الإرهاب الأسود… أهدافه وغاياته
حسن الحسن
أبرزت وسائل الإعلام العالمي أحداث 11 سبتمبر وما تبعها من سلسلة مشابهة نوعًا ما من الهجمات، ضربت لندن ومدريد وباريس وبرلين وموسكو وغيرها، على كونها نتيجة حتمية للفكر الإسلامي الذي يحض بزعمهم على الكراهية ونبذ الآخر ورفض الحداثة وكل ما يمت إلى «العالم المتحضر» بصلة. وقد رسخ ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية» وتوجهاته وإعلامه هذا المفهوم لدى الرأي العام. وبات أي مشروع سياسي يتخذ من الإسلام هوية وعقيدة ومنهجًا له موضع اتهام، يتم التعامل معه كتهديد إرهابي مباشر أو كحاضنة لمشاريع إرهابية محتملة. وصارت الدعوة للإسلام وتطبيق شريعته مثار ريبة ومدعاة لمراقبة ومحاصرة ولجم القائمين عليها، لا سيما في الغرب، حيث يتم تقديم الإسلام على أنه دين إرهاب بطبيعته، وأن المسلم الجيد، أي المسلم الملتزم بدينه، هو المسلم الأكثر قربًا من ممارسة الإرهاب، وأن الذي يعتنق الإسلام بحثًا له عن ملاذ للطمأنينة، إنما يسير في طريق الإرهاب الأسود. وقد اشتغل ساسة الغرب ووسائل إعلامه ومراكز الفكر والبحث لديه جاهدين على الترويج لهذا المفهوم وتعميمه صراحة أو ضمنًا. وعليه، صارت المشاركة بسحق المسلمين، فضلًا عن الصمت على ما يرتكب بحقهم من جرائم، أو تبني قوانين تعسفية تمسهم، أمرًا مبررًا لدى الرأي العام في الغرب.
وهنا ترد أسئلة كثيرة حول ماهية الحرب على الإرهاب، وحول غاية حملة الغرب المسعورة على الإسلام، وحول إصراره على وصمه بالإرهاب الإسلامي تارة، وبالإسلام الإرهابي تارة أخرى، مع علم ساستهم وأصحاب الرأي وصناع القرار فيهم، أن هذا أبعد ما يكون عن الصحة، وهو ما نطق به الصحفي الأوسترالي الشهير جون بيلغر قائلًا: «أسجل اعترافاتي للتاريخ، لتقرأها الأجيال القادمة، نحن في الغرب مصدر الإرهاب في العالم.. والمسلمون هم الضحايا». إذاً، لماذا يصرون على تلك الافتراءات؟ وماذا يريد الغرب حقًا من المسلمين الذين ترزح بلادهم تحت الهيمنة المباشرة للغرب وأعوانه وعملائه، الذين ينهبون ثروات المسلمين ليل نهار، ويستغلون مقدراتهم أبشع استغلال لخدمة الغرب وسياساته؛ لذلك كان لا بد من قراءة الوضع بشكل متأنٍّ، في محاولة لفهم ماهية هذه الحرب الشعواء، التي يتم تحت مظلتها التهجم على الإسلام والنيل من المسلمين، إضافة إلى قتلهم وتشريدهم بشكل مفجع ومستمر ومستفز، مباشرة أو من خلال زجهم في صراعات وحروب مشبوهة، تُخاض بهم وعليهم، ليس للمسلمين منها إلا نزف الدماء ودفع التكاليف وذرف العبرات واجترار الحسرات.
لقد شكلت الحملة المزعومة على «الإرهاب» تحولًا نوعيًا في تعامل الدول والمنظمات والمؤسسات المرتبطة بها مع القضايا العالمية والمحلية على حد سواء، ما يعبر عن كونها سياسة عالمية متناسقة تتناسب مع مخططات الدول المؤثرة في هذا العالم، التي باتت تستعمله كذريعة رخيصة لتبرير وتمرير سياساتها. ولو لم تكن هذه الحرب المزعومة على الإرهاب محل اتفاق عالميًا، لوجدتها بعض الدول فرصة لفضح من يستعملها من منافسيها، لا سيما أن هذه الحملة مشبوهة في مجملها، ومتهافتة في ذرائعها. إلا أنها في الواقع حملة متوافق عليها، وهي حملة إجرامية تمارس بشكل منهجي ومدروس لتحقيق أهداف متعددة، يمكن تلخيصها من خلال استقراء الواقع ومجريات الأحداث بثلاث غايات أساسية، يتم العمل على تحقيقها بشكل متزامن.
أولًا: الحرب على الإرهاب مظلة واسعة للتنافس الدولي
إن الغرب الذي يحكم العالم ويتحكم به ليس كتلة سياسية واحدة، رغم أن دوله جميعًا تعتنق النظام الرأسمالي، ورغم أن لديه طرازًا خاصًا متجانسًا (لحد ما) يستند إلى ذات المنظومة الفكرية، التي تفصل الدين عن الحياة وتجعل تحقيق المنفعة المادية طريق السعادة وغاية الغايات، مُشكّلةً بذلك القاعدة الفكرية لأي نهج أو فكر أو سياسة معتمدة من قبل دولهم ومجتمعاتهم وأفرادهم، ما يشعل التنافس والصراع والحروب بينهم جميعًا، أفرادًا وشعوبًا ودولًا وأممًا. وقد أدى هذا إلى إغراق العالم في صراعات وحروب كثيرة، كانت الحربان العالميتان المدمرتان أبرزهما. إلا أن تلك الحروب، رغم فظاعتها، فإنها تبقى «محتملة» لطبيعة الأسلحة التقليدية المستعملة فيها، أما في ظل الأسلحة الحديثة، فإن أية مواجهة مباشرة بين القوى الكبرى بات فوق قدرة أي منها على احتمال تداعياتها، لأنها تعني حروب إبادة شاملة بسبب الأسلحة التدميرية الهائلة المتوفرة لدى كل منها؛ لذلك اتخذ الصراع بين هذه الدول أشكالًا جديدة، تحُولُ دون الاصطدام المباشر؛ من هنا وجدت الحرب الباردة، والحرب بالوكالة، وتغيير النفوذ عبر الانقلابات والثورات، التي تظهر (في غالبها) محلية وذاتية، فيما تعكس في واقع الحال صراع نفوذ وهيمنة بين القوى الكبرى. والأمثلة على ذلك كثيرة، فالصراع الذي دار في فيتنام كان في حقيقته صراعًا بين القوى الدولية الكبرى، وإن كانت أدواته فيتنام الشمالية وفيتنام الجنوبية. كذلك فإنَّ الصراع الذي دار في أفغانستان ضد الحكومة الشيوعية في أواخر العهد السوفياتي، كان في حقيقته صراعًا بين الولايات المتحدة زعيمة حلف الأطلسي من جهة والاتحاد السوفياتي زعيمة حلف وارسو حينها من جهة أخرى، ولا يغير في تلك الحقيقة أن المقاتلين على الجبهات كانوا إسلاميي الهوية والخطاب. فقد كانت المخابرات المركزية الأميركية ترعى هذه الحرب وتدير عمليات التسليح والتمويل والإعلام مباشرة أو عبر وسطاء وعملاء؛ ما أدى بالمحصلة إلى انسحاب الروس من أفغانستان وسقوط الاتحاد السوفياتي لاحقًا.
ولا يقال إن الصراع والتنافس بين دول العالم قد انتهى، فهذا غير وارد أصلًا لطبيعة المبدأ البشع الذي يسيطر عليها، وتظهر هذه الحالة بأشكال مختلفة، على نحو أزمات اقتصادية، أو توسع عسكري، أو دخول في أحلاف أمنية وسياسية واقتصادية، والأمثلة على ذلك كثيرة منها، أزمة الولايات المتحدة مع أوروبا والصين واليابان بما يتعلق بالتجارة الدولية، وكالقضايا الشائكة والمعقدة بين روسيا وأوروبا، وكالتوسع العسكري الملحوظ لأميركا وبريطانيا وروسيا وفرنسا في شمال أفريقيا والقرن الأفريقي والشرق الأوسط وغيرها.
في هذا الإطار، تجد هذه الدول في «الحرب على الإرهاب» ذريعة مناسبة لتوسعها وتنافسها وتنفيذ أجنداتها، تستخدمها كستار تختفي وراءها، تؤمن لها بيئة آمنة تحول دون وصولها إلى حالة صدام مباشر؛ حيث تبادر كل منها إلى وضع مخططاتها ورسم سياساتها محليًا وإقليميًا ودوليًا، ثم تبدأ بتنفيذها، فتستفزُّ بعضها البعض حينًا، وتبتزُّ بعضها البعض أحيانًا، وتقودهم لعقد صفقات وشراكات خبيثة بغية تمرير سياساتهم القذرة، التي يدفع المسلمون والأبرياء أثمانًا باهظة لها، كل ذلك باسم الحرب على الإرهاب. هكذا فهمت الدول الكبرى وأتباعها وأشياعها اللعبة، وصاروا يمارسونها باحتراف، وصارت وسيلة رائجة وسهلة الاستخدام، في الوقت ذاته تمنع دون حدوث صدام مباشر فيما بين تلك الدول؛ لذلك ترى هذا الأخير (أي الإرهاب) منتشرًا في كل بقعة صغيرة أو كبيرة يدور فيها أو عليها أو حولها صراع نفوذ وهيمنة. والأمثلة على ذلك يصعب عدها أو حصرها، وتجدها أحيانًا محيرة ومتضاربة بشكل لافت، وما يحدث في سوريا أبرز مثال على ذلك، حيث احتلت أميركا ثلثها عمليًا بحجة الحرب على «تنظيم الدولة» المصنَّف إرهابيًا عالميًا، بعد أن تركه العالم برمته سنتين يسرح ويمرح كيفما يشتهي في سوريا والعراق، على مرأى ومسمع الجميع، كذلك فعلت روسيا لتدخلها في سوريا، وشملت مع تنظيم الدولة كثيرًا من التنظيمات الأخرى التي يتم دعهما وتمويلها من دول أخرى، فيما اجتاحت تركيا شمال سوريا وأقامت حزامًا أمنيًا واسعًا بذريعة القضاء على تنظيم العمال الكردستاني وملحقاته الإرهابية (التي تدعمها أميركا)، كذلك تجد القوات البريطانية والفرنسية منتشرة علنًا في عدة مناطق في سوريا بنفس الذريعة، فضلًا عن القواعد العسكرية التي باتت منتشرة لجميع هذه الدول في سوريا بنفس الحجة.
وهكذا، فحيثما أطلقت ناظريك تجد كرة اللهب الإرهابية تتدحرج أمام اللاعبين، يقذفها كل منهم بوجه الآخر، يقومون باستنساخها من خلال إيجاد مجموعات تبايع بعضها البعض لتأكيد صلة لا مبرر لها سوى منح الذرائع ذاتها، فتشن تلك المجموعات هجمات صادمة وموثقة بتقنية عالية، ثم تجد المـُخطِّطَ يرسل بقواته لمحاربته وفرض أجندته، فيحتل البلاد ويقيم القواعد العسكرية ويفرض قوانينه الخاصة. وبما أن العالم الإسلامي تحديدًا هو مركز التنبه والتنافس الدولي كونه مصدر الثروات الهائلة والطاقة الصناعية الضرورية، لذلك تجد ظاهرة «الإرهاب» منتشرة بحِرفية عالية فيه حيثما اقتضى الأمر، كما هو الحال في سيناء وليبيا وتونس والصحراء الغربية ومالي والصومال وكينيا وغيرها.
على طول هذا الخط، يجب ملاحظة أن نسخة الإرهاب المعتمدة تختلف من مكان لآخر لتتناسب مع حجم المـُخطَّط ونوعه، فإذا كان المطلوب إنشاء نظام عالمي جديد، فإن الإرهاب المفترض يجب أن يشكل طاقة كافية لإطلاق هذا المشروع، وينبغي أن يكون كافيًا لإجراء التغييرات المطلوبة في الموقف الدولي؛ لذلك شكَّلت أحداث 11 سبتمبر صدمة عالمية بحجم الغاية المقصود منها، وكان من تداعياتها احتلال بلدين ضخمين بحجم أفغانستان والعراق في إطار تشكيل نظام دولي جديد. وأما إذا كان المطلوب هو حماية الشبكة الأمنية المعقدة والمركبة من عدة دول باسم حلف الممانعة، وترسيخ الشقاق بين المسلمين (سنة وشيعة)، وإبادة مدن بأكملها، وتغيير التركيبة السكانية القائمة بما يتناسب مع أجندات غربية معينة، فإن المطلوب هو إقامة «خلافة الرعب» التي تضرب شمالًا ويمينًا، تسبي النساء وتبيعهم، وتحرق الأسرى بشكل سينمائي موثَّق يضاهي في إنتاجه وإخراجه صنَّاع الأفلام العالمية التي تنتجها هوليوود نفسها. كما تصل يد الإرهاب إلى عواصم الغرب، تضرب شمالًا ويمينًا في عمليات ينفذ أغلبها مشبوهون وملاحقون. فيما نجد في المحصلة أن هذا كله من مقتضيات المـُخطَّط، الذي يحتاج إلى تربة خصبة تعج بالشباب المتحمس الذي يمكن تفعيله وتوجيهه من وراء ستار، كضرورة لازمة لنجاح المخطط، ويقودنا هذا بطبيعة الحال إلى الغاية الثانية من «الحرب على الإرهاب».
ثانيًا: الحرب على الإسلام
لقد خرج الإسلام من صحراء مقفرة، فسحق فارس والروم وسيطر على أهم بقاع العالم في القارات الثلاث، آسيا وأفريقيا وأوروبا، وآخى بين الشعوب والقبائل التي اعتنقته بعد أن وجدت فيه الراحة والأمن والطمأنينة، وانطلق في حملته في هذا العالم بعد أن بنى دولة الرحمة والسماحة والعدل، فأصبح قوة مهابة، لا بالاستعمار، ولا بالاستعباد، ولا بانتهاك حقوق العباد، إنما بالتضحية والإخاء والإيثار، وبإقامة الحق والعدل حيثما حل. لا يغير من هذه الحقيقة بعض الإساءات التي وقعت خلال 13 قرنًا. كانت دولة الإسلام هي الحاكم الفصل فيها في هذا العالم، فتلك الإساءات كانت انحرافًا عن الإسلام نفسه، رغبة بالاستئثار بالسلطة وتوريثها، ولو تم تصويب الأمور في حينها، لما انزلقت الأمور إلى الهوة السحيقة التي ترتع فيها أمة الإسلام في هذا الزمان. ما يعني أن الإسلام هو مصدر الصلاح، والاستقامة عليه هو معيار الصحة، والانحراف عنه يؤدي إلى السقوط والانحدار. وهذه فكرة متأصلة في عقيدة المسلمين وقد قالها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ورددها بعده المسلمون «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمن ابتغى العزة بغيره أذله الله».
رغم هذا المصاب، فإن قوة الإسلام أصلًا تكمن في عقيدته، وفي منهجه، وفي نظامه ومعالجاته. ولا تزال هذه جميعًا حاضرة في القرآن الكريم، وفي سيرة الرسول الكريم وسنته، وفي تراث المسلمين الذي تنعم بها ذاكرتهم، وفي ثقافتهم وفي تطلعاتهم، تتذاكرها الأجيال المتعاقبة، يتدارسونها ويلمسون حاجتهم الماسة إليها.
إن طبيعة الإسلام الصلبة والقوية، مدركة تمامًا لدى صناع القرار في الغرب؛ لهذا لم يكتفِ باستعمار بلاد المسلمين واستغلالهم واستحمارهم، وبهدم كيانهم الجامع، وبتأسيس كيانات مصطنعة بهويات قومية ومذهبية مزيفة على أنقاضه، لم يكتفِ بكل ذلك، بل أخذ يعمل على تشكيكهم بدينهم وبث سموم الفرقة فيما بينهم، وصولًا إلى جعل الغرب ومؤسساته وقيمه وأنظمته وقوانينه الحَكَم الفصل في شؤونهم. كما أخذ يتابع توجهاتهم عن كثب، ويعمل على الحيلولة دون نهضتهم واستقلالهم عنه. وعندما يئس الغرب من إمكانية تغيير المسلمين لدينهم، كما يئس المشركون من قبل، قال تعالى: ]ٱلۡيَوۡمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِۚ ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ[، اتبع وسائل كثيرة لضربهم وصولًا إلى استراتيجية الحرب الخبيثة على الإرهاب، التي شكَّلت خطة فعالة للتنكيل بالمسلمين، وتعجيزهم وتكبيلهم وتيئيسهم. فبهذه الذريعة يفرض على المسملين سياساته، ويصمم مناهج التعليم التي يراها مناسبة لهم، ويدفع المسلمين للتقوقع وللشعور بالخجل من الإسلام بزعم أنه دين همجي يقتل ببشاعة وينهب ويسلب ويشيع الفوضى والدمار. ولا يزال الغرب يعمل بهذه الأجندة محاولًا بكل جهد تشويه الإسلام والمسلمين كي تحقق له الغاية الثالثة من الحرب على الإرهاب.
ثالثًا: الحفاظ على سيادة الرأسمالية
إن الناظر في أحوال العالم اليوم يجده قد امتلأ بالفوضى والاضطراب، وليس مبالغة القول إن البشرية شارفت على الانتحار فعلًا، بل إنها تنتحر كل يوم، بسبب الرأسمالية النفعية البشعة التي باتت تتحكم بتفاصيل حياة البشر. فقد غابت القيم الإنسانية الرفيعة عن هذا العالم، وأصبح الإنسان فيه مجرد سلعة، تكمن قيمته فيما يمكن استخدامه أو استعباده فيه بشكل مادي. إنه عالمٌ مليء بالصفاقة والنفاق، فقدت فيه الأخلاق وتحللت فيه الروابط العائلية، وتلاشت منه الحالة الروحية، وسادت فيه القيم الغرائزية وما يرتبط بها من شهوات بشكل صارخ ومقزِّز. إنه عالم فاقد للطمأنينة والاستقرار، يتحكم به قانون القوة العارية والمجردة من أية معايير غير نفعية، وبات العدل والرحمة أبرز الغائبين عنه.
لذلك صار هذا العالم بحاجة ملحة إلى كيان جديد ونظام جديد ورؤية جديدة تعيد البشرية إلى المسار الصحيح. وفي ظل انتهاء الرسالات ونهاية الأيديولوجيات والفلسفات غير المادية، يصبح الإسلام الملاذ الوحيد للإنسانية اليتيمة المفجوعة. ليس بوصفه دينًا روحيًا ساميًا فقط، إنما في كونه يمتلك رؤية شاملة لأنظمة ومعالجات حقيقية لمشاكل الإنسان في هذا العالم. نعم، إن الإسلام وحده هو الذي يمكن أن يضطلع بدور يغير مسار البشرية من جديد كما فعل سابقًا، لا سيما بعد أن أقفل باب الرسالات السماوية، فلا نبي ولا رسول ولا رسالة بعده، وبعد تساقط كافة الأيديولوجيات والفلسفات الأخرى المبشرة بالحرية والاشتراكية والعدالة والمساواة، وكذلك بعد أن تخلت الرأسمالية عن المسحة الإنسانية التي كانت تتجمل بها، بعد أن أعلنت انتصارها على كافة الحضارات، وتوَّجت ذلك بتشريع الشذوذ والرذيلة والمجون على أنواعه.
عندما يكون هذا هو الحال، فهذا يعني أننا بحاجة إلى بناء نظام عالمي جديد، يهدم قيم الشر السائدة، ويعاد تشكيله من جديد، على أسس سليمة تليق بالإنسان الذي تم تسخير الكون وما فيه من أجله، وليس من أحد قادر على القيام بأعباء هذا الدور سوى أمة الإسلام، التي تستشعر أكثر، يومًا بعد آخر، بكيانها المعنوي كأمة مستهدفة لأنها أمة مسلمة، ولأنها صاحبة رسالة، وأن رسالتها هي ما يميزها فعلًا، وأنه ما من سبيل لتقويم هذا العالم من غيرها. إلا أن هذه الأمة ليست صاحبة سلطة، ولا يوجد لديها دولة تمثل رسالتها؛ لذلك يجب أن تصبح إقامة الدولة من أولى أولوياتها، فهي الكفيلة بإعادة مكانتها لها. ورغم شدة الهجمة على الأمة الإسلامية وشدة الوجع والفجيعة، إلا أنه كلما نالها مزيد من الأذى، وكلما شعرت بشدة الخطر الذي يتهددها، زاد وعيها على حاجتها لإقامة دولتها. وتجد هذا التصور حاضرًا في حركة الأمة كلما ظنت أن الفرصة قد سنحت لها، على نحو الذي حصل في الجزائر ومصر وتركيا والعراق وسوريا وأفغانستان والشيشان والبوسنة وغيرها، حيث كان التوجه لإقامة الكيان الإسلامي سمة بارزة في خياراتها في عدة مناسبات. ]إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيۡهِمۡ حَسۡرَةٗ ثُمَّ يُغۡلَبُونَۗ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحۡشَرُونَ36[.
إن قضية بروز الإسلام في كيان يعيد الأمة إلى المشهد العالمي أمر يؤرق الغرب، فهذا يهدد حضارته الهشة من جهة، ومن جهة أخرى فإن إقامتها يعني المسَّ بمصالحه المادية المباشرة. فالعالم الإسلامي، بموقعه وثرواته وشعوبه، كانت له الكلمة الفصل في هذا العالم، وسيتجدد ذلك عندما يمتلك زمام أموره من جديد. فهو صلة الوصل بين القارات جميعًا، لا تجارة بدونه، ولا سياسة بدونه، ولا سلم بدونه، ولا حياة لهذا العالم بدونه؛ لذلك يمكر الغرب بهذه الأمة ويعمل على إخضاعها وتمزيقها وتفتيتها وخلق شروخ عميقة فيما بينها محاولًا ابتلاعها كأنها شيئًا لم يكن.
إن ما ذكرناه من حاجة العالم إلى نظام بديل يلمسه كثير من الغربيين كما يلمسه المسلمون أنفسهم، وإذا كان المسلمون يعيشون الحسرة والمرارة على مصابهم بسبب الذل والهوان والاحتلال الأجنبي والضيق الاقتصادي، فإن كثيرًا جدًا من الغربيين يعيشون حياة تعيسة بائسة مليئة بالضنك النفسي والاجتماعي والروحي، بل إن كثيرًا منهم يعيش معاناة اقتصادية حقيقية كذلك؛ لذلك يتوجهون نحو الجريمة والشذوذ والانحراف وربما الانتحار. وهم أحوج ما يكونون لرؤية الإسلام مطبقًا بشكل يبعث على الطمأنينة، عله ينقذهم من حالات الخواء والتفاهة والتحلل التي يعيشونها. إن هذا يجعله مصدر جاذبية للاعتناق، وهو أمر مدرك لدى القائمين على صناعة السياسات في الغرب؛ لذلك كانت استراتيجية الحرب على الإرهاب تأتي في هذا السياق لتحرف الأنظار عن الإسلام كبديل يمكن اعتناقه والخلاص به من أدران الرأسمالية؛ ولهذا يسارع الغرب إلى إبراز أي حدث أو حادث يرتكبه مسلم (ولو كان خطأ، ولو كان بسيطًا) على أنه يمثل الإسلام، محاولًا تقديم الإسلام كنموذج للقتل والتنكيل والتدمير للرأي العام الغربي، فيبرر سحق المسلمين، ويقدم سياساته البشعة على كونها ضرورة لازمة (رغم كل ما يشوبها من انتهاكات بحقوق الإنسان والقيم والأخلاق) فيسير بها من غير حرج زاعمًا حماية مواطنيه من الخطر المحدق بهم؛ لذلك فإن الغرب لا يكتفي بمحاربة الإسلام في بلاد المسلمين، إنما يعمل على ذلك حثيثًا في بلاده أيضًا، حيث أصبحت محاربة الإرهاب العنوان الأبرز لتبني سياسات مشبوهة، وتشريع قوانين سيئة تضع المسلمين في وضع لا يحسدون عليه.
خلاصة القول
إن الحرب على الإرهاب هي استراتيجية غربية بامتياز، لها غايات محددة، وتنطلق من زاوية خاصة لرسم سياسات عالمية تمنح القوى الكبرى الغطاء المطلوب لتمرير سياساتها. كما أنها استراتيجية خبيثة تمنح الدول الكبرى والمرتبطين بها «الحق» في ممارسة أسوأ أنواع البلطجة والبطش والقهر وتمريرها دون رادع، التي لم تكن لتمر في الشكل أو المضمون دون وجود مثل تلك الذريعة. على صعيد آخر، فإن شراسة الغرب في التعامل مع هذه الأمة، وازدرائه لها، وعمله ليل نهار على سحقها، يدفعها دفعًا للاستيقاظ من رقادها، وللتنبه لوجودها ولدورها ولأهمية إيجاد كيان خاص بها. فهذا الترف الذي ينعم به الغرب على حساب المسلمين، وذاك السفه في ممارساته والإجرام في سياساته والاستهتار بالأمة الإسلامية وتسخيرها الفج بكل مقدراتها لصالح الغرب يولد الحسرة لدى المسلمين ابتداء، لكنه سرعان ما يتحول إلى طاقة وإرادة للعمل لإنهاء هذه الحالة، لا سيما أن حاجة البشرية اليوم للإسلام كبديل للحضارة الغربية الهشة هي أشد من حاجتها لكل الاختراعات والاكتشافات، بل إن البشرية اليوم هي أشد حاجة للإسلام من حاجتها للماء والهواء، فمن غير هذه تموت مرة واحدة، ومن غير الإسلام تموت كل يوم ألف مرة، وهو ما أكده الفيلسوف الفرنسي (ميشل أونفري) بقوله: «حضارتنا تنهار وتصعد للعدمية منذ الحرب العالمية الثانية، هذه الحضارة (الغربية) وصلت لنهاية المطاف، ومن الطبيعي أن نعلن الحداد. فيما هناك حضارات أخرى مستعدة، فالإسلام حضارة بلا حدود… أما حضارتنا فمرتبطة بالمسيحية، ونحن مصابون بإعياء مسيحي، ولم يعد بوسعنا فعل شيء ولم نعد ننتج شيئًا».