المبدأ الرأسمالي ونتنه على العالم (2)
محمد الزيلعي – اليمن
بتتبع الأسباب التي تقف وراء تأخر سقوط الرأسمالية نجد منها أسبابًا نابعة من المبدأ نفسه مثل فكرة الحل الوسط وفكرة النفعية، وأسبابًا أضيفت إلى المبدأ، وليست من جنسه، كي تحافظ عليه في وجه هزات الواقع مثل الترقيعات الكثيرة، ومثل تغيير شكل الاستعمار، ومثل فكرة النظام الدولي. وسنحاول بيان ذلك بإيجاز فيما يلي:
1- وسطية الحل: لقد قام المبدأ الرأسمالي على أساس الحل الوسط، لا بين الدين والعلم، بل بين رجال الدين والعلماء. فهو حل ترضية بين الطرفين. وليس حلًا آتيًا من البحث العقلي الجاد في واقع الدين من حيث هو، وواقع العلم أو الفكر من حيث هو. ومن هنا كان الحل الرأسمالي لمشكلة العقيدة بفصل الدين عن الحياة ولمشكلة المجتمع بفصل الدين عن السياسة حلًا فرديًا لا حلًا إنسانيًا. وانطلاقًا من فردية الحل، ترك المبدأ الرأسمالي متنفسًا ضئيلًا يهرب إليه الفرد عندما تضيق عليه الدنيا وتخنقه الأزمات العقدية والمجتمعية. ويُعتبر هذا المتنفس إشباعًا جزئيًا وضئيلًا لبعض غريزة التدين المفطورة في الإنسان. ورغم هامشية هذا المتنفس، فإنه يحمي، إلى حين، سور الفكر الرأسمالي من السقوط، إذ بسبب هذا المتنفس ترك الفكر الغربي الباب مفتوحًا أمام كل التفسيرات الممكنة للوجود ولو كانت خاطئة ومستحيلة.
2- مقياس النفعية: انطلاقًا من هذا المتنفس العقدي، انبثق مقياس الأعمال في الفكر الرأسمالي. فبوجود هذا المقياس وهو النفعية، نفهم لماذا تستمر الرأسمالية رغم ازدياد ظلمها السياسي للشعوب وبشاعة استغلالها لخيرات الأمم. إن النفعية، سواء سُميت بالبراغماتية اقتصاديًا أم بالميكافيلية سياسيًا، تعتبر حافزًا غريزيًا للحفاظ على المبدأ الرأسمالي. فمن حرية الملكية إلى حرية العمل، ومن الحرية الشخصية إلى حرية الرأي، يأخذ الفرد منها ما يراه نافعًا ويترك ما يراه ضارًا. فالنفعية هي الحافز لتحقيق جميع الحريات. وهي الدافع للفرد كي يحقق مثله الأعلى في الحياة، أي نوال أكبر قدر ممكن من المتع الجسدية. وحيث إن النفعية لا حد لها في الإشباع وتدفع الناس للصراع على السلع والخدمات، كان لا بد من تقنينها بجهاز. ومن هنا صار الثمن هو الجهاز المنظم لكل الحريات والمنافع طبقًا لقانون العرض والطلب. إلا أن المشكلة أن من لا يملك ثمنًا كافيًا لا يتمتع جيدًا. ومن يملك الثمن يحتكر كل المنافع. فصار حتى هذا الجهاز المنظِّم خطرًا على المبدأ نفسه. فكان لا بدّ من تقييده أيضًا؛ وبذلك دخلت الرأسمالية مرحلة الترقيعات للحيلولة دون سقوطها المبكر.
3– إدخال الترقيع: دخل الترقيع في المبدأ الرأسمالي من خلال ما يسمى باشتراكية الدولة والعدالة الاجتماعية. فأما اشتراكية الدولة فقد ظهرت في أوروبا في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر. تبنتها أحزاب اشتراكية اسمًا (روبيرت أوين في إنكلترا، وسان سيمون بفرنسا) لتقف في وجه الأحزاب الاشتراكية الحقيقية، سواء منها التي تنادي بالإلغاء الكلي للملكية الخاصة، أو التي تنادي باشتراكية رأس المال أو الاشتراكية الزراعية. واشتراكية الدولة تعني إدخال التأميم لبعض القطاعات الحساسة في المجتمع مثل البنوك والمواصلات، ووضع حد أدنى للأجور وحد أقصى للربح، مع إعطاء حق التجمع السياسي والنقابي للدفاع عن العمال. أما العدالة الاجتماعية فقد ظهرت خاصة في النصف الأول من القرن العشرين بعد نجاح الحزب البلشفي في الوصول إلى السلطة في روسيا. وهي تعني نظامًا معينًا يتلخص في مجانية التعليم والتطبيب للفقراء، وضمان حقوق العمال والموظفين.
أما لماذا وُجدت هذه الترقيعات والضمانات الدخيلة على المبدأ الرأسمالي كما حدد معالمه الاقتصادية خاصة آدم سميث وريكاردو، فسبب ذلك ما يلي: إن اشتراكية الدولة والعدالة الاجتماعية ظهرتا في النظام الرأسمالي كعلاج طارئ غير أصيل للمظالم الناتجة عن تطبيق الحرية الاقتصادية المطلقة. فهذا العلاج المـسَكِّن هو رد فعل رأسمالي على الاشتراكية الحقيقية وسور حماية للرأسمالية من السقوط والاندثار. وبفعل هذه الترقيعات لم تزدد الرأسمالية إلا انتشارًا وقدرة على التحكم والاستغلال، بل إن شعوبها استساغت ظلمها خاصة بعد فشل الشيوعية وسقوطها، وفي ظل الغياب من الساحة العالمية للدولة الإسلامية التي تصارع الرأسمالية وتصرعها.
4- تغيُّر شكل الاستعمار: إن تغير شكل الاستعمار يعتبر من الأسباب المساعدة على تأخر سقوط القيادة الفكرية والسياسية للرأسمالية عن كرسيِّها، رغم أن الدود قد نخرها ولا يزال منذ مدة طويلة. إن الاستعمار هو طريقة نشر المبدأ الرأسمالي في العالم. وقد كان أسلوبه في البداية هو الاحتلال العسكري المباشر، وكانت الرأسمالية تغطي هذا الاحتلال تحت أسماء الحماية والانتداب والوصاية. إلا أنه مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين كانت المنطقة الإسلامية خاصة، تشهد انجلاءً للوجود العسكري الرأسمالي من على أراضيها؛ إلا أنها دخلت تحت استعمار جديد أشد خطورة وأكثر هولًا من الاحتلال العسكري… إنه الاستعمار السياسي المتمثل خاصة في عمالة الحكام والأحزاب، أي كل الفئات الحاكمة. إنه الاستعمار الاقتصادي المتمثل خاصة في السيطرة على المواد الأولية عبر ربط المنطقة بنظام نقد دولي محكم الهيمنة. إنه الاستعمار الثقافي المتمثل في رسم سياستي التعليم والتوجيه على نمط غربي يسهر على توطيده عملاء في الفكر والتعليم والدين. ومما زاد الطين بلة واقع التجزئة الوطنية والإقليمية الذي ترزح تحت نيره الأمة بعد سقوط الخلافة العثمانية على يد هذه الرأسمالية الكافرة.
5-النظام الدولي: ومما زاد في طغيان المبدأ الرأسمالي وعلوه في الأرض وإفساده فيها ما يُسمى بالنظام الدولي أو السلام العالمي. وحتى نفهم أسباب تأخر سقوط الرأسمالية لا بُد أن نتعرف على سبب نشأة النظام الدولي وعلى واقعه الحالي. ذلك أن هذا النظام بات أسلوبًا دائميًا تعتمده الرأسمالية للحفاظ على كيانها ولإطباق هيمنتها على العالم.
بعد أن تسلَّقت الخلافة العثمانية أسوار «روما» تتطلع بشوق إلى الفاتيكان علّها تحقق نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم بفتح روما بعد القسطنطينية، خرجت الدول الأوروبية، وخاصة إنكلترا، إلى العالم بفكرة السلام العالمي، وقد عملت على إيجاد رأي عام دولي لهذه الفكرة. كان هدف الرأسمالية من هذه الدعاية ابتداءً هو إيقاف زحف الجهاد والدعوة الإسلامية. فلما توقف الزحف، أصبح السلام العالمي يعني استرداد الأراضي الأوروبية التي فتحتها الدولة العثمانية. فلما استُردت هذه الأراضي واستقلت سياسيًا بفصلها عن إسطنبول، صار السلام العالمي هو الطمع بما تبقى من تركة «الرجل المريض». ومع بداية القرن العشرين، وبسقوط الدولة العثمانية، بات السلام يعني توزيع هذه التركة كمناطق نفوذ للدول الرأسمالية المنتصرة في الحرب.
ورغم تغير المتزعمين للنظام الدولي فإن واقعه بقي هو هو: أي إضفاء الشرعية الدولية على الاستعمار بكل أشكاله للمحافظة على مصالح الرأسمالية. ولتوضيح هذا الواقع سوف نتتبع أبعاد النظام الدولي كما تنادي به أميركا بعد انتصارها على حكام العراق.
أولًا: التدخل في سيادة الدول التي تشق عصا الطاعة للقيادة السياسية الرأسمالية أو تهدد حضارتها وقيادتها الفكرية، وذلك ضمن ما سمته أميركا بالترتيبات الأمنية في المنطقة.
ثانيًا: السيطرة على أسلحة الدمار الشامل (الجرثومية والكيماوية والنووية) وتنظيم تدفق الأسلحة التقليدية إلى مناطق النفوذ. وذلك بما يبقي السبق العسكري لكيان يهود، وبما يحفظ كيان الحكومات الخيانية القائمة في العالم الإسلامي.
ثالثًا: ضمان تدفق الأموال والثروات خاصة البترول، وتنظيم توزيع الأسواق في المنطقة لاستهلاك السلع الأجنبية. كل ذلك بما يخدم مصلحة أميركا ويُبقي لها السبق على أوروبا واليابان للسيطرة على العالم. وما مؤتمر الصلح والسلام مع كيان يهود إلا حلقة من هذا التنظيم للأموال. وذلك من أجل إرساء تعاون اقتصادي علني بين هذا الكيان ودول المنطقة بهدف ترويض عقل الأمة ونفسيتها لتقبل سياسة الأمر الواقع، أي مبادلة الأرض بالسلام، أو حتى مقايضة السلام بالسلام. وليست منظمة الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والشركات العالمية وغيرها من الجمعيات الدولية والإقليمية سوى أدوات سياسية ومالية لإضفاء الشرعية للسيطرة السياسية والنهب الاقتصادي اللذين تمارسهما الرأسمالية في العالم.
والسؤال الذي نطرحه بعد هذا البيان لأسباب تأخر سقوط الرأسمالية هو: هل هذا الاستكبار الرأسمالي «قَدَر» لا يُرجى الفكاك منه، أم أنه واقع سياسي يخضع، رغم جبروته، وكبقية الوقائع السياسية والتاريخية إلى سنة التداول وإلى قانون الصراع بين الحق والباطل، وبين الإسلام والكفر؟.
رابعًا: أسباب حتمية سقوط الرأسمالية: إن تغير موازين الصراع وتبدل مواقع القيادة سنة الله التي لا تحابي هذه الأمة في تاريخها منذ انبثاق فجر الإسلام. والمعادلة الوحيدة التي تحكم تاريخ أمتنا الإسلامية هي معادلة الصراع بين الإسلام والكفر. يكون الصراع فكريًا تارة ودمويًا تارة أخرى، وستظل هذه المعادلة هي الحقيقة التي تتجدد طالما كان ثمة إسلام وكفر ومسلمون وكفار. وبناءً على هذه المعادلة نُسجل بارتياح حَذِر أننا نقف على أعتاب مرحلة احتضار الحضارة الغربية وترنّحها للسقوط وميلاد الحضارة الإسلامية وتأهبها للسيادة. فما هي أعراض موت الحضارة الرأسمالية ومن ثم حتمية سقوطها؟ وما هي بوادر استئناف الحياة في الحضارة الإسلامية ومن ثم حتمية انتصارها؟
سنبدأ بالإجابة عن السؤال الأول، والإجابةُ عن السؤال الثاني في المحور الأخير.
1- خطأ الوسطية: إن المبدأ الرأسمالي، وإن ترك متنفسًا للفرد في حله للعقدة الكبرى المتعلقة بالسؤال حول الوجود والمصير؛ إلا أنه متنفس خاطئ لا يحل مشكلة الفرد فضلًا عن عجزه أن يحل مشكلة الإنسان أو الأمم. ذلك أن فطرة التدين عند الإنسان كما تبرز في التقديس للخالق تبرز في التدبير لشؤون الحياة. بحيث إن التدين، كما يُشبع بالعقائد ونظام العبادات يُشبَع كذلك بنظام الحياة والمعاملات. فعجز الإنسان واحتياجه للخالق المدبر لا يظهر فقط في علاقة الإنسان بربه أو بنفسه بل يظهر جليًا في علاقة الإنسان بالإنسان. ويتأكد حضور هذا الاحتياج للخالق المدبر في هذه العلاقة بالذات، وذلك نظرًا لتعقد علاقات بني الإنسان وتطور وسائل إشباعه لحاجاته وغرائزه. فإقصاء الدين عن الحياة عمومًا وعن السياسة خصوصًا فيه مخالفة لفطرة الإنسان. ومن هنا كان المبدأ الرأسمالي مخفقًا من ناحية فطرية وعقلية لقبوله بالوسطية في أمر خطير يحدد معنى وجود الإنسان في الحياة الدنيا ونمط سلوكه فيها؛ لذلك كانت القيادة الفكرية الرأسمالية سلبية بجعلها الدين مسألة فردية، وبإبعاده عن حل مشاكل الإنسان في الحياة.
2- وضعية النظام: انطلاقًا من فردية الحل لمسألة العقيدة، صار الإنسان في المبدأ الرأسمالي هو الذي يضع نظامه في الحياة ويحدد مثله الأعلى فيها. إن أي نظام مجتمعي يُشرعه الإنسان يكون عرضة للتناقض والتأثر بالبيئة؛ لذلك فليس غريبًا ما نراه من فراغ روحي يعصف بالإنسان الرأسمالي، وليس غريبًا أيضًا ما نشاهده من تنقيحات دائمية للدساتير والقوانين الوضعية في محاولة لإخفاء عجزها عن حل مشاكل الإنسان. إن الرأسمالية الآيلة إلى الزوال والشيوعية المنهارة يتفقان سويًا في أن الإنسان هو الذي يضع نظام حياته بنفسه. ويتفقان أيضًا أن المثل الأعلى للإنسان والسعادة عنده تكون عبر الأخذ بأكبر نصيب ممكن من المتع الجسدية. إن مثل هذا المثل الأعلى ومثل هكذا مفهوم عن السعادة هما جملة ما أودى بحياة الشيوعية. وهما من جملة ما سيُودي بحياة الرأسمالية. فبجعل المتع الجسدية مثلًا أعلى في الحياة صار الإنسان لاهثًا هستيريًا وراء إشباع غرائزه وحاجاته العضوية. ولكن بحكم تناهي المثل الأعلى الذي يضعه الإنسان ومحدوديته يقف الرأسمالي أمام وضعين رهيبين أولاهما: إذا تمكن من الإشباع الكلي لحاجاته وغرائزه بحكم توفر الثمن له، فإنه يصبح معَرَّضًا للعيش في فراغ مقيت يؤدي به إلى الانتحار أو الشذوذ أو على أقل تقدير إلى رتابة الحياة وتفاهتها. وثانيهما: وفي صورة عدم امتلاكه للثمن الكافي فإنه لا يستطيع إشباع حاجاته إشباعًا كاملًا، وهذا الأمر غالبًا ما يدفعه إلى اليأس والإحباط وكل الأمراض النفسية والعصبية التي تدرسها أبحاث النفس والتربية. وقد يَرُدّ بعض الرأسماليين الفعل في محاولة لنسيان الوجود، والهروب من المجتمع، وأزمة الحضارة الغربية… من خلال الجريمة والمخدرات والهامشية.
3- الأزمة الاقتصادية: إن تصاعد نسب الإجرام والمخدرات ومرض الإيدز والهامشية… في العالم الغربي يعبر عن الأزمة الخانقة للفكر الأساسي للرأسمالية. ولئن استطاع هذا الفكر أن يُنهض الغرب سابقًا؛ إلا أن هذه النهضة خاطئة، وسبب ذلك أن هذا الفكر لم يكن أساسه روحيًا، ولم يُبنَ على العقل، ولم يوافق الفطرة في حلّه للعقدة الكبرى. وحتى التقدم الاقتصادي والصناعي الذي جسّد ماديًا هذه النهضة فإنه بدأ يدخل مرحلة الأزمة الحرجة من تاريخ الرأسمالية.
وتبدو معالم هذه الأزمة من خلال أهم القطاعات الإلكترونية والكومبيوتر. لقد نشأ هذان القطاعان بعد الحرب العالمية الثانية. ولئن حافظا على نمو مطرد، ولم يتعرضا إلى التقلبات والأزمات الدورية التي مرت بها صناعات أخرى مثل السيارات والكهرباء والكيمياء، إلا أنه إثر حرب الخليج وما تبعها من نظام ضبط دولي لبيع الأسلحة ذات الدمار الشامل والتقليدية، دخل هذان القطاعان كبقية الصناعات الأخرى في مرحلة حرجة. وما الأزمة التي تمر بها شركتا «جنرال موتورز» و«إم.ب.أ» (I.B.M) واختفاء شركة «بان أميركان» إلا مظاهر لهذه المرحلة الحرجة. وهذا ما دفع بالكثير من الشركات والبنوك الصغيرة في أوروبا وأميركا واليابان أن ينضم بعضها إلى بعض، أو تنضم إلى مؤسسات مالية وتجارية كبرى حتى تهرب من الإفلاس والعجز وتستطيع مواجهة تحديثات الأزمة الاقتصادية.
إن تراجع النمو الاقتصادي في الدول الرأسمالية أصبح أمرًا يقلق ساستها. فهذه أميركا تعاني عجزًا كبيرًا في الموازنة وانخفاضًا هامًا في الصادرات وفقدانًا للقدرة على المنافسة. أما أوستراليا وبريطانيا وكندا وفرنسا فحالها أسوأ من أميركا. بقيت اليابان وألمانيا. فإنهما تشهدان نموًا بطيئًا بحكم عالمية الأزمة وارتباطهما برؤوس الأموال والشركات الأميركية، فخلال عام 1991م، نما كل من الاقتصاد الياباني والألماني بنسبة 1,5% وهو أمر يخيف كثيرًا بال الإدارة الأميركية ويؤثر على وضعيها الدولي والداخلي؛ لهذه الأسباب سعى جورج بوش إلى عقد اتفاق مع اليابان يقربها من أميركا ويبعدها عن أوروبا. فما كان من جاك ديلور رئيس السوق الأوروبية المشتركة إلا أن سارع إلى زيارة اليابان لتحقيق تعاونها مع أوروبا وحتى لا يوجد مجال لتمايز أميركي- ياباني. ومما يزيد في قلق السياسة الاقتصادية الرأسمالية هو الاضطرابات الاقتصادية الناجمة عن انهيار الاتحاد السوفياتي وما تبعه من تزايد خلل اقتصاديات دول أوروبا الشرقية. والنتيجة التي نخرج بها من تحليل أبعاد الأزمة الاقتصادية التي تخنق العالم الرأسمالي هي التالية: إذا كان النظام الاقتصادي الرأسمالي هو أبرز ما نتج عن عقيدة هذا المبدأ، وبما أن الحكم في الغرب يقوده عمليًا رؤساء الأموال، فإن سقوط القيادة السياسية والفكرية للرأسمالية مرتبط إلى حد كبير باستمرار الأزمة الاقتصادية وتفاقمها. وهذا ما تدركه الدول الرأسمالية أيّما إدراك. وإلا فما معنى هذا السباق الهستيري والصراع المحموم بينها على مناطق النفوذ والثروات في العالم عامة وفي المنطقة الإسلامية خاصة.
4- الصراع بين الرأسماليين: إن الصراع بين الدول الرأسمالية يأخذ تارة بُعدًا اقتصاديًا وتارة أخرى بُعدًا سياسيًا. وهما بُعدان يعكسان حقيقة الأزمة التي تعيشها الرأسمالية. وحل هذه الأزمة يكون عندنا باحتلال مقعد الدولة الأولى للسيطرة على الثروات والأسواق والمواد الأولية. إن مبدئية الدول الرأسمالية لا تمنعها أن تتعامل فيما بينهما وفق المصالح القومية والوطنية. وهذا أمر طبيعي ناتج عن المبدأ نفسه. فالنفعية هي مقياس لكافة الأعمال المتعلقة بالفرد والدولة والمجتمع؛ لذلك تعتبر الثروة البترولية الهائلة الموجودة في منطقتنا هي سبب الصراع بين أميركا وأوروبا عمومًا، خاصة بعد اندحار الشيوعية وسقوط الاتحاد السوفياتي من الموقف الدولي. ومن هنا تعمل أميركا على كسر شوكة بريطانيا وفرنسا، وتسعى للحيلولة دون صعود اليابان وألمانيا للتأثير في الموقف الدولي بما لهما من وزن اقتصادي هام.
لهذا نفهم سبب السرعة الصاروخية التي أخذ بها قرار جعل جمهورية روسيا تحظى بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن والتمتع بحق الفيتو. وهو قرار أخذته أميركا وبريطانيا بسرعة جنونية حتى لا يُوجد مجال للنقاش حول المفاضلة بين الجمهوريات السوفياتية. وكذلك حتى لا يُفتح المجال أمام ألمانيا واليابان للمطالبة باحتلال مقعد دائم مع حق النقض في مجلس الأمن؛ خاصة وأنهما يتمتعان بوزن اقتصادي قد يؤثر على السياسات الأميركية مستقبلًا. فهذا الصراع الأميركي ـ الأوروبي ـ الياباني اقتصاديًا يُخفي رغبة سياسية من جانب أوروبا وبريطانيا خاصة لاحتلال مقعد الصدارة السياسية في العالم، ولملء الفراغ الناتج عن غياب الاتحاد السوفياتي عن المسرح الدولي. فأميركا التي أعانت أوروبا عبر مشروع مارشال وباركت تكاملها الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية لتقف في وجه الاتحاد السوفياتي، تخشى اليوم أن يقود هذا التكامل الاقتصادي للبيت الأوروبي إلى تكامله السياسي. وهو أمر يُهدد السلام العالمي كما تريده أميركا. لذلك فهي تحاول لعب دور الشرطي المنفرد رغم ما تكلفها هذه السياسة من نفقات كبيرة تزيد في أزماتها الداخلية.
إن الرأسمالية بنيت على جرفٍ هارٍ، فهي أصلًا وفصلًا باطلة، ولا تصلح للإنسان كونها لا تنسجم مع فطرة البشر. فتطبيقها عليهم يخلق المشاكل والأزمات المتتالية، وما أن يتم ترقيع مشكلة حتى تظهر أزمة جديدة، فأصبح الحل الوحيد بعد أن اتسع الفتق على الراتق هو إسقاط الرأسمالية كنظام والعلمانية كعقيدة من حسابات البشر؛ لأنها لا تصلح سوى لتدمير البشرية والإجهاز عليها. ومن الغريب أن يتشدق أناس بانتصار الرأسمالية على ما عداها، وبأن التاريخ قد توقف، لعدم وجود من ينافس الرأسمالية، وذلك صحيح بالنسبة للاشتراكية، أما بالنسبة للإسلام، فهو لم يستقر الآن في دولة تحمله للعالم، وهو عائد إلى الحياة الدولية بقوة، وبعون الله عن قريب، وعندها سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
إنّ العلمانية هي الجرثومة التي تصيب بمرض اسمه الرأسمالية الذي يُعنى بالقضاء على الإنسان كإنسان. فهل بعد هذا كله يصح القول بأن علينا أن نأخذ من الغرب الكافر ما نصلح به حالنا من علمانية ورأسمالية، بينما هي كفر محض تهبط بالإنسان إلى أدنى مراتب الانحطاط؟! وهل نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وهو الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده والذي لا يصلح حال البشر إلا به. وهو القائل سبحانه: ( يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡۖ ) والقائل جلَّ جلاله: (وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا ) …. فالرأسمالية والعلمانية هي الكفر الذي يحط من قدر الإنسان، بل ويخرجه عن إنسانيته. والإسلام هو الذي يقرّر ما في فطرة الإنسان من ضعف وعجز واحتياج، وليس فقط إلى موجد أوجده من عدم، وإنما إلى من يدبر له أمر تنظيم إشباع طاقاته الحيوية على وجه يضمن له الهناءة والسعادة، والإشباع الصحيح.