هل يستعد أردوغان لإعلان الخلافة في تركيا؟
عصام الشيخ غانم
لقد تاق المسلمون حقًا إلى الخلافة، فمن بين أنقاض الذل والدمار الذي يكاد يعم العالم الإسلامي، فإن أبصار المسلمين اليوم تنتظر اليوم الزلزال، ذلك اليوم الذي يأخذ فيه المسلمون في تركيا والبلاد العربية وباقي بلاد الإسلام زمام المبادرة التي فقدت، ويتخلون فيه عن أي ولاء إلا لربهم، وعن أي نظام إلا نظام دينهم، ذلك الإسلام العظيم. فكما نقل الإسلام العرب من أمةٍ هامشيةٍ لا قيمة لها بين الأمم إلى قمة الريادة، بعد أن قامت بتسوية أوضاعها الداخلية بأحكام الإسلام، وبنت قوتها في فترة وجيزةٍ للغاية، لا تزال موضع دراسة المفكرين السياسيين، وأخذت تغزو ما حولها وتنشر الإسلام العظيم، وأقبلت القبائل العربية في الجزيرة على الدين الجديد، واشتد عود الإسلام قبل انقضاء العقد الأول لدولة محمد عليه الصلاة والسلام، ثم أخذت تغزو الدول الكبرى من حولها. والسؤال الكبير الذي يجيب عليه المسلمون بسهولة: هل إذا أعدنا الكرة اليوم مرة أخرى، وأقمنا دولة الخلافة الثانية، هل نستطيع أن نكون كما كانت دولة الإسلام الأولى؟ وإذا كان المسلمون يجيبون بالتأكيد بـ«نعم»، فإن مفكري دول الكفر هم أيضًا يعرفون ذلك حق المعرفة، ويتخوف السياسيون في الدول الكبرى من عودة الإسلام. ويتخوفون من أن تكون عودة الإسلام انطلاقًا من دولةٍ قوية اليوم كتركيا التي يحلم شعبها بإعادة أمجاد الإسلام مستأنسين بالتاريخ العثماني، عندما كانت إسطنبول مركز الدولة الإسلامية والأمة قاطبةً، أو عودته من دولةٍ قويةٍ كباكستان، أو كمصر التي تملك جيشًا كبيرًا وتتصل بالبحر المتوسط والأحمر، وفيها السويس ممر التجارة العالمية. وهذه المخاوف تقضُّ مضاجع سياسيي الدول الكبرى خاصة أميركا.
ولوعي حقيقة المخاوف الأميركية والأوروبية من زلزال الخلافة، فإن الغرب يرى حالة استعصاء في الأمة الإسلامية. وذلك أن الغرب كان يتحكم في كل صغيرة وكبيرة بسهولةٍ في المنطقة الإسلامية، فكان كل شيء في قبضته؛ لكن مع بداية هذا القرن، فقد نمت حالة جديدة من الاستعصاء في الأمة الإسلامية، كانت أول ملاحظة كبيرة لهذه الحالة سنة 2001م، عندما رفضت حركة طالبان – أفغانستان التخلي عن القاعدة التي اتهمتها أميركا بحوادث 11 أيلول/سبتمبر، وفضلت حركة طالبان القتال، وخسرت الحكم باحتلال أميركا لأفغانستان؛ لكنها رفضت الانصياع. وكانت تلك البداية، ثم كان الاحتلال الأميركي للعراق سنة 2003م. فبعد أن أعلنت أميركا النصر على الجيش العراقي، وجدت نفسها أمام مقاومة شرسة لا تهاب الجيش الأميركي، وقد مرَّغته في أوحال العراق، وكاد أن يهزم. ثم سنة 2011م، كانت انتفاضات الربيع العربي المنادية بإسقاط النظام، أي الأنظمة العميلة لأميركا وأوروبا، والتي تعفنت وتآكلت شرعيتها الشعبية إلى درجة وضعتها على حافة الانهيار، ولم تكن تلك الانتفاضات متوقعة في دوائر المخابرات الأميركية والأوروبية، فأشعلت تلك الدول ناقوس الخطر الكبير أمام حالة الاستعصاء التي أخذت بالتفجر. وكان للثورة السورية المندلعة منذ سنة 2011م وضع خاص، فقد صاحب المناداة بإسقاط النظام مناداة أخرى بإقامة الخلافة الراشدة، وكانت مناداةً ساخنةً للغاية؛ لذلك تعاملت معها أميركا بالكثير من القوة، من إرداف النظام بإيرانيين وروس وغيرهم في محاولةٍ لإخمادها، مع أن أميركا ظهرت وكأنها ضد النظام السوري وحلفائه الروس والإيرانيين، وهذه السياسة الأميركية لازمة وضرورية لتطويق الخطر، وإلا تفاقمت الأمور وانفجرت، وتفلتت من أيديها وأيدي أتباعها. وبالمجمل فإن الثورة السورية قد جعلت أميركا ترتجف بأنها على عتبة زلزال الخلافة على منهاج النبوة.
وهنا ظهرت على الساحة مسألتان: الأولى أن تركيا قد صارت تتعاون بشكل كبير مع أميركا لاحتواء الثورة السورية، وكان الرصيد الأكبر أمام تركيا أن الحزب الحاكم فيها يوصف بـ «الإسلامي»، ولرئيسها أردوغان شعبية كبيرة لدى الحركات التي توصف بأنها حركات «إسلامية معتدلة». وأما الثانية فكانت إعلان خلافة مزيفة في مدينة الموصل. وبناءً على هاتين المسألتين فقد نشأت في أميركا نظرة جديدة عنوانها «تركيا عثمانية» قد تكون طريق النجاح لنزع حالة الاستعصاء في العالم الإسلامي. وللتأكيد على جدية النظرة الأميركية، فقد نقلت CNN عربي 12 حزيران/يونيو 2014م: «وعلى مدى سنوات، تكهن خبراء بأن عوامل، بعضها موغل في التاريخ، وبعضها الآخر مرتبط بقرارات مهمة حديثة، يمكن أن تزيد من صب الزيت على النار في المنطقة الملتهبة» وحذر مفكرو «المجلس الأطلسي» من أن تقود الفوضى في المنطقة العربية إلى فكرة «أساسها إنشاء دولة الخلافة على مساحة واسعة». وحذر خبراء أميركان سنة 2016م من اندلاع حربين كبيرتين في وجه أميركا، إحداها في المنطقة الإسلامية، والأخرى في الصين. والمعنى أن أميركا، وللحفاظ على نفوذها ومكانتها الدولية، تنظر بجدية كبيرة في احتمال قد لا تكون مقدماته متوقعة بأن يتفجر في وجهها زلزال دولة الخلافة؛ لذلك فقد أخذت تعد العدة. وحتى يكون الأمر واضحًا لا بد من إلقاء نظرة على حقيقة الحكم في تركيا وتبعية أردوغان، وحقيقة استقطاب الجماعات التي توصف بأنها «إسلامية معتدلة» إلى إسطنبول وأنقرة، ثم العودة إلى جدية النظرة الأميركية بــ «تركيا عثمانية» والتسهيلات التي صارت أميركا تقدمها لـ «تركيا عثمانية»، ثم رؤية المؤشرات «العثمانية» التي صار يظهر بها أردوغان، ومن كل ذلك الحكم على جدية هذه الفكرة الخطيرة، حتى لا يسقط فيها المسلمون كفخ سياسي كبير.
حقيقة الحكم في تركيا
أما عن حقيقة الحكم في تركيا فهو علماني بامتياز، فالنظام العلماني الذي بناه مصطفى كمال على أنقاض الخلافة العثمانية لا يزال هو الحاكم في تركيا اليوم. فشكل الدولة، سواء أكان رئاسيًا كما أراده أردوغان وأجرى له استفتاءً سنة 2017م، أم برلمانيًا يقود فيه الدولة رئيس الوزراء، فكلاهما من مشتقات النظام الرأسمالي التي لا تمت بصلة إلى ديننا العظيم، وليس لها أي ارتباط بالإسلام، فهو نظام غير إسلامي من حيث شكل الحكم. وأما السياسة المتبعة ففي جانبها الداخلي سياسة رأسمالية لا إسلامية، فقوانين تركيا اليوم هي قوانين وضعية يسنُّها البرلمان، وليس من قوانينها أحكام شرعية، إذا استثنينا بعض الأحوال الشخصية، وهذا بعض قليل، فحتى مسألة الزواج بأكثر من امرأة التي أباحها الإسلام فهي محرمة وممنوعة وفق القوانين التركية، بل ويسمح للمسلمة الزواج بكافر، وأحكام القضاء وضعية لا سند لها من الشرع.
وعلى الرغم من كل ما يوصف به حزب أردوغان «العدالة والتنمية»، وهو الحزب الحاكم، بأنه حزب إسلامي، إلا أن ذلك مجرد صورة لم تغير من القوانين الوضعية شيئًا، بل ولا تحاول التغيير. فقد درجت بعض الجماعات التي توصف بالإسلامية على طرح فكرة «التدرُّج» في تطبيق الأحكام الشرعية، وأبسط فهم لمعنى «التدرُّج» حتى بغض النظر عن النظرة الشرعية فيه، أن الدولة القائمة على تطبيق الإسلام بـ «التدرُّج» تطبق جزءًا وتؤجِّل جزءًا آخر، وكل عام تضيف من الأحكام الشرعية شيئًا جديدًا، وهذا أبسط فهم. إلا أن الرئيس التركي أردوغان وحزبه «الإسلامي» لا يطبق أي أحكام شرعية (باستثناء ما قلناه من بعض قليل من الأحوال الشخصية التي كانت أصلًا قبل أردوغان) ورغم حكمه لتركيا منذ سنة 2002م، إلا أن تطبيق الأحكام الشرعية في الدولة لا يشهد أي زيادة، وهو (الرئيس أردوغان) لا يطرح فكرة «التدرُّج» أصلًا، ولا يقول بها، وليس في أي من برامجه الانتخابية أي طرح للأحكام الشرعية، فهو علماني علني، ولا يخجل من علمانيته، بل طالب الإخوان المسلمين في مصر بالعلمانية (حث رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان المصريين، من أجل العمل على بناء دولة علمانية، مؤكدًا أن الدولة العلمانية لا تعني دولة اللادين. ودعا أردوغان، خلال لقائه مع قناة «دريم» التلفزيونية المصرية، إلى وضع دستور مصر بناء على المبادئ العلمانية، معتبرًا أن تركيا تشكل نموذجًا للدولة العلمانية المناسبة، ومشيرًا إلى أنه مسلم، بالرغم من توليه رئاسة وزراء دولة علمانية.) وكالة DWA الألمانية 13/9/2011م.
بل إن أردوغان وحزبه يتشدَّدون في مكافحة الأحكام الشرعية (قرر حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا، إرسال نائبين إلى مدينة «ريزه» على البحر الأسود، من أجل فتح تحقيق رسمي مع عضو الحزب ورئيس بلدية المدينة، خليل باكرجي، في شأن تصريحات أدلى بها إلى الإعلام طالب فيها بالسماح بتعدد الزوجات في تركيا، بما يخالف الدستور) دوت مصر 14/11/2014م.
يضاف إلى ذلك أن النظرة القومية التركية جزء لا ينفك عن نظام الحكم التركي. فالأكراد المسلمون وكذلك العرب هم أقليات ملحقة بالدولة التركية، ولا ينظر إليهم في مناصب الدولة كالأتراك. والدولة لا تخفي طابعها القومي غير الإسلامي، وكأن محمدًا عليه الصلاة والسلام لم يقل «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»، والإسلام يرفض ويحرم أي عصبيات تفرق بين الأمة الإسلامية الواحدة.
وأما سياسة تركيا الخارجية فهي غير قائمة على الإطلاق على أساس الإسلام، ولا يرصد أي نشاط للدولة التركية للدعوة إلى الإسلام في الخارج، ومن كان يعجبه بناء مسجد في أميركا أو افتتاح مركز إسلامي في الغرب، فكل الأنظمة القائمة في العالم الإسلامي تقوم بذلك، كدويلات الخليج ومصر وغيرها، والأمر ليس خاصًا بتركيا. والجاليات الإسلامية في الخارج تبني مساجدها بدعم من بلدان العالم الإسلامي أو بدونه. وتركيا لا تناصر قضايا المسلمين في سياستها الخارجية باعتبارهم مسلمين، فهي تقيم علاقات دبلوماسية مع كيان يهود، وتتعاون معه عسكريًا رغم جرائمه اليومية بحق أهل فلسطين الذين يتغنى أردوغان بدعمهم، بل إن الدعم التركي لأهل فلسطين لم يبلغ معشار دعم أي دولة أوروبية، وهذا الدعم أصلًا يقدم ضمن استراتيجية الغرب للسلام مع كيان يهود. وفي سوريا فقد قتل بشار مئات الآلاف، وتدخلت في سوريا أميركا البعيدة وحليفاتها الأوروبيات، وتدخلت روسيا البعيدة؛ لكن تدخل تركيا الذي حصل بعد أعوام من القتل كان لصالح المجرم بشار. فتركيا تضغط على الفصائل التي تواليها من أجل مفاوضة بشار في أنقرة وأستانة وجنيف، وهي تخرجهم من ساحات القتال مع بشار إلى ساحات أخرى مثل قتال تنظيم الدولة «درع الفرات» وقتال التنظيمات الكردية «غصن الزيتون»، وكل تدخلات تركيا تؤدي إلى انتصار بشار على ما بقي من الثوار المخلصين. وخلال أزمة الروهينجا التي بكى لها العالم، فقد وكلت تركيا جيش ميانمار المتوحش بالمساعدات التي أعلنت أنها قدمتها للروهينجا، بل إن أصوات بعض الدول الأوروبية تبدو أعلى من الصوت التركي في دعم مسلمي الروهينجا.
وبذلك يتضح بأن تركيا دولة علمانية في شكل الحكم فيها وفي سياستها الداخلية والخارجية، وليس فيها توجه شرعي إسلامي حتى نراقب صعوده بفكرة «التدرُّج» رغم كل التحفظات الشرعية عليها. وإذا كانت الأمور واضحة بهذا الشكل، فإن من ينخدع بإسلامية تركيا-أردوغان إنما يخدع نفسه، فهي ليست إلا كبقية الدول القائمة في العالم الإسلامي، وهي تلاحق حملة الدعوة الإسلامية وتزج بهم في السجون، فالدولة لا تطيق الدعوة إلى تطبيق الإسلام في تركيا، وتصِم أصحابها بـ(التطرف) و(الإرهاب) كما يفعل الغرب تمامًا.
تبعية الرئيس التركي أردوغان
وأما تبعية أردوغان في سياسته الخارجية، فليست بحاجة إلى فكر عميق، فتركيا قبل أردوغان ومعه، دولة في حلف شمال الأطلسي، أي تحت القيادة العسكرية الأميركية بشكل رسمي، وفيها واحدة من أكبر قواعد حلف شمال الأطلسي، قاعدة إنجرليك، ومنها تنطلق الطائرات الأميركية لضرب المسلمين في سوريا والعراق. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن تركيا تحاول ومنذ عقود أن تدخل الاتحاد الأوروبي وتقول بأنها دولة أوروبية، وقد خضعت لشروط الاتحاد الأوروبي للانضمام له، ورغم رفض الدول الأوروبية لها بسبب غالبية سكانها المسلمين، وهذه حقيقة، إلا أنها لم تتخلَّ عن طلب الانضمام؛ لذلك فالدولة في تركيا غربية الهوى والتوجه، ولم يغيِّر الرئيس أردوغان من ذلك التوجه شيئًا، وأما تقوية علاقاته بالعالم الإسلامي، فهي من ناحية ردة فعل على رفض دخوله للاتحاد الأوروبي، ومن ناحية ثانية فهي علاقات مع أنظمة وضعية في إطار النظام الوضعي القائم، وليس ضمن أي محاولة لتغيير ذلك، وهذا واضح وليس بحاجة إلى كثير أدلة.
وأما السياسيون الذين يدققون النظر في سياسات الدول فيجدون بلا صعوبة ارتباط الدولة التركية بأميركا، فأميركا هي من دعم أردوغان وحزبه للسيطرة في تركيا بوسائل كثيرة سياسية وتسهيلات مالية وغير ذلك، وكانت أميركا تريد كبح جماح جنرالات الجيش التركي ذوي الولاء الأوروبي، وهذا ما تحقق بعد محاولة الانقلاب الفاشلة سنة 2016م، رغم مسرحية إلصاق التهمة بـ «غولن»، ومسرحية اتهام أميركا بشيء من المسؤولية عن تلك المحاولة الفاشلة. وربما أحداث سوريا كانت أوضح مثال مكشوف لارتباط تركيا-أردوغان بأميركا، فكانت المخابرات التركية وبشكل مكشوف تستقبل المنشقين من ضباط الجيش السوري جنبًا إلى جنب مع المخابرات الأميركية في محاولات لبناء جسم للمعارضة المسلحة مثل «هيئة الأركان» و»القيادة العليا للفصائل المسلحة» لحرف الثورة السورية وفصائلها العسكرية عن مسار إسقاط النظام وبناء دولة الإسلام، فكانت تركيا وأميركا تعملان سويةً وبشكل مكشوف، وهكذا في مؤتمرات المعارضة السورية التي كان يشرف عليها سفير أميركا لدى سوريا فورد في إسطنبول وأنقرة. وعندما قررت أميركا الانسحاب من المفاوضات مع روسيا حول سوريا بعد قدوم إدارة ترامب فإنها، أي أميركا، قد وضعت تركيا نائبًا عنها في مفاوضات أستانة التي أنتجت الحلم الأميركي بوقف إطلاق النار في سوريا وخفض التصعيد وفكرة الدول الضامنة. وتركيا إحدى الدول التي ضمنت وقف إطلاق النار، لكن نظام بشار والروس لم يوقفوا إطلاق النار، وتركيا لا تضمن شيئًا، ومثلها مثل أميركا في مجلس الأمن، تعبر عن قلقها، والنظام المجرم في سوريا يقتطع بردى في الغوطة الغربية والشيفونية وغيرها في الغوطة الشرقية، وقبلها الحرب في إدلب، كل ذلك في مناطق خفض التصعيد التي ضمنتها تركيا. وسياستها في ذلك هي سياسة أميركا تمامًا «دع النظام ينتصر». وهكذا فإن ولاء الرئيس التركي أردوغان هو خالص لأميركا، وينسق معها تمامًا سياسة تركيا الخارجية.
استقطاب الجماعات
«الإسلامية المعتدلة» إلى تركيا
أما نشاط تركيا في استقطاب الجماعات الإسلامية «المعتدلة» فهو بارز بشكل كبير، فوفق السياسة الغربية «فرق تسد» فإن تركيا دولة «سنية» كبيرة، ويمكنها استقطاب جماعات إسلامية «سنية» تمامًا كما يمكن لإيران أن تستقطب جماعات إسلامية «شيعية» وفق السياسة الغربية نفسها، وبما أن الحزب الحاكم في تركيا يوصف بأنه حزب «إسلامي» فإن عملية الاستقطاب تكون سهلة؛ لذلك نشطت في تركيا الجماعات العربية التي توصف بـ «الإسلامية المعتدلة»، وأصبحت إسطنبول قبلةً للإخوان المسلمين خاصة الفارين من نظام السيسي في مصر بعد انقلاب 2013م ضد الرئيس مرسي؛ لذلك ترى المؤتمرات والمنح الدراسية ودعم الأحزاب «الإسلامية المعتدلة» وكأنها سياسة جديدة في تركيا يتبناها أردوغان، بعد أن لم يكن أسلافه في الحكم كذلك منذ حقبة مصطفى كمال السوداء. وبسبب ذلك الدعم وتلك التسهيلات، فإن شعبية كبيرة لأردوغان قد تم إيجادها وسط الجماعات العربية التي توصف بـ «الإسلامية المعتدلة»، فصار يوصف بـ «القائد الإسلامي الكبير»، وتغنَّى به زعيم حزب النهضة التونسي راشد الغنوشي، بل ووصفه القرضاوي بـ «السلطان»، وأصبحت تركيا ملجأً للكثير من قيادات حماس الذين ضاقت بهم السبل، خاصة بعد حصار السعودية ومصر لقطر، وطلب قطر منهم المغادرة.
وبالتدقيق نجد أن كل الدول ذات القوة الإقليمية تحاول التأثير في الأوضاع الداخلية للدول الأضعف المحيطة بها؛ وذلك عن طريق الأحزاب والمعارضة والفصائل المسلحة في البؤر الساخنة. وإذا كان تأثير الدول الكبرى كبيرًا لدى الدول الصغرى، فإن تأثير الدول الصغرى كبير على مستوى الأحزاب والجماعات في البلدان المجاورة. فتركيا، ومن ورائها أميركا، تريد أن تجرَّ تلك الجماعات إلى جانبها ولو بشكلٍ خفي، فلا تقف عائقًا أمام سياسات أميركا، بل وتأمل أن تكون تلك الأحزاب بعضًا من أدوات سياساتها المتعددة، فمثلًا الدعم المالي والسياسي وتوفير المنابر الإعلامية وتقديم التسهيلات كتوفير الملجأ والأمن للقيادات المطاردة من حكوماتها يحقق ما يلي:
1- في فلسطين، تريد أميركا أن تضع التأثير التركي على حركة حماس منافسًا للتأثير القطري، فلا تدع قطر ومن ورائها أوروبا تعيق المشاريع الأميركية لحل القضية الفلسطينية، ولا يمكن لتركيا ذلك إلا عن طريق الإغراء بالدعم المالي والتسهيلات المختلفة.
2- في سوريا، نجحت تركيا بفعل الدعم المالي وكذلك «سمعتها» بـ «الاعتدال الإسلامي»، في جر معظم الفصائل العسكرية السورية التي تنتمي لتيار «الإسلام المعتدل» إلى مفاوضات وقف إطلاق النار، وجرَّتها إلى أستانة لمفاوضة الروس والنظام، وأوهمتها بأن تركيا معها، فهي «دولة ضامنة»، وجرتها إلى معارك محرمة كقتال الأكراد، بدلًا من قتال النظام المجرم وإسقاطه، وهذا واحد من أسرار حياة النظام السوري التي توفرها أميركا عن طريق تركيا وغيرها.
بعد انقلاب 2013م في مصر، لجأت الكثير من قيادات الإخوان المسلمين إلى تركيا بوصف الحزب الحاكم فيها «إسلاميًا»، وهذا حيوي للسياسة الأميركية التي تريد أن تضبط تحركات الإخوان المسلمين بعد الانقلاب على مرسي، وتمنع أي خطر كبير على نظام السيسي، فالتحركات عندما تكون تحت العين، يستطيع الطرف الآخر التصدي لها وإفشالها. وكذلك تريد أميركا أن لا تكون دولة قطر هي المؤثر الوحيد على تحركات الإخوان المسلمين.
أما في بلدان المغرب العربي، فإن حركات «الإسلام المعتدل» كحزب النهضة التونسي وحركة العدل المغربية وغيرها تعلن إعجابًا كبيرًا بإنجازات أردوغان التركية، وتريد تعلم هذه التجربة في الحكم، وتبني علاقات قوية مع تركيا، وهذا مدخل لتأثير تركيا ومن ورائها أميركا ضمن أدوات أخرى للتأثير في المغرب العربي ومحاولة إدخال النفوذ الأميركي إليه بديلًا عن النفوذ البريطاني والفرنسي. وهذه لعبة خطيرة أن تجد هذه الحركات «الإسلامية المعتدلة» نفسها في ملعب من الصراعات الدولية والإقليمية لا علاقة له بدينها ولا مبدئها المعلن، فتكون كما كان غيرها من الحركات العلمانية وقودًا لنار الصراعات التي لا تستفيد منها الأمة شيئًا، فالأصل أن تغيير نظام علماني إلى نظام علماني آخر لا يعتبر تغييرًا من الناحية الشرعية، ولكنه مهم للغاية في الصراعات الدولية، خاصة وأن أميركا تريد خلع الأنظمة الموالية لبريطانيا وفرنسا بأي طريقة، سواء بالانتخابات أم بالعمل المسلح.
تستقطب تركيا معارضين «إسلاميين» من بلدان كثيرة أخرى، خاصة وأنها تعلن بين الفينة والأخرى، كما كان أثناء حرب الموصل، بأنها مركز «للسنة»، وذلك في إطار المشاريع الأميركية للقسمة الطائفية للمنطقة.
جدية مشروع «تركيا عثمانية»
والتسهيلات الأميركية
بعد أن كانت تركيا العلمانية بعد مصطفى كمال تتنصل من أي ارتباط عثماني، فقد لوحظ في السنوات القليلة الماضية أن أردوغان أخذ يخدش هذه السياسة التركية، وأحيانًا يلاحظ أنه ربما يحاول كسرها. ومحاولات أردوغان تصطدم بالتيارات اليمينية الكمالية في تركيا، فهو يحسب لها حسابًا كبيرًا، فتلك التيارات كانت تنتقد مظهر زوجة الرئيس وقتها عبد الله غل بسبب غطاء رأسها، فكانت نظرتهم أن «السيدة الأولى» في تركيا يجب أن لا تخدش علمانية البلاد، بوصف غطاء الرأس مظهرًا إسلاميًا؛ لكن في السنوات القليلة الماضية فقد تجرأ أردوغان على ما هو أبعد من ذلك، وأخذت بعض المظاهر العثمانية تبرز في تركيا مثل حرس أردوغان ولباسهم العثماني وإحياء التراث العثماني. ومن ذلك ما نقلته وكالة الأناضول 10/2/2018م (انتقد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، السبت، عداء البعض لتاريخ السلطان عبد الحميد الثاني الحافل بالإنجازات، محذرًا من ممارسة الانتقائية عند دراسة التاريخ… وأشار أردوغان إلى أن «هناك من يعمل بإصرار على أن يبدأ تاريخ تركيا من 1923م (تاريخ تأسيس الجمهورية التركية)، وهناك من يبذل قصارى جهده لانتزاعنا من جذورنا وقيمنا العريقة». وأضاف: «الشريحة التي ينتمي إليها زعيم المعارضة أيضًا (رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال قليجدار أوغلو) وضعت معيارًا للولاء للجمهورية، يقوم على أساس نصب العداء للأجداد». واستطرد قائلًا: «بالنسبة لهؤلاء، الجمهورية التركية حديثة الظهور، ولا تمثل امتدادًا للسلاجقة والعثمانيين الذين وجهوا النظام العالمي طيلة ستة قرون»).
هذا داخليًا في تركيا، أما التسهيلات التي تقدمها أميركا لإبراز وجهٍ «عثمانيٍّ» لتركيا-أردوغان اليوم فيمكن قراءتها مما يلي:
تقدم أميركا تسهيلات كبيرة لتركيا لبناء قواعد عسكرية في الخارج، وفي ذلك إبراز لتركيا كدولة كبيرة. والمسألة بدأت حين أرسلت تركيا سنة 2014م قوات لتدريب البشمركة في معسكر بعشيقة في العراق. ثم وفي خضم حصار قطر قامت تركيا بإرسال جنودها إلى قاعدة تركية جديدة في قطر، واللافت أن الجنود الأتراك كانوا ينزلون سنة 2017م في قاعدة العديد في قطر حيث القاعدة الأميركية الكبرى، وهذا غير ممكن من دون موافقة الأميركان. والظاهر أن أميركا، وهي تخطط وفق استراتيجة 2012م لنقل ثلثي جيوشها إلى محيط الصين، فإنها تريد من دول موثوقة كتركيا أن تحل مكانها في بعض القواعد، أو أجزاء منها كالعديد في قطر، ويلحق بذلك القاعدة العسكرية التركية في الصومال. فالدول الصغرى لا تقيم لها قواعد عسكرية في الخارج، فهذا مظهر من مظاهر العظمة، وأما أن يتبادر إلى الذهن بأن تركيا دولة عظمى، فهذا رداءة في التفكير السياسي، فتركيا لا تستطيع حل المشاكل القريبة والحيوية لها مثل تسليح أميركا لأكراد سوريا وفق المصالح الأميركية، ولا تستطيع التدخل الفعال في جارتها سوريا كما فعلت إيران وروسيا وبلدان التحالف الدولي مع أميركا، فإذا كانت عاجزةً عن حل مشاكلها الحيوية والقريبة، فهي أعجز عن بناء مصالح لها في قطر ودول الخليج والصومال، ولا يمكن فهم قواعدها العسكرية في تلك البلدان إلا خدمةً لأميركا.
في زيارته للسودان 24/12/2017م، قام الرئيس التركي أردوغان بزيارة جزيرة سواكن السودانية، وتم الإعلان عن مشروع لإحياء التراث العثماني فيها، وقد كانت تلك الجزيرة مركزًا للحامية البحرية العثمانية للبحر الأحمر، وراجت أنباء عن وجود ملحقات سرية باتفاقية سواكن لتحويلها إلى قاعدة عسكرية تركية. وأثناء لقائه معه، قال الرئيس السوداني البشير بأنه يرى في شخص أردوغان «بقايا الدولة العثمانية». أي أن أردوغان يطوف على الدول التابعة لأميركا كالسودان لتعزيز صورة «العثمانية» الجديدة لتركيا، وهذا تسهيل كبير لا يمكنه الحصول عليه بدون تمهيد أميركي. والذي يظن الحكام العرب مستقلين في قراراتهم باستقبال قواعد عسكرية لتركيا أو غيرها واهم، فكل يتبع سياسة سيده، والبشير يتبع سياسة أميركا؛ لذلك فإن تسهيلات البشير لأردوغان لا تأتي إلا ضمن السياسة الأميركية التي تعلي اليوم من صورة تركيا.
وأثناء زيارته لتشاد أشار أردوغان إلى «أن العلاقات بين البلدين تعود إلى القرن السادس عشر حين كانت الدولة العثمانية تبسط نفوذها على المنطقة». ورد عليه الرئيس التشادي إدريس دبي الذي استطرد قائلًا: «تركيا دولة كبيرة. هناك تاريخ عريق. دولة معروفة ومشهورة على مستوى العالم. تركيا دولة مهمة لعبت دورًا مهمًا باسم الإنسانية والمجتمع الإسلامي عبر التاريخ». وكالة الأناضول التركية 26/12/2017م. وهذا يوضح التوجه التركي الجديد عن طريق إبراز «تركيا عثمانية»، وهذا لم يكن موجودًا في السنوات الأولى لحكم أردوغان، بل ظهر أخيرًا.
بقيت مسألة تتعلق بالجدية الأميركية في فكرة ومشروع «تركيا عثمانية»، فإذا كنا ندرك أن مخاوف أميركا من زلزال الخلافة هي مخاوف فعلية، وأنها لأجل ذلك تتبنى سياسات يقوم المسؤولون فيها بتنفيذها، وليست المخاوف مجرد أفكار من مراكز البحث وبنوك التفكير الأميركية، وإذا كانت أميركا قد «استفادت» بقوة من إعلان البغدادي للخلافة المزعومة في الموصل، فكانت الفائدة بلبلة الساحة السورية المنادية بالخلافة، فظهرت خلافة البغدادي على أنها مزيج من سفك الدماء، ومتع النساء «السبايا»، وأحكام الأضرحة والقبور والمزارات، فقدمت بذلك صورة سلبية لدولة الخلافة العظيمة، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فقد فشلت السياسات الأميركية والغربية عمومًا بتقديم الحكم لحركات «الإسلام المعتدلة»، ففشل حكم حزب النهضة الجزئي في تونس، وفشل الحكم الجزئي كذلك في اليمن، ولا تعدُّ تجربة غزة براقة، وفشلت تجربة الإخوان في مصر، وكان وجه الفشل الأبرز أميركيًا أن وصول هذه الجماعات للحكم لم يتمكن من كبح جماح ما تسميه أميركا بـ «الإسلام المتطرف»، وهو الهدف من السماح لتلك الجماعات «المعتدلة» بالوصول للحكم؛ لذلك تراجعت أميركا عن فكرة إيصال الجماعات «المعتدلة» للحكم.
ومن ناحية ثالثة، فإن حالة الاستعصاء في الأمة الإسلامية تتعاظم بشكل يخيف أميركا من المفاجآت كأحداث الربيع العربي، وأميركا دولة عظمى تجرب المشاريع المختلفة التي تنفذها مباشرةً أو عبر أتباعها حتى ترى أن مصالحها الدولية في مأمن؛ لذلك فإن بحث أميركا عن مشروع جديد هو أمر أكيد لحل مشكلة الاستعصاء في العالم الإسلامي، وعدم ترك التطورات للمفاجآت التي قد تأتي بالزلزال الكبير، الخلافة الحقيقية على منهاج النبوة.
أما وقد «استفادت» أميركا كثيرًا من إعلان البغدادي للخلافة المزعومة من الموصل، فإن استبعاد تكرار الفكرة «خلافة مزيفة» تقوم أميركا على رعايتها هو أمر غير مقبول. أما وقد ظهرت مؤشرات كافية لدى الرئيس التركي أردوغان بوصل الدولة التركية اليوم بما قبل إعلان هدم الخلافة العثمانية سنة 1923م، وكذلك التسهيلات التي تبديها أميركا لتركيا في السودان وغيره من البلدان التابعة لها، فإن هذا المشروع الأميركي قد يكون قيد الإعداد، وأن الرئيس التركي أردوغان يمهد لفحص إمكانية تنفيذه. وما يشير إلى ذلك أيضًا أن تركيا قد أخذت تناوش الدول الأوروبية وكأنها تتشبه بالدولة العثمانية، فوصف أردوغان ألمانيا وهولندا بـ «بقايا النازية» وكأنه يدير ظهره لهم، وعلى غير المعتاد.
والخلاصة أنه ليس من الحكمة إغفال كل المؤشرات التي تشير إلى مشروع أميركي خطير للغاية بتحويل تركيا إلى دولة «خلافة مزيفة» لتقف ضد أي دولة خلافة حقيقية سيزلزل إعلانها العالم بأسره. ومثل ذلك المشروع المزيف للخلافة قد يبلبل المسلمين، خاصة أتباع ما يسمى بالتيار «المعتدل» الذين تعمل قياداتهم على بناء الثقة بأردوغان، ويصفه البعض بالسلطان رغم أنه لا يخفي علاقاته مع الكفار بما في ذلك مع كيان يهود. ومثل هذه المشاريع لا يمكن تنفيذها في أشهر، بل بحاجة إلى الكثير من التمهيد داخليًا مع الأحزاب الكمالية وخارجيًا.
لكن الأمر الأهم أن المطلوب من المخلصين الذين وحدوا اتجاههم على حبل الإسلام النقي الصافي وفق أدلته الشرعية، ومن لا يريد أن يكون عمله إلا لله خالصًا، أن يشدوا الخطا لبناء دولة الإسلام العظيمة، الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، التي يكون ولاؤها لربها وأحكامها أحكام دينها المتين، تزلزل أميركا والغرب، وتبدأ على الفور بدحر نفوذهم وقواعدهم العسكرية من المنطقة الإسلامية، وتكنس عملاءهم من جسم الأمة الإسلامية كما ينزع النجس عن الثوب. وتأخذ بتطبيق أحكام الإسلام العظيم، فيهنأ الناس وتنزل البركة من السماء، ويصلح أمر الأمة اليوم، كما صلح أمرها بالأمس، فتجمع طاقاتها وتبني قوتها وترهب عدو الله وعدوها، وهذا ليس بعيد المنال، فإن لكل أجلٍ كتابًا، والله نسأل أن يكون كتاب ذلك في قادم الأيام، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، وبعزة الإسلام العظيم.