الخلافةُ: البديلُ الإستراتيجيُّ لمواجهةِ هندسةِ الهيمنةِ الأمريكيةِ
7 ساعات مضت
المقالات
58 زيارة
د. محمّد الجيلاني
مقدّمة: حينَ يتعبُ العالمُ من الفوضى
يقفُ العالمُ اليومَ أمامَ مشهدٍ عالميٍّ يزدادُ اضطرابًا، تتهاوى فيه شعاراتُ الغربِ عن الحرّيّةِ والعدالةِ، وتتحوّلُ الديمقراطيّةُ إلى غطاءٍ لهيمنةٍ اقتصاديّةٍ وعسكريّةٍ، ويرزحُ العالمُ بأسره أسيرًا لقيودِ العولمةِ التي حلّت محلَّ كثيرٍ من القواعدِ العسكريّةِ. هذا التصدّعُ لا يقتصرُ على أزمةٍ اقتصاديّةٍ أو صراعٍ عسكريٍّ عابرٍ، بل يمثّلُ تَداعِيًا أخلاقيًّا وفكريًّا وحضاريًّا لنظامٍ دوليٍّ استنفدَ مخزونَه من المعنى. وأمامَ هذا الوضعِ المريرِ في العالمِ تبرزُ الحاجةُ إلى رؤيةٍ جديدةٍ تمزج المادّة بالرّوحِ، وتضبط السيادةِ بالقِيَمِ، وتستطيعُ أن تُقدِّمَ حلًّا عادِلًا لأزمةِ الإنسانيّةِ الشاملةِ.
وبعدَ دراسةٍ مستفيضةٍ، وتفكيرٍ عميقٍ مستنير بحقائقَ تاريخيّةٍ تمّ تضمينُها في كتابِ:
The Middle East Paradigm، أي إشكاليّةُ الشرقِ الأوسط، تبيَّن أنّ الخلافةَ الإسلاميّةَ ليست ماضيًا وتاريخًا مضى، بل هي مشروعٌ إستراتيجيٌّ واقعيٌّ يمكن أن يُشكِّل البديلَ الأصيلَ لهندسةِ الهيمنةِ التي قادتها واشنطن لعقودٍ. لقد أثبتتِ التجاربُ على أرضِ الواقعِ فشلَ النماذجِ المستوردةِ، كالقوميّةِ والعَلمانيّةِ والليبراليّةِ، في تحقيقِ الاستقلالِ الحقيقيِّ والنهضةِ، ليس في الشرقِ الأوسطِ فحسب، بل في معظمِ مناطقِ العالمِ، ما تركَ الأمّةَ الإسلاميّةَ حتّى اليوم بلا مشروعٍ جامعٍ، فغدتْ أرضًا خصبةً للتجاربِ الخارجيّةِ بدلًا من أن تكونَ فاعلًا في صياغةِ التاريخِ.
وبالتالي فإنَّ جوهرَ الأزمةِ هو أنَّ الأمّةَ الإسلاميّةَ اليومَ بقيتْ بلا مشروعٍ جامعٍ. لقد أصبحتِ المنطقةُ «مفترقَ طُرُقٍ إستراتيجيًّا للإمبراطورياتِ»، يُتداوَلُ فيها النفوذُ والسيطرةُ دونَ وجودِ إرادةٍ ذاتيّةٍ قادرةٍ على صياغةِ التاريخِ بدلًا من أن تكونَ مادّةً له. إنَّ غيابَ المشروعِ السياديِّ القائمِ على قِيَمٍ عُليا هو ما تركَ فراغًا أخلاقيًّا وسياسيًّا استغلّتْه قوى الهيمنةِ عبرَ نموذجِ «الاستقرارِ الجيوسياسيِّ للشرقِ الأوسطِ».
الجذورُ التاريخيّةُ للهيمنةِ الأمريكيّةِ: من الإمبراطوريّةِ إلى الهيمنةِ:
لقد شهدتْ منطقةُ الشرقِ الأوسطِ تحوّلًا جيوسياسيًّا عميقًا منذ بدايةِ القرنِ العشرين، تجسّد في انهيارِ النظامِ الإسلاميِّ المتمثّلِ بدولةِ الخلافةِ الإسلاميّةِ التي استمرّتْ لأكثرَ من أربعةَ عشرَ قرنًا، والتي أدّى انهيارُها إلى تقسيمِ العالمِ الإسلاميِّ إلى كِياناتٍ هزيلةٍ تقاسمتْها دولٌ أوروبيّةٌ مختلفةٌ كبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها. ثمّ تَبِع ذلك إحلالٌ تدريجيٌّ ومنهجيّ للهيمنةِ الأمريكيّةِ التي حلّت محلَّ الإمبراطورياتِ الأوروبيّةِ.
لقد عملتْ أمريكا، في أعقابِ الحربِ العالميّةِ الثانيةِ، على بلورةِ رؤيةٍ عالميّةٍ تقومُ على مَلءِ الفراغِ الذي خلّفه ضعفُ الإمبراطورياتِ وانهيارُها، والتحصينِ ضدَّ المدِّ الشيوعيِّ في سياقِ الحربِ الباردةِ. وكان الهدفُ من تلك الرؤيةِ ليس مجرّدَ الاستحواذِ على النفوذِ، بل صياغةَ نموذجٍ جديدٍ للهيمنةِ يختلفُ عن الاستعمارِ التقليديِّ.
هذا التحوّلُ تجسّد بوضوحٍ في مصر، التي كانت حجرَ الزاويةِ للهيمنةِ الأمريكيّةِ في المنطقةِ؛ حيثُ حلّتْ محلَّ النفوذِ البريطانيِّ الذي فشلَ في إعادةِ نفوذِه بعد حربِ السويسِ عامَ 1956. نجحتِ الولاياتُ المتحدةُ في إزاحةِ القوى التقليديّةِ واحدةً بعد أخرى من مصر إلى إيران ثمّ العراقِ والسعوديةِ وسوريا، وتثبيتِ نفسِها ضامنًا أمنيًّا وماليٍّا ومهيمنًا على الأنظمةِ الإقليميّةِ، سعيًا منها لإعادةِ رسمِ الخريطةِ الجغرافيّةِ والسياسيّةِ للمنطقةِ والحيلولةِ دونَ عودةِ نظامٍ قائمٍ على مبدأ الإسلامِ في المنطقةِ. إذْ إنّ أمريكا كانت تُدركُ تمامَ الإدراكِ أنَّ ما يُهدِّدُ هيمنتَها على الشرقِ الأوسطِ، بل وعلى مركزِها على مستوى العالمِ، هو نظامٌ مبدئيٌّ تحمله أمّةٌ تؤمنُ به، ويُقدِّمُ للعالَمِ مشروعًا بديلًا من رأسماليّةِ أمريكا وعولمتِها واستعمارِها الجديدِ.
لم يكنْ تدخّلُ أمريكا عشوائيًّا فرضتْه ظروفُ ما بعدَ الحربِ العالميّةِ الثانيةِ، بل كان إستراتيجيّةً منهجيةً تهدفُ إلى فرضِ هيمنةٍ أمريكيّةٍ كاملةٍ على أهمِّ إقليمٍ عالميٍّ، تلك الإستراتيجيةُ التي وُضِع أساسُها منذ عهدِ الرئيسِ الأمريكيِّ ترومان (1949–1953)، وأفصحَ عن بعضِ معالمِها وزيرُ خارجيّتِه «دين أتشِيسون» في كتابِه:«Present at the Creation: My Years in the State Department» (حاضرٌ منذ البداية: مذكّراتي في وزارةِ الخارجيّة)، حيث قال: «إنّ هدفَنا لا يكمنُ فقط في استبدالِ دورِ بريطانيا وفرنسا الاستعماريِّ، بل في خلقِ نظامٍ إقليميٍّ جديدٍ بأدواتٍ مختلفةٍ»، ما يعني هيمنةً لا تقلُّ عن هيمنةِ الاستعمارِ السابقِ ولكن بحُلّةٍ جديدةٍ.
وأهمُّ أهدافِ تلك الإستراتيجيّةِ – والتي لا تزالُ قائمةً – هو ضمانُ تدفّقِ الثرواتِ المعدنيّةِ بما فيها النفطُ والغازُ، وضمانُ أمنِ الممرّاتِ المائيّةِ وعملِها، وضمانُ «الاستقرارِ السياسيِّ» للحيلولةِ دون ظهورِ نظامٍ يهدّدُ الأمنَ والوضعَ العالميَّ. وإنْ كان ظاهرُ الأمرِ في بدايةِ رسمِ هذه الإستراتيجيّةِ يوحي بأنّها موجّهةٌ لمنعِ الاتحادِ السوفياتيِّ آنذاك من السيطرةِ على الشرقِ الأوسطِ، إلّا أنّها في حقيقتِها إستراتيجيّةٌ استمرّتْ حتى بعدَ انهيارِ الاتحادِ السوفياتيِّ. وليس في المنطقةِ الآن أيُّ نظامٍ سياسيٍّ يمكنُ أن يهدّدَ مصالحَ أمريكا على المستوى الإقليميِّ والدوليِّ إلّا نظامٌ واحدٌ، وهو نظامُ الإسلامِ المتمثَّلُ بدولةِ خلافةٍ إسلاميّةٍ مرتقبة. وقد أفصحَ عن ذلك رَتْلٌ من زعماءِ أمريكا أمثال جورج بوش، ورَمْسفيلد، وديك تشيني، وكثير غيرِهم.
ومن ذلك تصريحُ وزيرِ الدفاعِ في عهدِ جورج بوش الابن، دونالد رامسفيلد، حيث قال: «نحن نواجهُ عدوًّا شرسًا؛ فالإسلاميّون الراديكاليّون موجودون، وهم يعتزمون محاولةَ إنشاءِ خلافةٍ في هذا العالمِ وتغييرَ طبيعةِ الدولِ القوميّةِ جوهريًّا، ونحن متردّدون في الانخراطِ في المنافسةِ الفكريّةِ وتوضيحِ حقيقتِهم ومدى وحشيّتِهم» (دونالد رامسفيلد، 2011).
وقد كشفتِ الدراساتُ الحديثةُ – خاصّةً تلك الصادرةُ عن مجلسِ الشؤونِ الخارجيّةِ ومعاهدِ البحثِ الإستراتيجيّةِ – أنّ أمريكا تعملُ على إيجادِ أدواتٍ محلّيّةٍ من نفسِ منظومةِ الشرقِ الأوسطِ لتقومَ – تحتَ إدارةٍ أمريكيّةٍ – بالعملِ على الحفاظِ على أمنِ الشرقِ الأوسطِ واستقراره الجغرافيِّ السياسيِّ والفكريِّ، كما ورد عن معهدِ بروكنغز سنةَ 2018، الذي رجّح أنْ تُوكَلَ هذه المهمّةُ لتركيا وإيران و«الكيانِ اليهوديِّ» والسعوديةِ بإشرافٍ وضمانٍ من قبلِ أمريكا وروسيا، وهو ما اصطلحَ عليه بنموذجِ (4+2) (انظر العدد رقم 471 من مجلّةِ الوعي، مقال: «نموذجُ الشرقِ الأوسطِ الجديد: الهيمنةُ الأمريكيّةُ أم الإسلامُ وخلافتُه؟»).
وقد خطتْ أمريكا خطواتٍ واسعةً نحو تحقيقِ هذه الإستراتيجيّةِ بعد أنْ تمكّنتْ من إيجادِ نفوذٍ كاملٍ أو جزئيٍّ في كلٍّ من مصر وإيران والعراق وسوريا والسعودية والسودان، إضافةً إلى ما يُشبه الاحتلالَ العسكريَّ من خلالِ قواعدَ عسكريّةٍ في الخليجِ العربيِّ والأردنِ.
لا شكَّ أنّ الغايةَ الأساسيّةَ من نموذجِ «الاستقرار» هذا ليست تحقيقَ استقرارٍ وازدهارٍ للإقليمِ، وإنّما غايته إدارةُ الاستقرارِ على وجهٍ يمنعُ التغيّرَ الجغرافيَّ الذي تُجرى صناعتُه ورسمُه، ويحولُ دونَ تغيّرِ الأنظمةِ السياسيّةِ؛ لتمنعَ ظهورَ أيِّ كيانٍ موحِّدٍ أو مشروعٍ نهضويٍّ مستقلٍّ في المنطقةِ. لذلك يتمُّ الحفاظُ على توازنِ قوى بينَ الأعمدةِ الأربعةِ يضمنُ عدمَ تفوّقِ أيِّ طرفٍ على الآخرِ بشكلٍ حاسمٍ، كما يضمنُ تدفّقَ المواردِ، وأهمَّ من ذلك يضمنُ عدمَ ظهورِ النموذجِ الإسلاميِّ المتمثّلِ بدولةِ الخلافةِ الإسلاميّةِ؛ حيث إنّ كلَّ واحدةٍ من هذه الدولِ لها أسبابُها الخاصّةُ للحيلولةِ دون ظهورِ دولةِ الخلافةِ الإسلاميّةِ.
إنَّ مشروعَ الهيمنةِ الأمريكيّ لرسمِ الخريطةِ الجغرافيّةِ – السياسيّةِ للشرقِ الأوسطِ تحتَ هيمنةٍ أمريكيّةٍ مطلقةٍ، قد مضى على الشروعِ في تنفيذِه وهيكلتِه خمسةٌ وسبعونَ عامًا، ولا تزالُ هناك عقباتٌ حتى الآن، لعلَّ أهمَّها عقبةُ الكيانِ اليهوديِّ، الذي يسعى إلى فرضِ جغرافيا خاصّةٍ به تقومُ على التوسّعِ الجغرافيِّ، وتركيبةٍ سكانيّةٍ تؤدّي إلى تهجيرِ ما تبقّى من أهلِ فلسطين إلى دولٍ أخرى، وهيمنةٍ عسكريّةٍ في المنطقةِ تحولُ دونَ امتلاكِ أيِّ دولةٍ في الإقليمِ أسلحةً استراتيجيّةً موازيةً لما يملكه الكيانُ.
ولعلّ ما يجري الآن من ضغوطٍ أمريكيّةٍ كبيرةٍ على دولةِ الكيانِ هو لحملِها على المُضيِّ قُدُمًا في إستراتيجيّةِ أمريكا، من زاويةِ أنّ أمريكا هي الضامنُ للأمنِ المتعلّقِ بحدودِ ووجودِ الكيانِ في المنطقةِ.
وقد برز ذلك من الدعمِ والتأييدِ للكيانِ في أعمالِ التطهيرِ والإبادةِ الجماعيّةِ، والتدخّلِ السريعِ لضربِ المنشآتِ النوويّةِ الإيرانيّةِ لإقناعِ الكيانِ أنَّ الرّدعَ الإستراتيجيَّ يقعُ على عاتقِ الضامنِ الأساسيِّ للاستقرارِ، أي أمريكا. ومع ذلك لا يزالُ الكيانُ – ولأكثرَ من سببٍ – هو العُقدةَ الأخيرةَ في عِقْدِ نظامِ الشرقِ الأوسطِ الجديدِ على الطرازِ الأمريكيِّ.
الصراعُ بينَ أمريكا والمشروعِ الإسلاميِّ على مستقبلِ الشرقِ الأوسطِ:
والسؤالُ الأهمُّ هو: هل يستقرُّ الشرقُ الأوسطُ على الكيفيّةِ التي تريدُها أمريكا؟ وهل هناك نموذجٌ آخرُ يُنافِسُ نموذجَها بل ويتحدّاه؟
أمّا استقرارُ الشرقِ الأوسطِ على التوليفةِ الأمريكيّةِ فيعتمدُ على ناحيتينِ: إحداهما استمرارُ الاستقرارِ على الصعيدِ الدوليِّ والنظامِ العالميِّ، بحيثُ تبقى أمريكا متربّعةً على عرشِه بشكلٍ متواصلٍ. وهذا أمرٌ لا يمكنُ تصوّرُ استمراريّتِه، خاصّةً ونحن نقرأ في كتابِ الله تعالى:(لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ ١٩٦ مَتَٰعٞ قَلِيلٞ ثُمَّ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ١٩٧) (آل عمران).
والموقفُ الدوليُّ والنظامُ العالميُّ متغيّرانِ، والاستقرارُ فيهما لم يكنْ يومًا إلّا مرحليًّا. ودواعي عدمِ الاستقرارِ المؤدّي إلى الانهيارِ كثيرةٌ؛ أهمُّها الصراعاتُ السياسيّةُ والعسكريّةُ التي قد تؤدّي إلى نشوبِ حروبٍ ذاتِ طابعٍ دوليٍّ وإستراتيجيٍّ.
ومثالُ ذلك الحربُ بينَ روسيا وأوكرانيا، التي لا تنفكُّ بعضُ الدولِ الأوروبيّةِ عن السعيِ لإقحامِ حلفِ الناتو فيها. ورغمِ حذرِ أمريكا الشديدِ، والإصرارِ على عدمِ تدخّلِ الناتو فيها، فإنّ الظروفَ العسكريّةَ والسياسيّةَ على المسرحِ الدوليِّ قد تفرِضُ توسيعَ دائرةِ الحربِ. ومثلُ هذه الحربِ من شأنِها التأثيرُ على الاستقرارِ العالميِّ من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى أنْ تُوليَ أمريكا جُلَّ اهتمامِها للموقفِ الدوليِّ بدلًا من السيطرةِ على الأقاليمِ.
وقُلْ مثلَ ذلك في الأزماتِ المتكرّرةِ بينَ الهندِ وباكستان، التي ما تنفكُّ تتحوّلُ إلى معاركَ عسكريّةٍ، ولا تزالُ أمريكا تتدخّلُ باستمرارٍ للحيلولةِ دون تطوّرِ النزاعِ العسكريِّ إلى حربٍ تُستعمَلُ فيها أسلحةٌ إستراتيجيّةٌ، حينها يكونُ النظامُ الدوليُّ مُهدَّدًا بالانهيارِ. وكذلك مسألةُ الصينِ وتايوان، التي قد تتطوّرُ إلى أعمالٍ عسكريّةٍ تفرِضُ تحوّلَ النزاعِ إلى نزاعٍ دوليٍّ، خاصّةً أنّ الصين تمتلكُ أسلحةً إستراتيجيّةً نوعيّةً، في حين أنّ تايوان لا تملكُ إلّا حلفَها مع أمريكا. وهكذا فإنَّ استقرارَ إقليمِ الشرقِ الأوسطِ على النهجِ الأمريكيِّ مرتبطٌ بشكلٍ حتميٍّ بالاستقرارِ على المستوى الدوليِّ، الذي بدورِه يقفُ على شفيرٍ من نارٍ، وقد ينفجرُ في أيِّ وقتٍ.
ثمّ إنّ النظامُ السياسيُّ الدوليُّ بات – أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى – مرتبطًا بشكلٍ جذريٍّ بالنظامِ الاقتصاديِّ والماليِّ العالميَّيْنِ. وقد شهدْنا خلالَ الانهيارِ الماليِّ في الفترةِ 2008–2010 كيفَ أنَّ القبضةَ الأمريكيّةَ على مختلفِ القطاعاتِ السياسيّةِ العالميّةِ قد ضعُفَتْ إلى درجةِ أنّ «الربيعَ العربيَّ» كاد يعصفُ بالأنظمةِ التي بنتْها أمريكا خلالَ عقودٍ طويلةٍ. فلولا أنّ انتفاضةَ الشعبِ في الدولِ العربيّةِ لم تكنْ تملكُ رؤيةً سياسيّةً واضحةً وفكرةً مبدئيّةً، لأصبحَ الشرقُ الأوسطُ مستقلّا عن الهيمنةِ الأمريكيّةِ، وقادرًا على بناءِ شرقِ أوسطَ جديدٍ برؤيةٍ مبدئيّةٍ على أساسِ الإسلامِ.
والظروفُ الماليّةُ والاقتصاديّةُ اليوم أقلُّ ما تكونُ استقرارًا وثباتًا؛ سواءٌ من حيثُ سياسةُ أمريكا العدائيّةُ فيما يتعلّقُ برفعِ الرسومِ الجمركيّةِ أو فرضِ العقوباتِ على تجارةِ بعضِ الدولِ – خاصّةً تلك المتعلّقةِ بروسيا والصينِ – ومن ثمَّ نشوءُ منظماتٍ دوليّةٍ تسعى لإيجادِ الاستقلالِ الاقتصاديِّ بعيدًا من الهيمنةِ الأمريكيّةِ، مثل «بريكس».
كلُّ هذه الإرهاصاتِ تُهدّدُ دومًا بانهيارِ النظامِ الاقتصاديِّ برمّتِه، مصحوبًا بانهيارٍ ماليٍّ؛ حيث إنّ الإجراءاتِ الاقتصاديّةَ التي تعتمدُها أمريكا خاصّةً تؤدّي إلى زيادةِ التضخّمِ الماليِّ بشكلٍ كبيرٍ، بسببِ ضخِّ كمٍّ هائلٍ من النقد – خاصّةَ الدولار – دون أن يُرافِقَه نموٌّ اقتصاديٌّ مُماثِلٌ.
أضِفْ إلى ذلك التوسّعَ الهائلَ في إصدارِ النقدِ المُشفَّرِ واستخدامه، هروبًا من هيمنةِ الدولارِ على الأسواقِ الماليّةِ. ففي الوقتِ الذي تصبحُ فيه كميّةُ المالِ المشفّرِ – بمختلفِ أنواعِه – تُضاهي كميّة النقد «الدولاريِّ» الطبيعيِّ أو تزيدُ عنه، سيكونُ العالمُ الماليُّ برمّتِه على صفيحِ بركانٍ هائلٍ يذهبُ بالأخضرِ واليابسِ حينَ انفجارِه.
فسوقُ العملاتِ المشفّرةِ – بالرغمِ ممّا يُشاعُ عن أمانِه – قد يتبخّرُ بينَ عشيةٍ وضحاها من خلالِ هجماتٍ إلكترونيّةٍ سيبرانيّةٍ. وما يساعدُ على ذلك ويُسرِّعُ أوانَه – آنيًّا أو مرحليًّا – التقدّمُ الهائلُ في بُنيةِ الذكاءِ الاصطناعيِّ الذي يختزلُ الزمنَ اللازمَ للاختراقِ إلى دقائقَ معدودةٍ بدلًا من أيّامٍ وشهورٍ.
هذه الأوضاعُ الماليّةُ والاقتصاديّةُ، والأزماتُ السياسيّةُ، والحروبُ الإقليميّةُ ذاتُ الأثرِ الدوليِّ، جميعُها تشيرُ إلى أنَّ استقرارَ الدولةِ الأولى في العالمِ على الوضعِ الذي يسمحُ لها باستكمالِ مشروعٍ مضى عليه خمسةٌ وسبعونَ عامًا ليس إلّا وَهْمًا؛ حيث إنّ الدولَ في المنطقةِ ظلّت رهينةَ المصالحِ الخارجيّةِ، ولا تمتلكُ قرارَها الإستراتيجيَّ المستقلَّ، وبدلًا من معالجةِ أسبابِ الصراعِ تجري إدارتُه كأوراقِ ضغطٍ بين القوى الإقليميّةِ والضامنينَ الخارجيّينَ. إضافةً إلى أنّ العدالةَ قد غابت من حيث هي قيمةٌ عليا، وحلَّ محلَّها منطقُ المصالحِ البراغماتيّةِ، ما أدّى إلى تآكلِ الثقةِ في النُّظمِ السياسيّةِ القائمةِ، وهو ما يخلقُ ظروفًا مواتيةً لتغيُّرٍ إستراتيجيٍّ من رَحِمِ المنطقةِ نفسِها.
وإذا دقّقْنا في هذه الأمورِ، خاصّةً الأثرَ الذي أحدثتْه هيمنةُ أمريكا في البلدانِ التي خضعتْ لها – بشكلٍ مباشرٍ أو غيرِ مباشرٍ – نجد أنَّ هذه الهيمنةَ بعينِها تُشكِّلُ وقودًا قويًّا لاستفزازِ ما لدى شعوبِ المنطقةِ من بدائلَ منهجيّةٍ.
فأينما حلّت هيمنةُ أمريكا حلَّ معها الفقرُ والعَوَزُ والجوعُ. وهذه الظروفُ من أقوى الظروفِ الدافعةِ إلى الانفجارِ والتحدّي.
ثمّ إنَّ هيمنةَ أمريكا على الأقاليمِ المختلفةِ يُصاحِبُها دومًا سَخَطٌ من شعوبِ المنطقةِ على حُكّامِها الذين لا يتحرّكون إلّا بأمرٍ أو تصريحٍ من أمريكا؛ كما حصل في مؤتمرِ القمّةِ العربيِّ الإسلاميِّ في الدوحة في شهرِ أيلولَ الماضي بعد الغارةِ التي أقدمَ عليها كيانُ يهود في الدوحةِ عاصمةِ قطر. وأضِفْ إلى ذلك انكشافَ التصوّرِ الإسلاميِّ المُزَيَّفِ الذي كانتْ تتستّرُ وراءَه بعضُ الدولِ في المنطقةِ لإبقاءِ عقيدةِ المسلمين بعيدةً من الصراعِ المحلّيِّ أو العالميِّ. فلم يبقَ للتصوّراتِ التي صوّرتِ الإسلامَ على أنّه محصورٌ في المساجدِ للتسبيحِ بحمدِ الحُكّامِ وأنظمتِهم سلطانٌ على عقولِ المسلمين ونفسيّاتِهم.
من هنا فإنَّ هيمنةَ أمريكا – التي لا تزالُ تسعى للهيمنةِ على الشرقِ الأوسطِ في الوقتِ الذي ترى أنّها بتلك الهيمنةِ تحولُ دونَ عودةِ نظامٍ يُنافِسُها- بما جرّتْه على المنطقةِ من ويلاتٍ ودمارٍ وفقرٍ وجوعٍ ونهبٍ للثرواتِ تعيدُ جذوةَ الصراعِ الحقيقيِّ الذي يعملُ على استئصالِها من المنطقةِ بل ويُلاحقُها على المستوى الدوليِّ.
وممّا يزيدُ الأمرَ صعوبةً في وجهِ أمريكا أثناءَ سعيِها لبسطِ الهيمنةِ الكاملةِ وتحقيقِ الاستقرارِ على الوجهِ الذي تريدُه، أنّ الأدواتِ التي كان من الممكنِ استعمالُها لصرفِ شعوبِ المنطقةِ عن نهضةٍ حقيقيّةٍ وسيادةٍ كاملةٍ قد استُنفِدَتْ جميعُها.
فالقوميّةُ الواسعةُ (كالعربيّةِ والتركيّةِ والفارسيّةِ…)، والقبليّةُ المحدودةُ (كالسعوديّةِ والهاشميّةِ والصباحيّةِ…)، والدولةُ الجغرافيّةُ (كالأردنِ وسوريا ومصر والعراق…)، كلُّها قد استُنفِدَتْ وتمّ تجريبُها وبانَ عَوَرُها، ولم تبقَ قادرةً على تحريكِ الشعوبِ مرّةً أُخرى في اتّجاهِها، بل أصبحتْ محلَّ سُخريةٍ وهدفًا للانتقامِ.
وكذلك الأفكارُ الجزئيّةُ كالحرّيّةِ والسيادةِ، انكشفَ عَوَرُها وكذبُها ودَجَلُ أسيادِها وأتباعِها، فباتت لا تُحرِّكُ شعرةً في جلودِ أبناءِ المنطقةِ. وكذلك «الثورةُ للتغييرِ» دونَ هدفٍ واضحٍ لم تَعُدْ مُحرِّكًا في شعوبِ المنطقةِ.
وجاءتْ ثالثةُ الأثافي: حربُ غزّةَ، التي كشفتْ كلَّ مستورٍ، وفضحتْ كلَّ خائنٍ، وأظهرتْ أنَّ الأمّةَ لا تستطيعُ أن تُطعِمَ جائعًا، أو تُنقذَ مريضًا، أو تحميَ شيخًا أو امرأةً، أو تُوقِفَ مذبحةً جماعيّةً، ما لم يكن أمرُها بيدِها، موكولًا إلى مَن يؤمنُ بعقيدتِها، ويحملُ آلامَها وشجونَها، ويُعزِّزُ أفراحَها، ويَداوي جُرحَها. وليس هذا متوفِّرًا في أيٍّ ممّن يملكونَ أمرَها اليومَ.
فأصبحتْ بذلك المنطقةُ تتدافعُ بينَ تيّارَيْنِ اثنَيْنِ: أحدُهما تدفعُ به أمريكا بما تملكُ من خِداعٍ ووَهْمٍ وعنجهيةٍ وصَلَفٍ واستكبارٍ وجبروتٍ، والثاني تدفعُ به عقيدةٌ كامنةٌ في الأمّةِ لم تَمُتْ يومًا، وإنْ كانت جذوتُها قد خَمَدَتْ لعقودٍ طويلةٍ، وتطلُّعٌ إلى السيادةِ التي سُلِبَتْ منها في غافلٍ من الزمانِ لتستردَّها وتَرُدَّها إلى مَن يحملُها على الوجهِ الذي يُحقِّقُ لها السعادةَ في الدارينِ، وتَصبو مرّةً أُخرى إلى تَسَنُّمِ موقعِ القيادةِ في الإقليمِ ثمّ في العالمِ أجمعَ بوصفِها «خيرَ أمّةٍ أُخرِجتْ للناسِ»، وبوصفِها الأمّةَ التي تسلَّمَتِ الرسالةَ التي أنزلَها اللهُ على رُسُلِه، والميزانَ الذي يُميِّزُ بينَ الحقِّ والباطلِ، وبينَ الخيرِ والشرِّ، وبينَ الطيِّبِ والخبيثِ؛ كما ورد في كتابِ الله في سورةِ الحديدِ: (لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٞ شَدِيدٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٞ ٢٥) (الحديد: 25).
المشروعُ الإسلاميُّ مقابلَ الهيمنةِ الأمريكيّةِ:
والحقيقةُ الناصعةُ أنَّ التيّارَ المتحرِّكَ نحوَ إعادةِ بناءِ دولةِ الخلافةِ الإسلاميّةِ – بوصفِها طريقةً لتطبيقِ نظامِ الإسلامِ الذي جاء به محمّدٌ صلى الله عليه وسلم خاتمًا لجميعِ الرسالاتِ التي سبقَتْهُ، ومن ثمَّ تقديمِه نموذجًا للبشرِ كافّةً في مختلفِ أنحاءِ العالمِ – هو نموذجٌ فريدٌ يمثّلُ جوهرَ السيادةِ والوحدةِ، من خلالِ عدّةِ ركائزَ أهمُّها:
أنْ تكونَ السيادةُ للشرعِ؛ أي لأمر الله تعالى الذي لا يأتيهِ الباطلُ من بينِ يدَيْهِ ولا من خلفِه، ولا يُنازِعُه أيُّ شكلٍ من أشكالِ الهوى الذي سيطرَ على كلِّ أنواعِ السيادةِ التي مُورِسَتْ على البشرِ. ويكفي النظرُ إلى تكدّسِ الأموالِ بنسبةٍ تزيدُ على 90% بأيدي قلّةٍ قليلةٍ لا تتجاوزُ 0.5% من سكّانِ المعمورةِ. هذا المبدأُ يضعُ القانونَ الإلهيَّ فوقَ كلِّ سلطةٍ بشريّةٍ، ويَحمي الدولةَ من التحوّلِ إلى دكتاتوريّةٍ فرديّةٍ أو طبقيّةٍ، ويضمنُ أنَّ الحاكمَ مُقيّدٌ بأمرِ اللهِ، وليس مطلَقَ اليدِ.
والركيزةُ الثانيةُ هي تلك التي تتحقّقُ بها وحدةُ الأمّةِ التي يبلغُ تعدادُها حوالي 25% من سكّانِ العالمِ؛ فحينَ تُجمعُ الأقطارِ الإسلاميّةِ الممزَّقةِ في كيانٍ واحدٍ مستقلٍّ، لا يعتمدُ على أيِّ قوى خارجيّةٍ، ولا يحملُ أيَّ تبعيّةٍ للقوى الخارجيّةِ في قراراتِه الأمنيّةِ والاقتصاديّةِ والسياسيّةِ، حينها يصبحُ بمقدورِ هذه الأمّةِ أن تنقلَ ما لديها من الخيرِ والعدلِ إلى غيرِها من البشرِ.
هذا التيارُ أصبح لا يخفى على أحدٍ؛ فأمريكا صاحبةُ المشروعِ القديمِ الجديدِ في الشرقِ الأوسطِ تُدرِكُ هذا التيارَ وتدرِكُ مدى قوّتِه، وبالتالي تعملُ على إحباطِه بشتى الوسائلِ. فقد اخترعتْ ما سمّتْه «حربًا على الإرهابِ»، وأوجدتْ – هي نفسُها – حركاتٍ ومنظّماتٍ تندرجُ تحتَ صفةِ «الإرهابِ» الذي اخترعته لينصرفَ الناسُ عن مشروعِ الإسلامِ الحضاريِّ، وقد بانَ عَوَرُ هذا المشروعِ وانكشفَ كيدُه.
وعملتْ أمريكا – ومن قبلِها ومعها بريطانيا وفرنسا ودولٌ أوروبيّةٌ أخرى – على حظرِ أيِّ عملٍ أو نشاطٍ لِمَنْ يدعو إلى إعادةِ صرحِ الإسلامِ الحضاريِّ، وفرضوا على عملائِهم في المنطقةِ أنْ يحاربوا كلَّ نَفَسٍ يدعو لإعادةِ بناءِ هذا الصرحِ.
ومع ذلك فقد استمرَّ تيّارُ الإسلامِ بالحركةِ، ولا يزالُ يزدادُ قوّةً إلى أنْ يتمكّنَ من إزالةِ كلِّ ما يقفُ أمامَه من عقباتٍ.
ولا تزالُ أمريكا وأدواتُ الاستعمارِ السابقِ تعملُ على صَرْفِ أنظارِ المسلمين في المنطقةِ عن عَوَرِ وفسادِ أنظمتِهم هم، من خلالِ إنشاءِ مؤسّساتٍ ماليّةٍ وخيريّةٍ واجتماعيّةٍ تُقدِّمُ «حلولًا شرعيّةً» إلى جانبِ نماذجِ الظلمِ والكفرِ والاستبدادِ، لتعملَ البنوكُ الربويّةُ – التي تُحاربُ اللهَ ورسولَه – جنبًا إلى جنبٍ مع بنوكٍ «إسلاميّةٍ»، ولتُقدِّمَ مدرسةٌ أو جامعةٌ مكانًا لمن يريدُ أو تريدُ أنْ تتجنّبَ السُّفورَ، إلى جانبِ مدرسةٍ أو جامعةٍ تنشرُ الفُسوقَ والفجورَ.
وهكذا يستمرُّ عملُهم لتفريغِ الطاقةِ الإسلاميّةِ من محتواها.
ومع ذلك فلا يزالُ تيّارُ الإسلامِ يعلو ثمّ يعلو؛ لجعلِ السيادةِ المطلقةِ لشرعِ اللهِ، وأنّ الباطلَ لا يُجاوِرُ الحقَّ، وأنّ العدلَ لا يكونُ في نفسِ ساحةِ الظلمِ، وأنّ الحكمَ كلَّه للهِ وليس لأحدٍ من البشرِ، (إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ)(يوسف).
وهكذا فإنَّ منطقةَ الشرقِ الأوسطِ لا تزالُ ساحةً ساخنةً لمشروعَيْنِ كبيرَيْنِ من حيثُ الحجمُ والتأثيرُ، ومن حيثُ الأثر الكبير الذي ينتجُ عنهما: فتيّارُ أمريكا يُنذِرُ بشرٍّ مستعرٍ، وقهرٍ مستمرٍّ، ونهبٍ لثرواتِ المنطقةِ لا يُبقِي ولا يَذَرُ، وهو محكومٌ – لا محالةَ – بفشلٍ ذريعٍ في قادمِ الأيّامِ، لا ضيرَ أنْ يتقدّمَ أو يتأخّرَ، واللهُ غالبٌ على أمرِه سواء أرضيَ البشرُ أم سَخِطوا.
وأمّا تيّارُ الإسلامِ الواعدُ، الذي يحملُ فوقَه رايةَ الحقِّ، رايةَ الإسلامِ، رايةَ العقابِ، رايةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإنّه – لا محالةَ – مُنتصِرٌ، ما دام يرفعُ لواءَه شبابٌ مُبصِرون لطريقتهِ، مدفوعون بعقيدتِهم، حريصون على أمّتِهم، حاملون أرواحَهم على أكُفِّهم، ماضينَ لإرضاءِ ربِّهم.
فوالذي خلقَ السماواتِ والأرضَ إنّه لَلحقُّ المبينُ، ولا رادَّ لأمرِ اللهِ. فالسعيدُ مَنْ يمضي لإعلاءِ كلمةِ اللهِ؛ ليكونَ من جندِها؛ فإنّ اللهَ بالغٌ أمرَه، ولو ملكتْ أمريكا ما ملكتْ من قوّةٍ وجبروتٍ، فهي ليستْ بأشدَّ من فرعونَ وهامانَ، ولا أقوى من عادٍ وثمودَ.
فكما قال اللهُ تعالى في سورةِ القصصِ عن فرعونَ: (إِنَّ فِرۡعَوۡنَ عَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلَ أَهۡلَهَا شِيَعٗا يَسۡتَضۡعِفُ طَآئِفَةٗ مِّنۡهُمۡ يُذَبِّحُ أَبۡنَآءَهُمۡ وَيَسۡتَحۡيِۦ نِسَآءَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ٤ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّةٗ وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ ٥) (القصص: 4–5).
الفرصةُ التاريخيّةُ الثانيةُ:
(وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ) (النور: 55). إنَّ لحظتَنا التاريخيّةَ الراهنةَ هي لحظةُ تحوّلٍ جيوسياسيٍّ وأخلاقيٍّ، ينهارُ فيها النظامُ القديمُ ولمّا يولَدِ النظامُ الجديدُ.
فالعواملُ مجتمعةً – بدءًا من إرهاقِ النظامِ، مرورًا بالأزماتِ الاقتصاديّةِ، وصولًا إلى تراجُعِ الثقةِ بالنظامِ الدوليِّ الغربيِّ الذي فقدَ مصداقيّتَه الأخلاقيّةَ والحضاريّةَ – تُساعِدُ على خَلْقِ «الفرصةِ التاريخيّةِ الثانيةِ للأمّةِ».
وتكمُنُ أهميّةُ المشروعِ الإسلاميِّ للأمّةِ في أنّه يمثّلُ انتقالًا من حالةِ الرَّدِّ على الهيمنةِ إلى مرحلةِ تقديمِ البديلِ لها.
لقد ظلَّ الفكرُ الإسلاميُّ لعقودٍ منشغلًا بالرَّدِّ على الغربِ والدفاعِ عن نفسِه في ساحةٍ ليستْ ساحتَه، ومُقيَّدًا بالتعريفاتِ الغربيّةِ للمشكلاتِ. أمّا اليومَ فالموقفُ معكوسٌ: الغربُ هو مَن يُعاني من أزمةِ المصداقيّةِ والقِيَمِ، والأمّةُ مدعوّةٌ لتقديمِ الحلِّ.
وهذه الرؤيةُ تتجاوزُ حدودَ الجغرافيا الإسلاميّةِ لتُقدِّمَ تصوّرًا جديدًا لمستقبلِ الإنسانيّةِ؛ فالإسلامُ – في جوهرِه – ليس مشروعَ أمّةٍ على حسابِ أُخرى، بل هو رسالةُ تحريرٍ عالميّةٌ تُنقِذُ الإنسانَ من عبوديّةِ الإنسانِ. في هذا الإطارِ تُصبِحُ الخلافةُ مشروعًا إنسانيًّا بامتيازٍ؛ لأنّها تنقلُ مركزيةَ العالمِ من «النفعية» (التي تحكمُ النموذجَ الأمريكيَّ) إلى «القِيَمِ» (التي تحكمُ نموذجَ الأمّةِ الإسلاميّةِ)، ومن الصراعِ إلى التعاونِ. إنّها تهدفُ إلى خلقِ نظامٍ دوليٍّ جديدٍ تكونُ فيه القوّةُ خادمةً للعدلِ، لا أداةً للهيمنةِ.
ومُلخَّصُ هذه الرؤيةِ في عبارةٍ:
«العالمُ اليومَ لا يحتاجُ إلى دولةٍ أقوى، بل إلى فكرةٍ أعدلَ».
فإذا أفلحْنا في تأسيسِ الفكرةِ العادلةِ القائمةِ على العدلِ الإلهيِّ المطلقِ الذي لا يأتيهِ الهوى والباطلُ من بينِ يدَيْهِ ولا من خلفِه، فإنَّ الدولةَ القويّةَ التي تخدمُها ستنشأُ حتمًا.
واليومَ، وأمامَ طغيانِ أمريكا وعنجهِيّتها وظلمِها وفسادِها وإفسادِها، تقفُ ثُلّةٌ من المستضعفينَ الذين يخافونَ أنْ يتخطّفَهم الناسُ من الأرضِ، عاملينَ على بناءِ صرحِ الإسلامِ العظيمِ مع قلّةِ حيلتِهم، حاملينَ نورَ الإسلامِ في أعينِهم وقلوبِهم، رافعينَ رايةَ الخلافةِ الإسلاميّةِ على منهاجِ النبوّةِ، رغمَ كثرةِ الحاقدينَ الذين يريدونَ أن يطفِئوا نورَ اللهِ بأفواهِهم.
ولكن هؤلاءِ الثُّلّةَ يعلمونَ علمَ اليقينِ أنّ اللهَ مُتِمٌّ نورَه ولو كَرِهَ الكافرونَ والظالمونَ من أمريكا إلى بريطانيا وفرنسا وروسيا، ومن بعدِهم إلى عملائِهم في الشرقِ والغربِ.
إنَّ اللحظةَ التاريخيّةَ – مع انهيارِ الهيمنةِ الأمريكيّةِ واهتزازِ النموذجِ الليبراليِّ – تمنحُ الأمّةَ الفرصةَ لتقديمِ البديلِ الحضاريِّ المتكاملِ. هذا التحوّلُ ليس مجرّدَ تغييرٍ في الأنظمةِ، بل هو صراعٌ حتميٌّ بينَ نموذجَيْنِ حضاريَّيْنِ، وسيُحدِّدُ مصيرَ المنطقةِ والعالمِ على ضوءِ نتيجةِ هذا الصراعِ.
وإنَّ مسؤوليّتي، ومسؤوليّةَ كلِّ مَن يُدرِكُ جوهرَ هذه الأزمةِ، هي العملُ على تحويل هذا المشروعِ إلى واقع سياسيٍّ يُحقِّقُ للإنسانِ كرامتَه وحريتَه في ظلِّ العدلِ الإلهيِّ.
ولمَنْ طال بهم الطريقُ، وظنّوا أنّ اللهَ لن ينصرَهم، وقلَّتْ لديهم الحيلةُ، أُذكِّرُ بأنَّ أمريكا – التي تُسمَّى «الدولةَ العظمى» والتي تملكُ من القوّةِ ما إنَّ إحصاءَه ينوءُ بأولي العلمِ من البشرِ – لا تزالُ تدفعُ بتيّارِها الغاشمِ منذ خمسةٍ وسبعينَ عامًا، ولَمْ تَصِلْ بعدُ إلى نهايتِه لتُتَوّج به هامَتَها متحدِّيةً به أمرَ اللهِ.
وفي نفسِ الوقتِ، فإنّ مشروعَ إعادةِ بناءِ دولةِ الخلافةِ الراشدةِ على منهاجِ النبوّةِ بدأ – بعدَ مشروعِ أمريكا حقيقةً بثلاثِ سنينَ – بجهدِ عالمٍ فردٍ، ثمَّ بكتلةٍ صغيرةٍ ضعيفةٍ، ليس لها حافظٌ ولا قوّةٌ إلّا بإيمانِها وصدقِها، وواجهتْ في سيرِها كلَّ أنواعِ الظلمِ والتعذيبِ والسجونِ والقتلِ، ولم يكنْ لها ناصرٌ من غربٍ ولا شرقٍ، من قريبٍ ولا بعيدٍ، إلّا اللهُ وحدَه. فصبرَتْ ومضتْ واشتدَّ عودُها وانتشرتْ في بلادِ المسلمينَ كافّةً، وامتدّتْ لتصلَ إلى المسلمينَ في بلادِ الغربِ، ونمَتْ واشتدَّ عودُها حتى في زمنِ أقسى الدولِ ظلمًا وحقدًا على الإسلامِ، الاتّحادِ السوفياتيِّ السابقِ.
ولم يَبْقَ أمامَها إلّا خطوةٌ واحدةٌ لتحقيقِ أمرِ اللهِ.
فلو لم يكنْ إلّا صمودُ هذه الدّعوةِ واستمرارها إلى يومِنا هذا لكفى اطمئنانًا إلى أنَّ اللهَ غالبٌ على أمرِه، ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلَمونَ.
وأدعو اللهَ ألّا يتأخّر ذلك اليومُ الذي نتذكّرُ فيه قولَ اللهِ تعالى موجَّهًا إلى مَنْ سبقونا من المهاجرينَ والأنصارِ، ثمّ ليشملَنا حين يقومُ صرحُ الإسلامِ مرّةً ثانيةً: (وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ أَنتُمۡ قَلِيلٞ مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فََٔاوَىٰكُمۡ وَأَيَّدَكُم بِنَصۡرِهِۦ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٢٦).
1447-06-12