زاويته الخاصة، وإذا كان هذا الواعي سياسياً هو ممن يرعى شؤون المسلمين ويدير الدفة في دولة الإسلام فإن رسم السياسات – من حيث الأهداف والأسباب الموصلة للأهداف والأساليب المتخذة للوصول للأهداف من خلال أسبابها – أمر لازم ومهم. وإن العالم بعد كل هذا التقدم والعولمة أصبح من العسير فيه ارتجال السياسة الموصلة إلى الهدف ارتجالاً، بل من الخطير ارتجالها، فأصبح رسم السياسات فناً لا بد من الوقوف على مداخله.

وإن رسم السياسات تنطبق عليه القاعدة السببية، فإن السياسات ترسم لتحقق الأهداف، ولا بد لتحقيق الأهداف من أن يبلور الهدف ابتداء، فيكون جلياً واضح المعالم، وليس عنواناً عاماً فقط، فإذا تمت بلورة الهدف ينظر في الأسباب التي توصل إليه، وحين تبلور الأسباب بشكل واضح يتم النظر في الأساليب الموصلة إلى هذه الأهداف انطلاقاً من أسبابها، ثم لا بد من ملاحظة الهدف حين تطبيق الأساليب حتى الوصول إليه.

وإن الهدف متى ما استقر في الذهن يتخذ حياله إجراء، وإن الإجراء يكون على مستوى الهدف، وعلى مستوى العامل للهدف؛ فالإنسان حيث هو سياسي يضع هدفاً لنفسه كأن يُحَصل رزقاً، ثم يتخذ لذلك أسباباً، فتكون الأسباب بحجم الهدف وحجم العامل للهدف، فقوم يقتصرون في التفكير بالرزق على تحصيل القوت، وقوم لا يضعون وصفاً للرزق بل يعملون لما يتيسر، وقوم يطلبون الغنى، فترى الذي يعمل لما يتيسر يطرق أبواباً أقل من ذلك الذي يطلب الغنى من حيث نوعها. والجماعات كذلك تصوغ أهدافها، فمنها من يقتصر هدفها على المشاركة في الواقع الحالّ، ومنها من يطلب تغيير الحال إلى حال غيره، فيتخذ كل منها إجراء بحجم هدفه. وإن العامل على تحقيق الهدف إذا رأى نفسه لا يطيق تحقيق هدفه الذي يريده، يسعى ليرفع من إمكانياته حتى تتوازى مع هدفه.

وإن الأحزاب العالمية والدول تعمق النظر حين تنظر في رسم السياسات أكثر من الأفراد أو الجماعات محدودة النظر، وذلك أمر بدهي، وسببه أن الفرد إذا اتخذ أسلوباً لهدف مرصود، ووجد أسلوبه غير نافع أشاح بنظره عن الأسلوب إلى غيره، ولم تكلفه إشاحة النظر هذه الكثير، أما الأحزاب العالمية والدول حين تتخذ إجراء على مستوى الحزب أو الدولة ثم تجد إجراءها غير صحيح، فإن تحولها إلى إجراء غيره يأخذ وقتاً، وذلك كحاملة الطائرات التي تكون في عرض البحر، فإنها إذا اتخذت اتجاهاً خطأً لا يوصل إلى هدفها، يضطر ربانها إلى إدارة الدفة بالاتجاه الصحيح، ولكن هذا التغيير سيكلفه عشرات الأميال البحرية حتى تستقيم له سفينته، لضخامته وقوة زخمها.

ولهذا فإن الدولة ترسم خططاً واستراتيجيات، وتتخذ أساليب. والخطط والاستراتيجيات ترسم لتحقيق هدف كبير يحتاج لتحقيقه مراحل من الأهداف الجزئية ويحتاج كذلك وقتاً، أما الأساليب فإنها تتخذ ضمن الخطط والاستراتيجيات. وإن راسم الخطط والاستراتيجيات يرسمها كعناوين عريضة، ثم حين يذهب إلى التنفيذ يرسم الأساليب التي تناسب تحقيق الهدف في الظرف الموجود. وقد اشتهر على دول مثل أمريكا أنها تجعل لها خططاً وتوجهات لكل عشر سنين، فمنذ سنة 2000 إلى 2010 كانت منشغلة بنزولها إلى الشرق الأوسط بنفسها وبسط سيطرتها ونفوذها فيه، فخاضت حرب أفغانستان وحرب العراق وفتحت ملف القضية الفلسطينية. ولما دخلت سنة 2010 ودخلت الثورات في بلاد المسلين اشتغلت على إخمادها وحرف اتجاهاتها عشر سنين، ولما دخلت سنة 2020 وجهت أنظارها باتجاه الصين. فالخطط حين ترسم لا يتم تغييرها، أما الأساليب فإنها تتغير حسب ما يناسب الواقع والظرف.

إن رسم السياسات عند الكفار غير محدود بقيود مبدئية أو أخلاقية، بعد أن أضحى الاستعمار أبرز من المبدأ في الأعمال السياسية عندهم. وفي المقابل فإن رسم السياسات عند المسلمين مقيد بقيود؛ أولها أن تكون الأهداف والسياسات مبنية على الأحكام الشرعية، ولذلك لا بد لراسم السياسات من أن يطلع على الفقه المتعلق بما يرسمه. والقيد الثاني هو الحفاظ على الدولة وكيانها والأمة وعقيدتها من كل خطر يحدق بها. والقيد الثالث هو تأمين ثقة المسلمين ورضاهم. ومثال ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عاهد قريشاً في صلح الحديبية، ولم ينقض معها الصلح حتى هي نقضته، وقد وضع نصب عينيه حرب خيبر حين عقد الصلح، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستقبل أبا جندل بن سهيل بن عمرو ولا أبا بصير في المدينة بعد أن عقد الصلح، وذلك التزاماً بالأحكام الشرعية المتعلقة بالصلح، والنبي صلى الله عليه وسلم يوحى إليه وأمره وفعله وقوله تشريع لأمته. وأما القيد الثاني، فإن أبا بكر رضي الله عنه لما رأى أن حركة الردة ليست مجرد اعتراض على دفع الزكاة، بل هي تهديد لكيان الدولة، أخذ قراراً حازماً بأن يستأصل هذه الحركة من جذورها، ولما ناقشه الصحابة في ذلك، لم يأخذ بقول أحد منهم، بل اشتد عليهم في رده حتى أمضى رأيه في الحفاظ على كيان الدولة، وهذا ما قد كان. والقيد الثالث، فإن الحاكم إذا قال للناس كل ما عنده أرضاهم أم أسخطهم كان ساذجاً، بل يُعرِّض في الكلام إذا احتاج ذلك حتى يؤمن ثقتهم ورضاهم، ويتخذ من السياسات التي لا تؤلب جماعة المسلمين على حاكمهم، ومن ذلك ما أورده الطبري في تفسيره لسورة المنافقين قوله (وقال ابن أُبي أيضاً: أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ لقد قلت لكم: لا تنفقوا عليهم، لو تركتموهم ما وجدوا ما يأكلون، ويخرجوا ويهربوا. فأتى عمر بن الخطاب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ألا تسمع ما يقول ابن أُبي؟ قال: «وما ذاك؟» فأخبره وقال: دعني أضرب عنقه يا رسول الله, قال: «إذا تَرْعَدُ لَهُ آنُفٌ كَثِيرَةٌ بِيَثْرِب»)، وما ذكره قتادة عن هذه الحادثة (أن عبد الله بن عبد الله بن أبي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه ، فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه ، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبر بوالده مني ، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله ، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله ، فأقتل مؤمناً بكافر ، فأدخل النار; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا» وجعل بعد ذلك اليوم إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ، ويأخذونه ويعنفونه ويتوعدونه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك عنهم من شأنهم : «كيف ترى يا عمر، أما والله لو قتلته يوم أمرتني بقتله لأرعدت له آنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته» قال: فقال عمر: قد والله علمت، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري).

 وإن النبي صلى الله عليه وسلم قد استرضى جماعة الأنصار حين وجدوا عليه في تقسيم الغنائم على حديثي الإسلام، ولم يعطهم منها شيئاً، فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فقال: (لما أعطَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ما أعطي من تلك العطايا في قريشٍ وقبائلِ العربِ ولم يكنْ في الأنصارِ منها شيءٌ وجد هذا الحيُّ من الأنصارِ في أنفسِهم حتى كثُرَت فيهم القالةُ حتى قال قائلُهم لقِيَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قومَه فدخل عليه سعدُ بنُ عبادةَ فقال: يا رسولَ اللهِ إن هذا الحيَّ من الأنصارِ وجدوا عليك في أنفسِهم لما صنعتَ في هذا الفيءِ الذي أصبتَ قسمتَ في قومِك وأعطيت عطايا عظامًا في قبائلِ العربِ ولم يكنْ في هذا الحيِّ من الأنصارِ شيءٌ.

قال: «فأينَ أنتَ من ذلك يا سعدُ» قال يا رسولَ اللهِ ما أنا إلا امرُؤٌ من قومي وما أنا من ذلك قال: «فاجمعْ لي قومَك في هذه الحظيرةِ» قال فجاء رجلٌ من المهاجرين فتركهم وجاء آخرونَ فرَدَّهم فلما اجتمعوا أتاه سعدٌ فقال قد اجتمع لك هذا الحيُّ من الأنصارِ قال فأتاهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فحمِدَ اللهَ وأثنَى عليه بالذي هو له أهلٌ ثم قال: «يا معشرَ الأنصارِ ما قالةٌ بلغتني عنكم ووجدةٌ وجدتموها في أنفسِكم ألم تكونوا ضُلَّالًا فهداكمُ اللهُ بي وعالةً فأغناكم اللهُ وأعداءً فألَّف بينَ قلوبِكم قالوا بل اللهُ ورسولُه أَمَنُّ وأفضلُ قال ألا تجيبوني يا معشرَ الأنصارِ» قالوا وبماذا نجيبُك يا رسولَ اللهِ؟ وللهِ ولرسولِه المنُّ والفضلُ.

 قال: «أما واللهِ لو شئتم لقلتم فلصدَقتم ولصدقتم: أتيتنا مُكذَّبًا فصدقناك ومخذولًا فنصرناك وطريدًا فآويناك وعائلًا فواسيناك، أوجَدْتُم في أنفسِكم يا معشرَ الأنصارِ في لعاعةٍ من الدنيا تألفتُ قومًا ليُسلِموا ووكَلتُكم إلى إسلامِكم؟ ألا ترضونَ يا معشرَ الأنصارِ أن يذهبَ الناسُ بالشاةِ والبعيرِ وترجعون برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في رحالِكم؟ فوالذي نفسُ محمدٍ بيدِه إنه لولا الهجرةُ لكنتُ امرَأً من الأنصارِ ولو سلك الناسُ شعبًا لسلكتُ شعبَ الأنصارِ اللهمَّ ارحمِ الأنصارَ وأبناءَ الأنصارِ وأبناءَ أبناءِ الأنصارِ» قال فبكَى القومُ حتى أخضَلوا لحاهم وقالوا رضينا برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قسمًا وحظًّا ثم انصرف رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وتفرَّقوا) [مجمع الزوائد، الهيثمي]

ولا بد من ملاحظة أن الأحوال السياسية أحوال متقلبة، بتقلب الأوضاع وتقلب الفاعلين وتقلب الظروف، فلا يصلح أن تتخذ نفس السياسة دائماً لتحقيق الهدف الواحد، فإن الأسلوب لا يتخذ لذاته، بل لإمكانية استخدامه في الوصول إلى الهدف.

فإذا قامت دولة الإسلام في بلد من بلاد المسلمين، ووضعت نصب عينيها التوسع في بلد مجاور لها، فإنه ينظر في البلد المجاور، فإن كان البلد المجاور يصعب أن يكون الرأي العام فيه للإسلام، وإمكانية جعله شوكة في خاصرة الدولة إذا ضمته عالية؛ لكثرة ما فيه من الجماعات التي بنيت على عين الغرب، فإن الدولة تتخذ معه سياسة النفس الطويل في دعم المسلمين فيه وإمدادهم وخلخلة وضع البلد ضد حاكميه الفاسدين وإيجاد رأي عام لقبول حكم دولة الإسلام له، ثم تتوسع فيه دولة الإسلام. أما إن كان التوسع في بلد يحب أهله الإسلام ويحبون دولة الإسلام فإنه لا يأخذ نفس الاعتبارات بل ربما يذهب باتجاه التوسع المباشر.

وإن راسم السياسات ومنفذها لا بد له من الإرادة والقدرة على الاحتمال وطول النفس، والتحكم بالعواطف، بل قذفها بعيداً حين العمل، واستحضار الجو الإيماني، والعزيمة على الرشد والتوكل على الله، والصبر، فإن الله مع الصابرين، وإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، والله هو مولى المؤمنين، نعم المولى ونعم النصير.

والحمد لله رب العالمين.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *