مباحث اقتصادية:
الوحدة النقدية الأوروبية
أثارت تصريحات وزير المالية الألماني تيو فايجل في أيلول الماضي شكوكاً اجتاحت كل القارة الأوروبية حول إمكانية تحقق الوحدة النقدية الأوروبية بحسب المخطط المرسوم في معاهدة ماستريخت، فهو قد أعلن أن إيطاليا ربما لن تكون قادرة على الانضمام للوحدة النقدية في موعدها المحدد 01/01/1999.
وفيما بعد أعلن ريموت جوهيمس المسؤول الأول عن المصرف المركزي الألماني (البوندسبنك) عن شكوكه في قدرة فرنسا على تحقيق معايير شروط المعاهدة، وتتحرك الآن الأسواق باتجاه المارك خوفاً من انخفاض أسعار الفرنك وربما بقية العملات الأوروبية، فجميع الدول الأوروبية – باستثناء ألمانيا ولوكسمبورغ – لم تحقق بعد المعايير المطلوبة قبل عام 1997 ولا زال عليها بذلك جهود لبلوغها، مما أثار المخاوف من عدم تحقق الوحدة في وقتها لاسيما أن الألمان يطالبون بوضع شروط جديدة على الوحدة الألمانية الأوروبية ويريدون التدخل في إعادة ترتيب ماليات هذه الدول حتى بعد تحقق الوحدة، فما هي حقيقة الوضع الآن في أوروبا؟
القادة الأوروبيون مصممون على موضوع الوحدة النقدية وتحقيقها في موعدها، وفي اجتماع رؤساء الدول في مايوركا أواخر شهر أيلول الماضي أعلنوا تثبيت شروط معاهدة ماستريخت ورفض أي تعديل فيها وحاولوا إزالة الشكوك التي أثارتها تصريحات الوزير الألماني من خلال التأكيد على بذل قصارى الجهود لبلوغ الهدف.
وفي 30/9 اجتمع وزراء المال الأوروبيون في بلنسية (أسبانيا) وأكدوا أن الانتقال إلى العملة الواحدة سيتم أول عام 1999.
وسيتم في مدريد انعقاد قمة الاتحاد الأوروبي في الشهر الأخير في هذا العام للانتهاء من تفاصيل عملية التحول إلى عملة واحدة، تصمم جميع الدول على الاشتراك فيها حسب شروط ماستريخت.
وتهدف معاهدة ماستريخت التي أقيمت عقب حرب الخليج وتفرد الولايات المتحدة بالهيمنة، إلى تحقيق وحدة سياسية واقتصادية لأوروبا تجعلها قوة مؤثرة دولياً قادرة على منافسة القوة الكبرى الأميركية، وأول خطوات تحقيق الفيدرالية الأوروبية هي توحيد العملة.
والمعايير الرئيسية الموضوعة لذلك ثلاثة هي: أولاً خفض العجز العام إلى 3% من إجمالي الناتج المحلي، وثانياً عدم تجاوز الديون العامة 60% من إجمالي الناتج المحلي، وثالثاً خفض التضخم إلى نسبة أقل من 3%، وذلك بحلول عام 1997 وهو الموعد المحدد لاختيار الدول التي ستشارك في الوحدة النقدية التي ستجلب فوائد كثيرة للدول المشتركة بها.
إن وجود عملة موحدة يقي من التقلبات العنيفة لأسعار العملات الكبرى لا سيما إذا تذكرنا خروج بريطانيا وإيطاليا من آلية سعر الصرف للعملات الأوروبية عام 1992، وهي تكمل وحدة السوق الداخلية وتسهل خفض الكلفة بالنسبة للمؤسسات الاقتصادية وخاصة النقدية بنحو 40 مليار مارك سنوياً تتكبدها التعاملات المؤسسات الاقتصادية كما أن تداول العملة الموحدة سيساعد على تحسين أوضاع الموازنات العامة، ومن الشروط السيئة – نسبياً – والواقعية أيضاً كون الوحدة النقدية غير قابلة للإلغاء والدولة التي تطلب الانسحاب أو التعديل في بنود الوحدة يجب أن يتوفر لها الإجماع، والإجماع فقط.
ويعتقد الأوروبيون أن الوحدة ستفيد في تخفيض معدلات البطالة المرشحة للزيادة ومن غير المتوقع انخفاضها في القريب العاجل رغم أنها كانت في العام 1994 تبلغ 11.6% وفي العام 1995 11% وهي أكبر من ذلك في قطاع الشباب فلا بد من نسبة نمو اقتصادي عالية (نسبة النمو عام 94 في أوروبا) تؤمن فرص عمل جديدة وتستمر فترة من الزمن وهذا يتأمن بشكل دائمي في الوحدة الاقتصادية الكاملة. وتشير الدراسات إلى أن سبعة دول فقط ستتمكن من تحقيق المعايير في العام 1997 وهي ألمانيا وفرنسا والنمسا وايرلندا ودول البينلوكس الثلاثة هولندا وبلجيكا ولكسمبورغ. إذ أن الدانمارك وبريطانيا غير مشتركتين لتعارض ذلك مع السيادة الوطنية ورفض الشعب بهما لمعاهدة ماستريخت عندما جرى الاستفتاء الشعبي.
السويد رغم مشاركتها في المعاهدة فالرأي العام فيها يميل ضد الوحدة الأوروبية إذ أنه في نتائج الانتخابات في 17 أيلول لاختيار الممثلين في البرلمان الأوروبي حصل حزب رئيس الوزراء انيغفار كارلسون المناصر للوحدة على 28% من الأصوات بينما نال الحزبان المعارضان لأوروبا الموحدة على 41% سوية، وقد أعلنت السويد عدم مشاركتها في الوحدة النقدية. أسبانيا والبرتغال تسيران على الطريق الصحيح لكنهما ستحتاجان إلى سنة أو سنتين لتلبية المعايير وكذلك اليونان وفلندا إلى تبلغ ديونها العامة 70% وهي تتجه نحو الارتفاع.
إيطاليا فرصتها ضئيلة إذ أن العجز في الميزانية يبلغ 9.6% والدين العام 123.7%، وكان رئيس الوزراء لامبرتو ديني طلب في اجتماع القمة في مايوركا تأجيل موعد الوحدة النقدية سنتين أو ثلاثة لأن إيطاليا من الدول المؤسسة للاتحاد.
هولندا تبلغ نسبة العجز فيها 3.8% ويتوقع أن تصل إلى تخفيضه 3% في العام 1997.
النمسا العجز في الموازنة العامة 1.4% والدين العام في انخفاض مما يسمح لها ببلوغ المعايير المطلوبة.
في بلجيكا العجز العام يبلغ 5.5%، والدين العام يصل إلى 1. 140% مما يتطلب جهوداً كبيرة من الحكومة للوصول إلى المعايير المطلوبة خلال سنتين. فرنسا لها وضع خاص فهي الحليف القوي لألمانيا في الاتحاد ومن غير المرجح قيام وحدة نقدية أوروبية بدونها لأن الفرنك الفرنسي هو ثاني أقوى عملات أوروبا وخلال السنوات العشر الأخيرة كانت سياستها النقدية تقوم على السماح بأي تخفيض للفرنك أمام المارك الألماني (سياسة الفرنك القوي) والإجراء الأساسي في ذلك هو فرض معدلات فائدة مرتفعة ودعم ملاحقة معدل الفائدة الحقيقي في فرنسا.
إلا أن هناك الآن ضغوطاً اقتصادية على حكومة آلان جوبيه، قوية لدرجة أن المحللين لا يمكنهم تخيل وضع أصعب من ذلك فشيراك جاء إلى السلطة بعد أن وعد بكل شيء: بالولاء لماستريخت ولأوروبا الموحدة، وأولى أولوياته كانت تخفيض البطالة، والضرائب الفرنسية العالية وعد بتخفيضها وعنده عجز في الموازنة يبلغ تقريباً 5.2% عليه تخفيضه إلى 3%، فهو الآن لا يستطيع خفض الضرائب وخفض عجز الميزانية ما لم يجر تخفيضات كبيرة في النفقات الحكومية لأنه متمسك بشدة بسياسة الفرنك القوي وخفض معدل الفائدة، وإن كان يغري من أجل تنشيط النمو الاقتصادي ولكن مضاربي العملات سيفرضون رفع سعر الفائدة لاحقاً.
ويرجح أن يقوم المصرف المركزي الألماني بالمساعدة عن طريق خفض مؤقت في أسعار الفائدة على المارك وتخفيض قيمته بشدة وهذا يواجه رفضاً شعبياً من قبل الألمان الذين يعتزون بعملتهم القومية مما دفع وزير المالية تيوفايغل إلى أن يصرح بأن حكومته لن تسمح بأي تخفيض يتداخل مع قوة المارك.
والمشكلة تكمن في التجار المضاربين بالعملات الذين يشبهون أسماك القرش فما أن يبدأ نزف الضحية ويشموا رائحة الدم حتى يبدأوا في الهجوم عليها بضراوة، وكان لهم دور كبير في إرغام بريطانيا على الخروج من سعر الصرف الأوروبي الموحد عام 1992 بتخفيضهم قيمة الجنيه بنسبة كبيرة وهم الآن يتوقعون انخفاضاً في سعر الفرنك على المدى القريب – وربما التخلي عن سياسة الفرنك القوي – وبدأوا في التحضير لشراء الماركات الألمانية.
وبعد كل هذا، وهل هذه الوحدة ضرورية؟
الأوربيون يصرون على تحقيقها رغم أن فرص تطبيقها لا تزيد على 50% وذلك لفوائدها الكبيرة، ولأنها ستنافس الدولار وتوجد لهم نفوذاً اقتصادياً قوياً ويقول الألمان أن ترك الوحدة النقدية الأوروبية في هذه المرحلة سيؤدي إلى هجوم تنافسي من قبل الدول الأوروبية على تخفيض قيمة عملاتها مما سيسبب انهيار الاتحاد وتهشمه.
الأميركان من جهتهم يخافون من نشوء الولايات المتحدة الأوروبية ويخشون الوحدة النقدية، فهم يثيرون المخاوف من الوحدة النقدية ويحاولون عرقلتها فقيام السوق المشتركة في رأيهم غير ضروري إذ أن منظمة التجارة العالمية – ربيبة أميركا – كافية لتنظيم المبادلات التجارية في العالم كله وبين الأعضاء الأوروبيون، وإن إدارة الوحدة النقدية ومن ثم الأوروبية بيروقراطية تفتقر للسرعة في التعامل مع الأوضاع القائمة والمستجدة، وهي فوق ذلك متطفلة تتدخل في الشئون الداخلية للدول الأوروبية وتعيقها من تبني سياستها المستقلة التي تؤمن لها تلبية احتياجاتها الخاصة بالاقتصاد الوطني.
يبقى الموقف الألماني:
ألمانيا قوة اقتصادية كبرى لا تحتاج لأوروبا الموحدة من الناحية الاقتصادية وعدم تحقق الوحدة النقدية ليس خطراً لأن المارك يمكنه أن يلعب دوراً نقدياً قوياً في وسط أوروبا وشرقها وعدم دخول فرنسا في الوحدة النقدية سيحول منطقة العملة الموحدة إلى منطقة للمارك الألماني وهذا في مصلحة الألمان، ولكن تاريخ ألمانيا أوجد لديها عرفاً سياسياً استوعبه هلموت كول بشكل كامل: لا بد لألمانيا لكي تكبر وتصبح قوة كبرى من غطاء دولي، والعمل بغير هذا الغطاء يجر الكوارث عليها، فلذلك تصر الحكومة الألمانية على مساعدة فرنسا لدخول الوحدة النقدية وتحقيقها في موعدها، وبملاحظة أن خطوات السير نحو الفيدرالية الأوروبية خطوات اقتصادية فهذا يعني أن ألمانيا ستكون مركز أوروبا الموحدة والقائد الذي لا بديل عنه، والمستشار الألماني الذي تنتهي ولايته عام 1998، وربما سيعتزل السياسة بعدها قال في مقابلة مع إذاعة ألمانيا في الذكرى السنوية الخامسة للوحدة الألمانية: «إنني أرى الاتحاد الأوروبي وقد اكتمل في عام 2005، وسيصبح قارتا أميركا وأوروبا الضوء الهادي في العالم فبالإضافة إلى أميركا فإن القارة الأوروبية ستكون القارة الحاسمة».
في المثل الشعبي يقولون (أين أذنك) لمن يحاول أن ينال شيئاً بإطالة الطريق على نفسه، وهذا هو حال الدول الأوروبية، إذ خوفاً من التقلبات العنيفة للعملات تسعى لأن توجد عملة قيمتها مأخوذة من قيم عملات 15 دولة بحيث أن الاختلال في قيمة إحداها سيكون تأثيره طفيفاً، ذلك بدلاً من العودة إلى قاعدة الذهب والفضة التي تلغي مثل هذه الاحتمالات وتؤمن الاستقرار النقدي والابتعاد عن الهيمنة المالية لدولة على غيرها، والاستقرار الذي يطمحون إليه لن يدوم أكثر من سنوات، إذ في النهاية – حسب ما هو مرسوم – ستتلاشى العملات الوطنية وسيتولى المصرف المركزي الأوروبي إصدار العملة وسندات الخزينة، وستعود دورة المضاربة في أسواق العملات بالعملة الموحدة وسترتفع قيمتها وتنخفض وتعود مشاكل سعر الفائدة والتضخم، وكونها عملة تابعة لقوة اقتصادية ضخمة لن يحميها من ذلك فاليابان والولايات المتحدة أمثلة حية وتجار أسواق العملات أعدادهم كبيرة وهم قادرون على التأثير بقوة في أي عملة.
ونقول الحمد لله على شرعه القويم ونسأله بعد أن أكرمنا بتنزيله أن يكرمنا بتطبيقه إنه سميع الدعاء والحمد لله رب العالمين.