مفارقة الحكام
1993/09/09م
المقالات
2,217 زيارة
أيمن القادري
الحكام أنواع منهم الإمام العادل الذي يحكم بشرع الله، ومنهم الجائر والظالم والفاسق والكافر. أما الإمام العادل فالمطلوب معاونته والدفاع عنه وتأليف الناس حوله. وأما الإمام الذي تصدر منه بعض الهفوات أو الانحرافات فإن الشرع يطلب نصحه لأنه يدخل تحت عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة…» «ولأئمة المسلمين وعامتهم» وأما حكام الجور والظلم والفسق فهؤلاء يطلب الشرع مفارقتهم وعدم الركون إليهم وعدم معاونتهم بأي شيء من جورهم أو بأي شكل يعطيهم شهادة حسن سلوك في نظر العامة. ولا يجوز الاكتفاء بمفارقتهم، بل لا بد من العمل الجاد للتغيير عليهم أو تغييرهم. وأما الحاكم الكافر فإنه لا يجوز للمسلمين أصلاً أن يرضوا به حاكماً لبلادهم، وإذا حصل فإن عليهم أن يعملوا لتغيير حتماً ولا يجوز الاكتفاء بمفارقته.
والمقال التالي يتحدث عن حالة المفارقة:
ما ابتليت أمة المسلمين بأمر شرّ من حكّامها… نعم، لقد ابتليت بالأفكار المسمومة والدسائس الغربية، لكن هذه إن نُظِرَ إليها بعين ثابتة وفكر مستنير، تظهر أنها لا تمثل إلا فرعاً من المشكلة الأم وهي انحلال عقد الخلافة وتشرذم الأمة قسراً في كيانات هزيلة يتربّع فوق عروشها من يسبحون بحد الغرب بكرة وأصيلاً. إن الأفكار المسمومة يملك الحاكم اجتثاث جذورها وتعقبَ بؤرها فيما لو أخلص لله، وإن الدسائس الغربية لا تفلح لو وقف الحاكم أجهزة الدولة كلّها سداً منيعاً ينبري لها… لقد كان السلطان (أي السلطة)، لأجيال وقرون خلت، حارساً للدين فعزَّت الأمة وخفق لواؤها فوق الذُّرى يتحدى الكفر والطغيان ويئدهما في مهديهما، أما الآن فقد افترق السلطان عن الكتاب، إنها لمحنةٌ أنبأنا بها سيد الأنام صلى الله عليه وآله وسلم: «ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب…» رواه الطبراني. وهنا يتجلىّ لنا مفهوم مفارقة السلطان لأن عدم مفارقة الكتاب لا تعني إلا ذلك، فالمسلم يأبى أن يكون كهؤلاء الذين وصفهم الله تعالى بقوله: (… مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ) [النساء: 143].
وهذه المفارقة أساس واضح لا ينبغي العدول عنه بحجة مصلحة مُدّعاة أو استحسان ذاتي نجعله هو الحَكَمَ في أفعالنا، وأنّى ذلك والشافعي يقول: «من استحسن فقد شرّع» والشرع لا يتأتى إلا من الشارع، من الله جلّ وعلا.
والناظر إلى المفارقة من حيث هو مفهوم سياسي، لا بد أن يسأل عن المظاهر التي بها تتجلّى، وهنا لا بد من استقراء النصوص وتجميعها… وفي محاولة لذلك، اتّضح أن المفارقة تكمن في مسائل ثلاثة:
أولاً- رفض المشاركة في أنظمة الحكم الجاهلية.
وذلك مستقى من كثير من نصوص القرآن التي تجعل الحكم بغير آية كثراً أو ظلماً وفسقاً مع تبيين الفقهاء متى يكون كفراً ومتى غيره. إلا أن حديثين شريفين يأتيان صراحةً للتدليل على حرمة المشاركة، الحديث الأول رواه ابن حبان في صحيحه ثم جاء الألباني وقال: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات؟ ونصه: «ليأتين عليكم أمراء يقرّبون شرار الناس ويؤخّرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم فلا يكوننّ عريفاً ولا شرطياً ولا جابياً ولا خازناً». والحديث الثاني رواه الطبراني في الأوسط بسند صحيح، جاء فيه: «… ثم يأتيكم عمّال من بعدهم يقولون مالا يعملون ويعملون مالا يعرفون، فمن ناصحهم ووازرهم وشدَّ على أعضادهم، فأولئك قد هلكوا وأهلكوا…». والناظر في هذين الدليلين لا يجد أدنى إشارة إلى أن هذا الصنف من الحكام المأمور هجرُهم، نبذوا الاحتكام إلى شرعة الإسلام، نبذاً قاطعاً، ومعنى هذا أن النابذين أولى بأن يقابلوا بهذه الإجراء وبما هو اشدّ حزماً منه.
ثانياً – عدم التردُّدِ على أبوابهم.
عن محمد بن زيد أن أناساً قالوا لجده عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «إنا ندخل على سلاطيننا فنقول لهم بخلاف ما نتكلّم إذا خرجنا من عندهم. قال: كنا نعد هذا نفاقاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم» رواه البخاري. وهو في رياض الصالين للنووي ص556 باب ذمّ ذي الوجهين. وفي سنن ابن ماجه 1/1315 مثله.
وفي حديث أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن حِبّان في صحيحه، عن كعب بن عجرة مرفوعاً: «سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم فصدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، وليس بوارد عليّ الحوض، ومن لم يدخل عليهم، ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني وأنا منه، وهو وارد عليّ الحوض…» مما يدل على أن المسلم ينبغي أن يختار بين مفارقة أبواب الحكام ومفارقة أبواب الجنة! ولعل ذلك مُخَصَّصٌ بالحكام الظلمة، فمع الوعيد في حقّ زائري السلاطين، لم يرد شيء مقترن بالخروج من الدين (ليس مني ولست منه) إلا لزائري السلاطين الجَوَرة، وطبعاً لا يخرج حكّامنا الحاليّون عن هذا الوصف، قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) [المائدة: 45] هذا إن أحسنّا الظنّ وقلنا إن تركهم الاحتكام إلى القرآن لا يرافقه اعتقاد قلبي بعدم صوابية التشريع الإسلامي.
على أن الإثم في الزيادة يعظم في حقّ من تفقّه في الدين وأدرك مضامين نصوصه، لأن حجة الجهل انتفت، ولأن أمثال هذا النوع جعلوا دينهم مطية لأهداف دنيوية والأصل أن يُجعَل كل شيء مسخّراً لرفع لواء هذا الدين. قال ابن مسعود: «لو أن أهل العلم صانوا العمل ووضعوه عند أهله لسادوا به أهل زمانهم، ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا لينالوا به من دنياهم فهانوا عليهم» رواه ابن ماجه 1/95.
وقد أوضحت نصوص الشرع أن لا سبيل إلى الجمع بين مرضاة الله وزيارة أعدائه (لغير المحاسبة). عن أبي هريرة فيما يرويه ابن ماجه 1/94، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعوَّذوا بالله من جُبّ الحُزْن (الحَزَن) قالوا: يا رسول الله وما جُبّ الحزن؟ قال: وادٍ في جهنّم تتعوَّذ منه جهنّم كل يوم أربعمائة مرةً. قالوا: يا رسول الله، ومن يدخله؟ قال: أُعدَّ للقرّاء المرائين بأعمالهم، وإن من أبغض القراء إلى الله الذين يزورون الأمراء» قال المحاربي وهو أحد رجال السند في هذا الحديث معقّباً: «الجَوَرة» فقيّد، في اجتهاد منه، الأمر بالأمراء الجَوَرة أي الظلمة. إلا أن نص الحديث لم يشتمل على هذا القيد وكذلك حديث آخر في ابن ماجه أيضاً، 1/94، «إن أناساً من أمتي سيتفقّهون في الدين ويقرأون القرآن ويقولون: (نأتي الأمراء فنصيبُ من ديناهم ونعتزلهم بدينهم) ولا يكون ذلك كما لا يجتنى من القتاد إلا الشوك. كذلك لا يجتنى من قربهم إلا…» قال محمد بن الصباح: «كأنه يعني الخطايا».
هذا ما فهمه السلف الصالح فهماً أسفر عنه مهابةُ الحكام للعلماء وصونٌ من الرياء والشبهة. ها هو أبو جعفر المنصور يلقى سفيان الثوري في الطواف ـ وسفيان لا يعرفه ـ فيضرب المنصور على عاتقه قائلاً: أتعرفني؟ فيقول: لا، ولكنك قبضت عليّ قبضة جَبّار. فيقول المنصور: عظني أبا عبد الله، فيقول: وما عملت فيما علمت فأعظك فيما جهلت؟ قال عند ئذ المنصور سائلاً: فما يمنعك أن تأتينا؟ فجاءه الجواب بأبلغ خطاب: «إن الله نهى عنكم، قال تعالى: (وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ) [هود: 113]». فمسح أبو جعفر يده به، ثم التفت إلى أصحابه فقال: «ألقينا الحّبَّ إلى العلماء فلقطوا… إلا ما كان من سفيان فإنه أعيانا فراراً».
والمنصور نفسه، وهو ما تجدر الإشارة إليه، كان يشعر أن حكمه متداعٍ، وذا كان يأمل أن يزوره العلماء لتكون الزيارة شهادة «حسن سلوك» يشهرها أمام العامة. وكذلك الملوك في كل حين… إلا من عصم ربي. لقد كتب المنصور إلى أبي عبد الله جعفر الصادق: «لم لا تغشاني كما يغشانا الناس؟ [تأمل قوله «تغشاني» بصيغة الإفراد و«يغشانا» بصيغة الجمع لأن الناس يعظّمون المنصور بخلاف أبي عبد الله]. وكان جواب أبي عبد الله: «ليس لنا من الدنيا ما نخيفك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنّئك بها ولا نعدها نقمة فنعزّيك بها» فكتب له المنصور «تصحبنا لتنصحنا» فردّ أبو عبد الله: «من يطلب الدنيا لا ينصحك ومن يطلب الآخرة لا يصحبك».
ثالثاً – ترك الثناء عليهم:
كلّ إنسان عالم بسرائر ذاته، فإنْ خدع الناس بما يظهره لهم من تقوى، فلن يخدع نفسه. وإن كان صادق السريرة فهو أول من يملك التثبّت من ذلك. إلا أن الله أعمل منه فهو يعلم السر وأخفى، وهو اقدر على تمييز ما يراه المرء إخلاصاً وهو رياء، مما قد يراه المرء رياء وهو نقي من ذلك. وعليه فقد طلب منا، عزّ وجلّ، أن لا نصدر الحكم القاطع بالثناء على أنفسنا: (… فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى) [النجم: 32].
وإذا بات الأمر متعلقاً بمدح الآخرين، فإن الفقهاء يرون كراهة المدح في الوجه لمن خيف عليه مفسدة من إعجاب ونحوه وإنما رأوا جوازه لمن أمن ذلك في حقّه. كما قال النووي في رياض الصالحين ص 639. وغني عن الذكر أن حكام هذه الأيام من الصنف الأول.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يثني على رجل ويطريه في المِدْحة، فقال: «أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل» متفق عليه. وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رجلاً ذُكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيراً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ويحك! قطعت عنق صاحبك» يقوله مراراً: «إن كان أحدكم مادحاً لا محالة، فليقل: أحسَب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك وحسيبه الله، ولا يُزَكّى على الله أحد». متفق عليه. فانظر إلى الشروط القاسية التي أباح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم معها الثناء، هناك الضرورة أولاً «إن كان… لا محالة»، وهناك الثقة بأن المثنيّ عليه أهل للثناء: «إن كان يرى أنه كذلك…»، وهناك تصريح المادح بأن الثناء قائم على مبلغ علمه هو: «فليقل أحسَب كذا وكذا». ويأتي في آخر المطاف نوع من الإنذار «وحسيبه الله» وتذكير بالمنهج الإسلامي الأساس: «ولا يزكّى على الله أحد» وفوق هذا كلّه: حديث أبي بكرة لا يفيد المدح في الوجه!!
غير أن هذا التشديد في المنع يتفاقم في حالة من يجعل الثناء عادة. فعن همام بن الحارث عن المقداد رضي الله عنه أن رجلاً جعل يمدح عثمان رضي الله عنه، فَعَمِدَ المقداد فحثا على ركبتيه، فجعل يحثو في وجهه الحصباء، فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:« إذا رأيتم المدّاحين فاحثوا في وجوههم التراب» رواه مسلم. فكلمة «جعل يمدح» تفيد الإقبال على المدح. قال الفيروز ابادي صاحب القاموس المحيط، ص 1262 «جعل يفعل كذا: أقبل وأخذ» وهي أبلغ من مجرد قولنا «مَدَحَ» التي لا تفيد هذا الإكثار، ثم إن صيغة «مدّاحين» في الحديث النبوي تفيد المبالغة، فمن بالغ في المدح فحقّه حثو التراب في وجهه، أيا كان الممدوح، أليس الصحابي قد أجرى الحكم على عثمان المبشَّر بالجنّة؟ فمَنْ مِن حكام اليوم يَجْسُرُ على أن يدانيه؟
ولنمض أكثر فنرى كيف أن رجلاً يمدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قائلاً: «أنت سيّدنا وابن سيّدنا» فيغضب لها الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: «لا يستهويكم الشيطان فما أنا سيّد أحد. إنما أنا عبد الله ورسوله». رواه الدارمي وابن حنبل. فمن أين نستجيز أن نخاطب حاكماً بنظام كفر، بألقاب هي أدعى إلى الغرور من لفظة «سيد»، ثم بعد ذلك نرفض أن يقال: «لقد استهوانا الشيطان»!!!
لقد جاء رجل إلى مجلس عمر بن الخطاب وقال له: «اتق الله يا عمر» فغضب بَعْضُ الحاضرين من قوله وأرادوا أن يسكتوه فقال عمر: «لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نسمعها». إن عمر هنا يعتبر السكوت عن محاسبة الحاكم مدعاةً لنفي الخير عن الأمة، يعتبر أن كلمة الحق ن لم تُقَلْ فلا خير فيها ـ أي الأمة ـ فتالله… ما بالنا إذا قيل نقيضها؟ وما بالنا إذا كان القول على لسان العلماء ورثة الأنبياء؟!!
قد يَسْتَنْفِزُ من يرى جواز مدح هؤلاء الحكام، طائفة من التعليلات كالمصلحة والاستحسان ومراعاة أخف الضررين، وكلها مسوغات باطلة لا نقرّ النظر فيها عند التباس الحكم وفقد النص الصريح فكيف نقرّ بها والنصوص متضافرة في التصريح بما هو خلافها… وقد يستنفرون بعد ذلك حوادث من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهي حَرِيَّة بالدراسة لما فيها من شبهة دليل.
أما الأولى فهي قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه عند هجرتهم إلى الحبشة: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد…»، ويقولون لقد مدح الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الملك، رغم كفره آنذاك، وهو لم يمدحه على الجملة وإنما في جزئية معينة وهي «عدم السماح بظلم المسلمين»، وعليه فقد جاز الثناء على موقف هذا الحاكم أو ذاك من خلال برقية أو بيان ينشر في الجرائد، في حالة وقوفه وقفةً تساند فئة إسلامية أو تدعم مطلباً إسلامياً!! ولو عدنا إلى حادثة النجاشي، ملك الحبشة، لوجدنا، بما لا يقبل الشك، أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إنما أبدى هذا الثناء لأصحابه ولم يجعله على مسمع من النجاشي، بل كان يستطيع أن يرسل له رسالة بهذا المضمون ولكنه لم يفعل. ثم إذا عدنا إلى خطاب جعفر بن أبي طالب حين تحدث باسم وفد المسلمين وجدنا عبارته: «… ورجونا أن لا نظلم عندك» سيرة ابن هشام، فاحترازه بكلمة «رجونا» يحمل دلالةً على حرص شديد أن لا يبدر منه ثناء ما، وإن كان هذا الثناء مما تضمّنه كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، فما الذي دفع جعفر إلى إضافة كلمة «رجونا»؟ أليس التأكيد على إحالة الثناء إلى مجرد طلب… وهو تأكيد نابع من قناعته بأن الثناء، في هذا الموقف، منهيٌ عنه. وهو بظهر الغيب، فحسب، مُبَاح.
وأما الحادثة الثانية فهي ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم على حاتم الطائي بالكرم رغم وفاته على الإشراك. وفي دفع هذا عودة إلى ما أوردناه في دفع شبهة الحادثة الأولى. فالثناء لم يصدر في حضرة حاتم وأنّى ذلك وهو ميت، وبذلك لا يتأتى لأحدٍ أن يوصل إليه ما قاله فيه!!
وأما الحادثة الثالثة فهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث دحية بن خليفة الكلبي إلى هرقل ملك الروم، بكتاب فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتّبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام. اسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرّتين، وإن تولّيت فإن عليك إثم الأريسين…» متّفق عليه. (قال ابن حجر: الأريسين جمع أريسيّ وهو منسوب إلى أريس وهو الفلاح والمقصود بالكلمة الأتباع وعامة الشعب). ومكمن الاحتجاج هنا قوله صلى الله عليه وسلم لهرقل «عظيم الروم» فهو من باب التعظيم والتفخيم والإكبار، كما يضنّون. وقد غاب عنهم أن كلمة «عظيم» هنا لم تأتِ للتفخيم أو المديح بل جاءت بمعنى «رئيس» أو «ملك» من أجل تحميله المسؤولية بصفته الرئيس.
وعليه فكلمة عظيم «الواردة في نص الكتاب إنما تفيد إفهام هرقل أنه رجل له مكانة في قومه تمنحه القدرة على إقناعهم بالدين الجديد أو محاولة ذلك، وفعلاً حاول كما في طبقات ابن سعد، فلما رأى إعراضهم آثر المُلْكَ. وإن قول الرسول عليه السلام: «وإن توليت فإن عليك إثم الأريسين» يوضح ذلك، بل إنه يتضمن شيئاً من التهديد المنافي لاعتبار كلمة «عظيم» دالة على التفخيم. ولنعد إلى كلمة (تولّى) في القرآن كي نرى أنها تأتي في معرض الذم أو العتاب في أحسن الأحوال. فمن الذم قوله تعالى: (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران: 82].
ومن العتاب قوله تعالى في قصه الصحابي عبد الله بن مكتوم حين أغفله المصطفى عليه السلام وانصرف إلى كفّار قريش: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأََعْمَى) [عبس: 1 ـ 2].
يُضاف إلى ذلك أنه في إحدى الروايات التي جاءت تحكي نص الكتاب «من محمد رسول الله إلى صاحب الروم: إني أدعوك إلى الإسلام…» الأموال، أبو عبيدة، ص28.
ثم لا بد من التنبّه إلى أمر خطير وهو أن المثنيّ عليهم في هذه الحادثات كانوا جميعاً ممن لا يُناهضون الإسلام ولا يعملون على تشريد دعاته أو زجّهم في المعتقلات والسجون، وعليه فإن جاز الاستدلال بطريقة من الطرق فإن وجه الاستدلال لا يكون بالثناء على مواقف طغاة هذا الزمن ومعروف أنهم عملاء يعملون على كبت أنفاس الدعوة إلى الإسلام وإلى تطبيق شرعه على وجه الخصوص. ونسأل هنا: هل بَدَرَ شيء من هذا الثناء في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأبي جهل أو لأبي لَهَبٍ أو لأمية بن خلف؟ الجواب القاطع هو النفي.
إن عماد حياة الداعية المعاصر يجب أن يؤخذ من هذه الأدلة، ولننظر إلى الحاجّة المجاهدة زينب الغزالي وهي تُضرَب ستة آلاف وخمسمائة سوط ويغرونها تحت السياط اللاذعة بمنصب وزيرة الشؤون الاجتماعية على أن تمدح الطاغوت، حاكم مصر آنذاك، فترفض وتقول: «لن أجلس على كرسيّ يجلسني عليه طاغوت كافر فاجر، والمرأة لا تحكم في الإسلام». وهذا الشهيد سيد قطب يقول عندما حاولوا إغراءه بالمناصب وطلبوا منه تقديم طلب استرحام إلى ساجنه يحوي شيئاً من الثناء: «إن إصبع السبابة التي تشهد لله بالوحدانية في الصلاة لترفض أن تكتب حرفاً واحداً تقرّ به حكم طاغية».
فهل نعتبر؟!
1993-09-09