العدد 472 -

السنة التاسعة والثلاثون، جمادى الأولى 1447هـ الموافق تشرين الثاني 2025م

الخروج عن المألوف والبحث عن التغيير خارج الصندوق

لقد شكل فوز المرشح الديمقراطي زهران ممداني، المعروف بمعارضته الشديدة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، برئاسة بلدية نيويورك، معقل الرأسمالية والرأسماليين بل وأكبر مدينة في الولايات المتحدة الأمريكية، لحظة فارقة استوقفت الكثير من المراقبين وصناع القرار والباحثين، فنيويورك تُعدّ مركزًا عالميًا للتمويل والثقافة والفن والأزياء والإعلام، وتعدّ واحدًا من أكبر الاقتصادات في العالم وأكثرها تنوعا، وهي تعد أحد أهم مراكز التجارة والمال في العالم، فهي عاصمة اقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية لكثرة الشركات والبنوك العالمية فيها، وفيها مقر الأمم المتحدة وسوق الأوراق المالية ومؤشر الداوجونز الصناعي، إلى درجة أن مدينة نيويورك توصف بأنها العاصمة الثقافية والإقتصادية للعالم.

فهو فوز لافت للنظر، من باب أهمية مدينة نيويورك ورمزيتها لدى الساسة وصناع القرار في أمريكا والحزبين المتنافسين على الحكم؛ الجمهوري والديمقراطي. فقد جاء فوز ممداني المنحدر من عائلة مسلمة وبأفكاره التي شكلت صدمة لصناع القرار في أمريكا، خارجا عن المألوف. فهو قد تجاهل حيتان المال والرأسماليين في نيويورك وأمريكا، وكذلك اللوبيات والمؤثرين في الوسط السياسي وعلى رأسهم اللوبي الصهيوني، حتى أنه اعتمد في تمويل حملته الانتخابية على تبرعات الأفراد دون الأربعين دولارا، بدلا من الملايين التي اعتاد المرشحون الركون إليها في حملاتهم الانتخابية من الحيتان والرأسماليين واللوبيات، ولم يتوان عن مهاجمة ترامب وحزبه وسياساته، وأظهر عداوته للرأسماليين والنخب وأصحاب الشركات الضخمة، وأظهر معارضته لحرب كيان يهود على غزة وجرائمه في فلسطين، حتى أنه توعد بالسعي لاعتقال رئيس وزراء كيان يهود بنيامين نتنياهو إن زار نيويورك، وفي المقابل نادى بحاجيات الشعب والفقراء ومحدودي الدخل، وتعهد ببذل قصارى جهده لإنصافهم وتحسين أوضاعهم.

باختصار هو رجل جاء بأفكار عكس التيار الحاكم في أمريكا، حتى أن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، قد صدم من فوزه في الانتخابات، وهاجمه وهاجم كل من انتخبه.

وبالنظر إلى اللافت في الحدث، نلمس شيئا جديدا بدأ يتبلور في المجتمعات الغربية، بعد أن أخذ يتشكل منذ أعوام وتصاعد في آخر عامين، لا سيما بسبب الحرب على غزة التي عرت كل الأنظمة؛ وهو خروج أجيال شابة تنقلب على القديم الموروث لدى الغرب، وترسم لها طابعا جديدا وتوجها ثقافيا مختلفا عما كان سائدا، من باب القناعة بفشل القديم أو سوئه أو على الأقل الحاجة إلى تغييره.

فهذا مثلا دونالد ترامب يصرح في إشارة إلى مدى التغير الذي أصاب المزاج السياسي العالمي، والوعي المجتمعي، خاصة لدى الأجيال الصاعدة، قائلا: «قبل عشرين عامًا، كان لإسرائيل اللوبي الأقوى في الكونغرس، أقوى من أي دولة أو مؤسسة أو شركة. أما اليوم فلم يعد بهذا المستوى. إنه أمر مذهل بالنسبة لي أن أرى ذلك». وأضاف: «أصبح من الممكن انتقاد إسرائيل علنًا في أروقة السياسة الأميركية، وهو ما كان مستحيلًا في السابق».

حتى أن فوز ممداني أعاد إلى الطاولة بحث فوز دونالد ترامب نفسه برئاسة أمريكا، فقد جمع الكثيرون بين الرجلين، لكونهما جاءا بأفكار جديدة انقلابية -إلى حد ما- على القديم المألوف، فترامب ذلك الملياردير المتعجرف، الفاقد للدبلوماسية والبروتوكولات المعهودة في الأوساط السياسية، فاز بالانتخابات بخلاف كثير من التوقعات التي سبق ورافقت السباق الرئاسي، ووقف الكثيرون على أسباب فوز ترامب سيئ السمعة والصيت والتاريخ، وكان أقوى تلك التفاسير هو أن ترامب جاء بأفكار جديدة غير مألوفة وخاطب منطقة الإحساس لدى الشعب الأمريكي؛ الاقتصاد وسوء الأوضاع المعاشية، فعلقوا الآمال عليه عله يخرجهم مما أصابهم من تردي وضعهم الاقتصادي بحديثه عن الأولوية لأمريكا وللأمريكيين والعودة بأمريكا عظيمة من جديد، وهو ما عدّه كثيرون تفكيرا خارج الصندوق، وهو نفس المصطلح الذي أعادت إدارة ترامب استخدامه لاحقا ميزةً لها، ثم سرعان ما بدأت آمال الشعب الأمريكي على ترامب وبرنامجه تتراجع، بعد أقل من عام من توليه للرئاسة، وجاءت انتخابات بلدية نيويورك تعبيرا عن خيبة الآمال في ترامب وبرامجه.

والقاسم المشترك بين فوز الرجلين بالانتخابات هو أن كليهما جاءا بأفكار رآها الشعب الأمريكي خروجا عن المألوف الذي هو السبب في تردي أوضاعهم وتراجع أحوالهم المعاشية، فكان ذلك أشبه ببداية الانقلاب على الرأسمالية، وتعبيرا عن السأم من النظام السائد الذي لمست الأغلبية أنه مصمَّم لصالح الرأسماليين والحيتان على حسابهم، وهذه بداية تحطم صنم الديمقراطية والرأسمالية التي اكتوى العالم بنارها منذ صعودها.

وإنه إن كان ما حدث في أمريكا ونيويورك يمثل حدثا لافتا وبارزا فهو ليس الوحيد ولا الأوحد، بل هو برز لكونها بلادا تتمتع بشيء من الحرية والقدرة على التعبير، لكن تلك الأحاسيس والتوجهات موجودة، وبشكل أكبر، في باقي المجتمعات ولدى باقي الشعوب وعلى رأسها الشعوب في البلاد الإسلامية، ولكن حالة القمع والدكتاتورية هي التي تحول بين رغبة الناس في التغيير وتعبيرهم عن ذلك أو قدرتهم على إحداثه.

بل إن شعور المسلمين بالحاجة إلى التغيير والرغبة في الخلاص من الحال القائم في بلادهم هو أشد وأقوى، لكونهم يذوقون مرارة العيش وشظفه أكثر من غيرهم، أكثر من أمريكا التي يعدّ شعبها مرفها مقارنة معهم، ولكونهم مدفوعين بقناعات دينية وأوامر ربانية بوجوب التغيير والتحول إلى النظام الإسلامي الذي ارتضاه لهم ربهم منهجا للحياة.

فقناعة المسلمين بفساد الرأسمالية وسوئها قناعة متقدمة عن غيرهم من الشعوب، ومصحوبة بالطبع بمنطق الإحساس الذي يعزز تلك القناعة ويرسخها، ومدفوعة بقناعات شرعية، وتشكل تلك القناعة لدى شعوب الغرب وخاصة الشعب الأمريكي الرائد في الرأسمالية والديمقراطية تعبيرا صادقا عن حاجة البشرية كلها إلى مبدأ ينقذها من تغول النخب والطغم الحاكمة، وتسلطها على رقاب الناس بتشريعات وقوانين وأنظمة أهلكت الناس وأوردتهم موارد الضنك.

وإن كان هذا يصدق على الناحية الاقتصادية والحاجات المادية، فهو أشد وضوحا في النواحي الاجتماعية والإنسانية والخلقية، بعد أن أدخلت الرأسمالية الشعوب في خواء روحي وخلقي وإنساني، وضيقت عليهم معيشتهم وأفقدتهم الطمأنينة والسكينة.

ولا شك أن الطغم الحاكمة ومنذ صراع الحق والباطل يخشون تفكير الشعوب بالخروج عن المألوف الذي رسخوه بأيديهم ليديم لهم هيمنتهم وسطوتهم. ولطالما كان تفكير الشعوب بالخروج عن المألوف أمرا صعبا وعسيرا، قال تعالى:( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلۡ نَتَّبِعُ مَآ أَلۡفَيۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَآۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَآؤُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ شَيۡ‍ٔٗا وَلَايَهۡتَدُونَ ١٧٠ )، فهؤلاء بنو إسرائيل يعيبون على سيدنا موسى عليه السلام خروجه عن مألوف الناس، قال تعالى:(فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَىٰ بِ‍َٔايَٰتِنَا بَيِّنَٰتٖ قَالُواْ مَا هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ مُّفۡتَرٗى وَمَا سَمِعۡنَا بِهَٰذَا فِيٓ ءَابَآئِنَا ٱلۡأَوَّلِينَ ٣٦)، وكما قالت ثمود لنبيهم صالح عليه السلام:( قَالُواْ يَٰصَٰلِحُ قَدۡ كُنتَ فِينَا مَرۡجُوّٗا قَبۡلَ هَٰذَآۖ أَتَنۡهَىٰنَآ أَن نَّعۡبُدَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكّٖ مِّمَّا تَدۡعُونَآ إِلَيۡهِ مُرِيبٖ ٦٢)، وكما قال أهل مدين لنبيهم هود عليه السلام : (قَالُواْ يَٰشُعَيۡبُ أَصَلَوٰتُكَ تَأۡمُرُكَ أَن نَّتۡرُكَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَآ أَوۡ أَن نَّفۡعَلَ فِيٓ أَمۡوَٰلِنَا مَا نَشَٰٓؤُاْۖ إِنَّكَ لَأَنتَ ٱلۡحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ ٨٧). فالتفكير بالتغيير خارج الصندوق مسألة ليست سهلة، لأن ترك المألوف صعب، وعادة الشعوب أن تفكر بالتغيير ضمن المألوف، حتى تبدأ بفقدان الثقة بالمألوف والمعهود فتنتقل للتفكير بالتغيير خارج المألوف، وهو ما تحتاجه البشرية أشد حاجة في هذه الأيام. فوصول البشرية إلى قناعة بفساد الديمقراطية والرأسمالية ومن قبلهما الاشتراكية وحاجتها إلى تغيير ينقذها هو أمر مبشر، وهو طبيعي الحصول بعد ما مرت به الشعوب من تجربتها لتلك المبادئ والأنظمة التي تسببت لها بالبؤس والشقاء وفقدان السعادة والطمأنينة. مصداقا لقوله تعالى:(وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ ١٢٤)، فاللهم هيء للأمة الإسلامية والبشرية معها من يخرجها من ظلام الرأسمالية الديمقراطية وضنك الحكم والطغم الحاكمة، إلى عدل الإسلام وإمامة المسلمين. فلا أمل للأمة الإسلامية ولا البشرية كلها للخلاص مما هي فيه من بؤس وشقاء إلا بعودة الإسلام إلى نظام حياة وعيش.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *