الأصل في الفتوى: القوة في الدين والدنيا، ومعالجة الواقع بالحكم الشرعي
2014/07/29م
المقالات
2,946 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأصل في الفتوى:
القوة في الدين والدنيا، ومعالجة الواقع بالحكم الشرعي
عصام عميرة-بيت المقدس
مع اتساع مساحة الصحوة الإسلامية في زماننا، فقد ازدادت وتيرة الفتاوى التي أصدرها علماء ما يعرف بالمؤسسات الدينية ومشايخها، ودوائر الأوقاف وعلمائها في حكومات دويلات الضرار التي أقيمت في العالم الإسلامي بعد هدم الخلافة الإسلامية. من هذه الفتاوى ما صدر قبل ما يسمى بالربيع العربي، ومنها ما صدر أثناءه، ومنها ما صدر بعده. وجميع هذه الفتاوى خرجت من مشكاة واحدة، لتصب في خانة الترويج لمخططات الحكام وتسهيل باطلهم، ولو كان ذلك على حساب الدماء الزكية والأدلة القطعية وقواعد التقوى وضوابط الاجتهاد المستقرة. وفي الوقت نفسه، تساير هذه الفتاوى، وبشكل مدروس، رغبات الوحش الرأسمالي في فصل الدين عن الحياة، محاربةً للإسلام السياسي، ومنعاً لتقدمه نحو الحكم، وامتصاصاً لغضب المسلمين على حكامهم الظلمة، وحرفاً لثورات الربيع العربي عن مسارها وإجهاضها، وإبقاءً للمسلمين متفرقين في ظل الوطنيات العفنة، بلادُهم ممزقة وثرواتُهم منهوبة. والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، بدءاً من فتوى جواز الصلح مع اليهود الغاصبين لأرض فلسطين الصادرة عن علماء مؤسسة الأزهر، ومروراً بفتوى جواز الاستعانة بأميركا وحلفائها ضد حاكم العراق الصادرة عن علماء المؤسسة الدينية في نجد والحجاز، وانتهاءً بالفتوى التطبيعية التي أصدرها مؤخراً جمع من علماء مؤتمر عمّان بجواز زيارة المسجد الأقصى في فلسطين تحت الاحتلال لبعض من المسلمين دون البعض الآخر، ما يعتبر من البدع والضلالات غير المسبوقة حتى في أسوأ أحقاب تاريخ الأمة الإسلامية، مع ما تحمله هذه الفتاوى من إضعاف لقوة المسلمين وتخذيل لهم وتيئيس من تبني الحلول الشرعية الجذرية لمشاكلهم المستعصية.
وقبل أن ندخل في معالجة هذا الموضوع بشيء من التفصيل، وبيان أهمية الفتوى في تقوية دين المسلمين ودنياهم لا إضعافهما، وفي معالجة الوقائع المستجدة عليهم بأحكام الشرع لا مسايرتها، لا بد من بيان معنى الفتوى لغة واصطلاحاً وشرعاً، وكذلك حاجة المسلمين لما يقوي دينهم دوماً، سواء أكانوا في زمن الاستخلاف أم الاستضعاف، إذ إن صلتهم بخالقهم هي عماد عيشهم، فإذا ضعفت ضعفوا وهزموا، وإذا قويت قوَوا وانتصروا وفازوا في الدارين.
الفتوى في اللغة: اسم مصدر بمعنى الإفتاء، والجمع: الفتاوى والفتاوي، قال ابن منظور: فتيا وفتوى؛ اسمان يوضعان موضع الإفتاء، ويقال أفتيت فلاناً في رؤيا رآها: إذا عبرتها له. وأفتيته في مسألته: إذا أجبته عنها. يقال أفتاه في المسألة يفتيه: إذا أجابه. والاسم الفتوى، أصله من الفتى، وهو الشاب الحدث الذي شب وقوي، فكأنه يقوي ما أشكل ببيانه، فيشبُّ ويصير فتياً قوياً. وقال الفراهيدي في كتاب العين: فقيه يفتي: أي يبين المبهم، ويقال: الفتيا فيه كذا، وأهل المدينة يقولون: الفتوى. وقال في المصباح المنير في غريب الشرح الكبير: فالفتح والكسر في الدعاوى سواء، ومثله الفتوى والفتاوى والفتاوي. أي يصح أن يقال: فتاوى وفتاوٍ. والاستفتاء في اللغة هو: طلب الجواب عن الأمر المشكل، ومنه قوله تعالى: ] وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ [، قال الألوسي:» أي يطلبون منك تبيين المشكل من الأحكام في النساء». وقال القرطبي عند تفسير قوله تعالى: ] فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا [، أي اسألهم. وجاء في النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: أفتاه في المسألة يفتيه إذا أجابه. والاسم: الفتوى، ومنه الحديث: (الإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك الناس عنه وأفتَوك)، أي: وإن جعلوا لك فيه رخصة وجوازاً.
أما الفتوى في الاصطلاح والتشريع (وهما سواء)، فهي تبيين المشكل من الأحكام، وقد عرّفها العلماء بتعريفات عديدة منها:
– قال القرافي في الفروق: الفتوى إخبار عن حكم الله تعالى في إلزام أو إباحة.
– وجاء في آداب المفتي والمستفتي للإمام النووي عن ابن الصلاح قوله: (قيل في الفتيا: إنها توقيع عن الله تبارك وتعالى).
– وفي شرح المنتهى: تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه. وهذا يشمل السؤال في الوقائع وغيرها.
وبناءً على ما سبق، فإن أقوال العلماء وفتاواهم من الخطورة بمكان بحيث لا يمكن تجاهلها أو التغاضي عنها، إذ يترتب عليها سلوك المستفتين تجاه القضايا الصغيرة والكبيرة. فإذا كانت الفتوى صحيحة الاستنباط، موافقة لغرض الشارع من شرع الحكم، ومناسبة لمقتضى الحال الذي عليه المستفتون، فإنها تحقق مرضاة الرب، وسعادة الناس في الدارين، وإن لم تكن صحيحة الاستنباط، وغير موافقة لغرض الشارع من شرع الحكم، بل كانت التفافاً عليه، وليّاً لأعناق النصوص الشرعية لتوافق أغراضاً أخرى من ضلال الحكام وباطلهم، أو اتباعاً لهوى النفوس وحقدها وشهواتها، أو ميلاً عن الجادة لضعف أو حقد أو مكيدة، فإنها تجلب غضب الرب، وتعاسة الناس في الدارين، والعياذ بالله.
هذا وقد حفل التاريخ الإسلامي قديماً وحديثاً بالفتاوى من كلا الصنفين، الصحيح منها والسقيم، وسجل التاريخ عزة المسلمين ورفعتهم لما كانوا يسيرون وفق فتاوى العلماء الربانيين، وسجل كذلك الذل والمهانة والتبعية لما ساروا خلف فتاوى علماء القصور والسلاطين وأصحاب البدع والأهواء والضلالات.
وسنعرض أولاً لبعض الفتاوى الصحيحة الصادقة المخلصة، والتي رفع بها المسلمون رؤوسهم عالياً، وانعكست آثارها الإيجابية على علاقاتهم الداخلية والخارجية، وتجلجل صداها في جوانب التاريخ، وصارت مضرب المثل في القوة والحزم وشدة التقيد بالأحكام الشرعية وموافقة غرض الشرع الحنيف، إضافة إلى التزام أصحابها بمنهج الاجتهاد والاستنباط الشرعي بالأدلة القطعية من كتاب وسنة وإجماع صحابة، وقياس بعلة شرعية مستندة إلى الكتاب والسنة والإجماع. وهذه الفتاوى كثيرة، ومن أبرزها:
فتوى مبايعة إمام للمسلمين وخليفة لرسول الله في الحكم قبل دفن الرسول صلى الله عليه وسلم.
فتوى أمير المؤمنين أبي بكر الصديق بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بوجوب قتال المرتدين، بمن فيهم الذين منعوا الزكاة وفرقوا بينها وبين الصلاة.
فتوى القاضي جُميع بإخراج جيش المسلمين من سمرقند كونه لم يلتزم بالحكم الشرعي في فتوح البلدان.
فتوى أمير المؤمنين الفاروق عمر رضي الله عنه في تطوير الدولة الإسلامية إدارياً، واعتماده نظام الدواوين. وفتواه العظيمة في أرض السواد وعدم توزيعها على المقاتلين.
فتوى أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه بغزوات البحر لاستكمال الفتوح.
فتوى أمير المؤمنين عليِّ رضي الله عنه في قتال الخوارج حتى أراح المسلمين من شرِّهم.
فتوى سيد شباب أهل الجنة الحسن رضي الله عنه في التنازل عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنه، جمعاً لكلمة المسلمين، وسمّي ذلك العام بعام الجماعة.
فتوى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله بتكفير القائل بخلق القرآن، والتشنيع على منهج التأويل الفاسد للقرآن.
فتوى الإمام النووي رحمه الله بإبطال مصادرة السلطة لأملاك الناس، وذلك عندما أمر السلطان بأخذ كثير مما بيد الناس من البساتين، بحجة أنها أملاك الدولة، إلاَّ من يُظهر وثيقة، فكانت الفتوى سبباً في إبطال القرار الجائر.
فتوى سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله، بتحريم بيع السلاح للإفرنج، لأنَّهم يقاتلون المسلمين. وفتواه رحمه الله ببطلان عقود الأمراء في مصر، لأنهَّم أصلاً مملوكون، فلا يصح تصرفهم، فنادى عليهم بالبيع، واشتهر بعد ذلك ببائع الملوك. وفتواه ببطلان ولاية شجرة الدرِّ على مصر فتنحّت قسراً. وفتواه في تحريم أخذ أموال عامَّة الناس لقتال التتار، حتى يُؤخذ أولاً ما في بيت المال، وثانياً بعد أن يدفع الأمراء والتجار والأغنياء، فيتساوى الجميع في البذل.
فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عندما تردَّد الناس في قتال التتار الزاحفين على الشام بسبب أنَّ فيهم من يُظهر الإسلام، قال ابن كثير: فقال ابن تيمية: «إذا رأيتموني من ذلك الجانب، وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم ونياتهم، ولله الحمد». وفتواه رحمه الله للجيوش الإسلامية حتَّى التي تقاتل في بلادها، بالفطر في رمضان، قال ابن كثير: «وأفتى الناس بالفطر مدّة قتالهم، وأفطر هو أيضاً، وكان يدور على الأجناد، والأمراء، فيأكل من شيء معه في يده، ليعلمهم أنَّ إفطارهم ليتقووا على القتال أفضل، فيأكل الناس، وكان يتأوَّل في الشاميين قوله صلى الله عليه وسلم: «إنكم ملاقو العدو غداً، والفطر أقوى لكم»، فعزم عليهم في الفطر عام الفتح كما في حديث أبي سعيد الخدري. وفتواه في قتال الروافض المتآمرين مع الفرنجة والتتار على المسلمين.
فتوى علماء الخلافة الإسلامية العثمانية بوجوب انطلاق الفتوحات غرباً في أوروبا، وقد بدأ المشروع بفتح القسطنطينية، ولم تتوقف حتى حاصرت فيينَّا، ودخل في دين الإسلام من شعوب أوروبا من لا يحصيهم إلاّ الله تعالى.
فتوى أئمة المالكية في المغرب العربي بالجهاد ضد الاستعمار، حتى اشتعل الجهاد من ليبيا إلى الجزائر، والمغرب، ومن ذلك فتوى الإمام سيدي العربي الفاسي بإبطال اشتراط الإمام لجهاد الاستعمار.
فتوى الشيخ العلامة إسماعيل الشهيد من الهند بوجوب جهاد الاستعمار البريطاني، وقد استشهد رحمه الله في معركة بالاكوت عام 1243هـ، وكان لفتاوى علماء الحديث الهنود في تلك الحقبة أعظم الأثر في جهاد الاحتلال الإنجليزي.
فتوى الشيخ عبد الله كويليام البريطاني المسلم من ليفربول بحرمة معاونة الجيش البريطاني المحتل لبلاد المسلمين، وهذا ملخصها مترجماً: (بسم الله الرحمن الرحيم، تعلمون أيها المسلمون أن الحكومة البريطانية قررت أن تبدأ العمليات العسكرية والحربية ضد المسلمين في السودان الذين حملوا السلاح للدفاع عن بلادهم ودينهم. وكان البريطانيون يأملون في توظيف الجنود المسلمين لمحاربة هؤلاء المسلمين من السودان، ويحرم على أي مؤمن حقيقي حمل السلاح والقتال ضد مسلم آخر، فهذا يتعارض مع الشريعة الإسلامية. وأنا أحذر كل مؤمن صحيح من أن يعطي أدنى المساعدة في هذه الحملة المتوقعة ضد المسلمين في السودان، ولو كان ذلك إعطاء كسرة من خبز أو لقمة من طعام أو شربة من ماء إلى أي شخص شارك في الحملة ضد هؤلاء المسلمين، فإنه يكون ممن يساعدون الكفار ضد المسلمين، ويكون اسمه غير جدير أن يستمر على قائمة المؤمنين). وقد كرمه السلطان عبد الحميد الثاني، آخر السلاطين العثمانيين، ومنحه لقب» شيخ الإسلام في بريطانيا».
فتوى الشيخ حسن البنا رحمه الله بوجوب التحرُّك الجماعي بالسعي لاستعادة الخلافة الإسلامية، وتكوين الجماعات الحركية لتحقيق هذا الهدف.
فتوى الشيخ عزّ الدين القسام رحمه الله بجهاد الصهاينة حتى يُطردوا من أرض فلسطين، وقد أدّى جهاده رحمه الله، إلى إذكاء روح الجهاد في فلسطين.
فتوى العلامة أحمد شاكر في تحريم موالاة الإنكليز والفرنسيين ضد المسلمين، إبّان الاستعمار الذي أذاقوا فيه العالم الإسلامي سوء العذاب.
فتوى العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله بحرمة استقدام القوانين الأوروبيّة الوضعيّة إلى بلاد المسلمين، وإقصاء الشريعة الإسلامية، قال رحمه الله : (إنَّ من الكفر الأكبر المستبين، تنزيل القانون اللعين، منزلة ما نزل به الروح الأمين، على قلب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ليكون من المنذرين، بلسان عربيّ مبين).
فتوى علماء أفغانستان بوجوب قتال الاتحاد السوفياتي لطرده من أفغانستان.
فتوى الملاَّ محمد عمر بوجوب جهاد المحتل الصليبي الأميركي لأفغانستان، وتحريم تمكينه من أي من مطالبه.
فتوى علماء العراق، وهيئة علماء المسلمين فيه بوجوب جهاد المحتلّ، ودعم المقاومة، وعدم الاعتراف بكلِّ ما ترتب على الاحتلال مما يُسمى بالعملية السياسية، أو حكوماته المتعاقبة.
فتوى علماء فلسطين، وكثير من علماء المسلمين، ببطلان أيِّ اتفاقية مع العدوِّ الصهيوني، تتضمن التنازل عن حقوق المسلمين في فلسطين، وأنَّ الجهاد فرض على الأمِّة، كلٌّ بما يقدر عليه، حتَّى طرد الصهاينة من أرض الإسلام في فلسطين، وتطهيرها كلها من دنسهم، وأنَّ كلَّ من يقف مع العدوِّ الصهيوني ضدّ هذا الحقِّ، أو يعيق الجهاد، ويلاحق المجاهدين، أو يحاصرهم، فهو خائن مرتد كافر.
ومن أعظم الفتاوى المعاصرة، فتوى الشيخ العلامة المجدد تقي الدين النبهاني رحمه الله بوجوب قيام حزب سياسي على أساس الإسلام، على غرار تكتل الصحابة الكرام رضوان الله عنهم أجمعين، يعمل لإقامة دولة الخلافة الإسلامية الثانية الراشدة على منهاج النبوة، عملاً بقول الله سبحانه وتعالى: ] وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [. واستنباط الطريقة الشرعية لإقامتها من خلال الدراسة السياسية والفقهية لسيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم باعتباره أول من أنشأ دولة إسلامية في المدينة المنورة بعد عمل دعوي متصل في مكة. فكما أقام الدولة أول مرة نقيمها إذا هدمت، وكما صلى نصلي، وكما صام نصوم، وكما حج نحج، وهكذا عملاً بقول الله عز وجل: ] لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [، وعملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم». وقد أعادت هذه الفتوى للمسلمين الأمل الكبير في استئناف الحياة الإسلامية التي انقطعت بهدم الخلافة العثمانية، وإعادة تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية الغراء، والتخلص من سيطرة الكفار المستعمرين لبلاد المسلمين وأعوانهم من الحكام الخائنين، وأنه لا يجوز شرعاً اعتبارهم أولياء أمر للمسلمين، وحمل دعوة الإسلام العظيم إلى العالمين عن طريق الجهاد في سبيل الله، وذلك بإقامة الخلافة الموعودة في قوله تعالى: ] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [. والخلافة قد بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكونُ النُّبُوَّةُ فيكم ما شاء اللهُ أن تكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ تعالى، ثم تكونُ خلافةٌ على مِنهاجِ النُّبُوَّةِ ما شاء اللهُ أن تكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ تعالى، ثم تكونُ مُلْكًا عاضًّا، فتكونُ ما شاء اللهُ أن تكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ تعالى، ثم تكونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فيكونُ ما شاء اللهُ أن يكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ تعالى، ثم تكونُ خلافةً على مِنهاجِ نُبُوَّةٍ»، ثم سكت. وقد استفاضت فتوى الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله في أوساط المسلمين، وتردد صداها في أرجاء الكون، لأنها تجسدت في حزب سياسي متميز في فكرته وطريقته وتكتله، انطلق من المسجد الأقصى المبارك عام 1953م، وهو يضم اليوم الملايين بين أعضاء ومؤيدين كأنهم شخص واحد، يعمل في أكثر من أربعين بلداً إسلامياً تحت قيادة مركزية واعية، وله حضور لافت للنظر في معظم أرجاء الأرض. وهذا الحزب هو حزب التحرير الذي ارتبط اسمه بالخلافة، وارتبطت الخلافة به ارتباطاً منيعاً لا ينفك بإذن الله حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
لقد عظمت هذه الفتاوى في أمّة الإسلام، وحفظها التاريخ، لأنهّا بُنيت على النصح المحض للأمّة الإسلاميّة بوصفها أمّة واحدة، إمّا لحفظ دينها، أو رسالتها العالمية، أو تميّزها، أو ثوابتها العظيمة، أو وحدتها، أو ثروتها، أو حقوق المسلمين، ولم يخشَ المفتون فيها إلاَّ الله تعالى، ولم يبالوا بما أصابهم في سبيل إرضائه جلّ وعلا بقول كلمة الحقّ. وهم قد اتبعوا المنهج الاجتهادي الصحيح في استخراج فتاواهم باتباع الأدلة الشرعية، دون مبالاة بمِنَحٍ أو مِحَنٍ، وبعيداً عن الأهواء والضلالات، وبلا وجل من ظالم أو فاسق أو كافر، وكان جُل همهم إرضاء الله عز وجل، ومعالجة الواقع الذي تعيشه أمتهم من خلال الحكم الشرعي.
أما ما درج عليه علماء القصور والسلاطين في زماننا ممن باعوا دينهم بدنيا غيرهم، فتسابقوا في إصدار الفتاوى الباطلة المسيَّسة، فقد جلب ذلك الأمر عليهم غضب الله وسخط الناس عليهم، بما سببته فتاواهم من الفتّ في أعضاد المسلمين عن العمل لإعزاز هذا الدين بإقامة دولة خلافة المسلمين الثانية الراشدة على منهاج النبوة، إضافة إلى إغراق الناس في الحرام بولوغهم في القروض الربوية، وكشف العورات والسفور، والسكوت على تقسيم بلاد المسلمين، واتباع الوطنية والعصبية، وموالاة أعداء الله ورسوله والمؤمنين، والقعود عن الجهاد في سبيل الله لتحرير الأرض والمقدسات المغتصبة، وتخديرهم للناس وتسكينهم عن القيام بأعمال حمل دعوة الإسلام رسالة هدى ونور إلى العالم أجمع، ومحاسبة الحكام والخروج عليهم إذا رأوا الكفر الصراح منهم، وغير ذلك من الفروض كثير. ومن هذه الفتاوى:
فتوى شيخ الأزهر السابق الدكتور محمد سيد طنطاوي تبيح الربا وتداول أسهم الشركات في البورصات، عندما قال: إن فوائد البنوك حلال شرعاً وتحديد نسبة الفائدة يضمن حقوق المودعين. كما أكد أن المضاربة في البورصة مباحة باعتبارها من الأمور المستحدثة.
فتوى شيخ الأزهر السابق أيضاً بجواز الصلح مع يهود، والاعتراف بكيان (إسرائيل).
فتوى أحد الفقهاء المعاصرين بأن العملة الورقية ليست فيها زكاة ولا ربا.
فتوى بجواز إعطاء الرشوة لتسهيل قضاء الأعمال، وأنها أصبحت من الأمور المتعارف عليها.
فتوى جواز نظم التسويق الشبكي الذى تقوم به بعض الشركات.
فتوى بدعة الاجتهاد الجماعي في الفتاوى.
فتوى الشيخ ابن باز بجواز استعانة الكويت والسعودية بجملة من الجيوش التي حصلت من جنسيات متعددة من المسلمين وغيرهم لصد عدوان متوقع قد يقوم به رئيس دولة العراق.
فتوى بجواز نكاح المسلمة من كتابي يهودي أو نصراني.
تضارب فتاوى العلماء المعاصرين بشأن التّظاهر، بين مَن يُجيزها لإسقاط أنظمة الحكم الفاسدة والديكتاتورية في الوطن العربي وبين مَن يحظرها. إضافة إلى فتاوى كثيرة بتحريم الخروج على حكام دويلات الضرار بحجة أنهم أولياء أمر.
فتوى مؤسس حركة «منهاج الإسلام» العالمية محمد طاهر القادري، والذي له عدد كبير من الأتباع في بريطانيا، بإدانة الإرهاب والتفجيرات التي سمَّوها «انتحارية»، وتعرّض مرتكبيها لإخراجهم من الدين الإسلامي كلياً، وأيده جملة من العلماء إرضاءً لأميركا والغرب الكافر والشرق الملحد وربائبهم في بلادنا.
فتوى تحريم الجهاد في سوريا للشيخ عبد المحسن العباد.
فتوى تحريم المشاركة في انتخابات السيسي وإيجابها في انتخابات مرسي، وفتوى مضادة بوجوب انتخاب السيسي.
فتوى من بعض علماء فلسطين تجيز الصلح مع يهود قياساً على صلح الرملة الذي أبرمه صلاح الدين مع الصليبيين.
فتوى بجواز شراء البيوت السكنية في الغرب بعقود ربوية.
فتوى حرمة تدمير الأصنام في باميان/أفغانستان. وفتوى جواز قتال المسلم مع جيش الأميركان الغازي لأفغانستان.
فتوى جمع من علماء المسلمين في عمان مؤخراً بخصوص زيارة المسجد الأقصى المبارك وهو تحت احتلال الجيش (الإسرائيلي)، دون أن يتطرقوا إلى وجوب تحريره واستنقاذه والأرض المباركة.
ولو أردنا أن نتتبع فتاوى علماء السلاطين المسيسة والمفتقرة إلى منهجية الاجتهاد الصحيحة، لما وسعنا مقام كهذا، ولأوعبت من كثرتها مجلدات كبيرة تشكو جميعها إلى الله زلات هؤلاء العلماء التي أضرت بدين الأمة ودنياها على نحو غير مسبوق في تاريخها. قال عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه: يهدِم الإسلامَ زَلَّةُ عالمٍ، وجدالُ منافقٍ بالقرآنِ، وأئمةٌ مضِلُّون.
وقد صدق فيهم أمير الشعراء شوقي في قصيدته العصماء التي رثى فيها الخلافة العثمانية عندما قال:
فلتسمعنَّ بكل أرض داعياً يدعو إلى الكذَّاب أو لسِجاحِ
ولتشهدنَّ بكل أرض فتنةً فيها يُباعُ الدينُ بيعَ سَماحِ
يُفتي على ذهب المعز وسيفه وهوى النفوس وحقدِها المِلحاحِ
ولا بد لنا أن نعترف بأن لكل زمان دولة ورجالاً، ولكل دولة مفتيها، فإن كانت الدولة دولة حق فمفتوها من جنسها، وإن كانت دُولَ باطل فمفتوها على شاكلتها.
ومع إقرارنا بأن وضع الإفتاء سيبقى على حاله ما دامت أنظمة الحكم في بلاد المسلمين على حالها تتبع الكفار ولا تطبق الإسلام، ولكننا نهيب بالعلماء الأفاضل عموماً، ومن بقي لديهم بقية من تقوى في نفوسهم، وبقية من غيرة على هذه الأمة ودينها ودنياها على وجه الخصوص، أن يبذلوا وسعهم في إيقاف هذا التدهور الفظيع في الفتاوى، والتردي المريع في طريق الاجتهاد، وأن يسيروا في هذا العمل الشرعي التاريخي وفقا للخطوات الآتية:
إعادة النظر فيما أصدروه من فتاوى ظهر خطؤها وبان فسادها للعامة قبل الخاصة وإعلان التراجع عنها. فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، عسى أن يسجَّل ذلك التراجع في ميزان حسناتهم، ينفعهم يوم الدين، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، كما جاء في الحديث الحسن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
إصدار فتاوى جديدة تقوي دين المسلمين ودنياهم، وتحمل أعلى درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليغضب من يغضب منها، فرضى الله أحق أن يتحقق، والحق أحق أن يتبع.
التلبس بالفرض العظيم والانخراط في صفوف العاملين الجادين والهادفين لإيجاد دولة خلافة المسلمين الثانية الراشدة على منهاج النبوة، القائمة قريباً بإذن الله على أنقاض ممالك الحكم الجبرية المتهاوية. الدولة التي يقف على رأسها أمير المؤمنين المبايع على السمع والطاعة للحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيصحح المسيرة العلمية والفقهية والاجتهادية التي تصدر عنها الفتاوى، كما يصحح باقي المسارات في حياة المسلمين، فتعود الأمور إلى نصابها، والمياه إلى مجاريها، ويرضى حينئذ ساكن الأرض وساكن السماء.
وليعلم علماؤنا الأفاضل أنه بعد قيام الخلافة سيكون هناك إجراءات صارمة بحق المفتين الذين تساهلوا في دين الله إرضاءً للطواغيت، وبقي أثر تساهلهم هذا وتفريطهم في جنب الله مستمراً بعد إقامتها، وستوضع معايير جديدة للمفتين الذين سيسمح لهم بإصدار الفتاوى، فالأمر جد لا هزل.
وفي الختام، نقول لأمة الإسلام: الخير فيها لا ينعدم إلى يوم القيامة، كما أخبرنا الصادق المصدوق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولقد قيَّض الله لهذه الأمة علماء أخفياء أتقياء أنقياء، يقفون بالمرصاد للفتاوى الشاذة ويفندونها، ويحذرون الناس منها. وهم وإن كان صوتهم في الإعلام الفاسد خافتاً، ولكنه عند الله وعند الناس مدوياً، ولا أعلم أن فتوى ضلالة قد استقرت دون أن تهوي على أم رأس أصحابها معاول الهدم والتفنيد لفضحها وكشف بطلانها، وتقوية الناس بفتوى سليمة مؤصلة تبطل ما صنعوا، إن ما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى. وسيأتي اليوم الذي تقوم فيه الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة قريبا بإذن الله، ] لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ [.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقيِّض لهذه الأمّة، على مدى الأزمنة، من العلماء الأفاضل الذين يفتون بالحق غير عابئين بجبروت الباطل ما يعيد لأمّتنا العظيمة أمجادها، ويُعلي راياتها، ويبسط سلطانها، ويخزي أعداءها، ويذلّ أذنابهم من المنافقين، والمنهزمين، والمنبطحين.. كما ونسأله سبحانه وتعالى أن يهدي علماء الأمة اليوم للرجوع إلى الحق، والتمسك به، وعدم مسايرة الواقع الفاسد في فتاواهم، فموقعهم خطير، وتأثيرهم كبير، ولا يكون ذنب أحد أعظم من ذنبهم إن هم أضلوا الأمة، وبقوا في غيهم سادرين. فاللهم اهدهم وائت بهم، واجعلهم منارات للخير، ولا تجعلهم أبواقاً للباطل.
ومسك الختام، نذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه الترمذي في كتاب الفتن قال: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِى قِلاَبَةَ عَنْ أَبِى أَسْمَاءَ الرَّحَبِىِّ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِى الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ» . قَالَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ يَخْذُلُهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ» . قَالَ أَبُو عِيسَى وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وحسبنا الله ونعم الوكيل، وهو نعم المولى، ونعم النصير.q
2014-07-29