الملف السياسي:
الحزب السياسي والقيادة السياسية واقعهما في الإسلام (4)
بقلم: فتحي عبد الله
إن مما زاد الطين بلة وكان ضغثاً على إبالة وزاد من ثقل العبء الملقي على عاتق الحركة الحزبية التحريرية الصحيحة للنهضة، هو أن الحركات التي قامت في الماضي وما زالت تقوم اليوم ولا سيما الإسلامي منها لم تكتف بالتصاقها بالواقع وبسطحية التفكير فلا تستطيع رؤية ما وراء الجدار، ولم تكتف بتأويلها الإسلام وبليِّ أعناق النصوص ليوافق الواقع الموجود ولتأخذ منه ما يوافق هواها ومصالحها مجترئة على الله ورسوله، لم تكتف بذلك كله بل عمدت إلى ممالأة السلطة الحاكمة ومحاباة ذوي النفوذ والسلطان وإلى التهافت على أعتاب الملوك والرؤساء والانصياع إلى توجيهاتهم وأوامرهم فراحت تهاجم الحركة الحزبية الصحيحة وتفتري عليها وتشوه أفكارها لا لشيء إلا خدمة لأولياء النعمة من الحكام والمتنفذين.
ولسنا هنا بحاجة إلى ضرب الأمثلة على تعاون هذه الحركات مع الفئات الحاكمة فإن التاريخ سيكشف ذلك بحذافيره وسنتركه له، لا بل إن هذه الحركات فضلاً عن ذلك كله زرعت اليأس في نفوس جماهير المسلمين التي لهثت وراءها ردحاً طويلاً من الزمن دونما أي نتيجة إلا تحقيق بعض المصالح الآنية الأنانية بدل أن تركز الجهود في العمل الصحيح الذي يجب أن يوجه إلى القضية الأساسية للامة الإسلامية التي تتجسد في إعادة الحكم بما أنزل الله بالقضاء على أنظمة الكفر وأحكامه، وفي حمل الدعوة الإسلامية إلى العالم عن طريق الدول بالجهاد في سبيل الله وبما يقتضيه هذا الجهاد الذي هو السياسة الخارجية للأمة والدولة من أعمال سياسية لافتة لنظر الشعوب والأمم.
وجملة القول في هذه الحركات التي يطلقون عليها حركات إسلامية أنها لم تكن تحمل في الماضي ولا في الحاضر أي تصور واضح لشكل الحكم في الإسلام ولا لدولته وأجهزتها ودستورها ولا للأنظمة والقوانين فيها وليس لديها أي تصور واضح أيضاً لطريقة إقامة الخلافة وطريقة الحكم بما أنزل الله، بل إن كل ما هو موجود عندها عن الإسلام كنظام سياسي للحياة والدولة والمجتمع هو أفكار عامة غير واضحة ينقصها البلورة والتحديد فكانت وما زالت تدعو إلى الإسلام بشكل مفتوح عام حتى أنه لو طرح سؤال واحد على مجموعة من أفراد هذه الحركات لكانت أجوبتهم مختلفة متباينة مما يدل على أنها لم تقم على الفكرة الإسلامية بالشكل التفصيلي، فهي لم تتبنَّ ما هو لازم اليوم من أحكام وأفكار وآراء إسلامية لإقامة الدولة الإسلامية وإيجاد المجتمع الإسلامي وإحداث النهضة الإسلامية، أي أنها لم تكن تملك برنامجاً محدداً واضحاً.
إننا على يقين تام بعد هذه الدراسة العميقة لواقع الحركات التي قامت في العالم الإسلام ولا سيما في البلاد العربية منذ هدم الخلافة حتى اليوم، سواء الإسلامي منها أو القومي أو الوطني، أن الفلسفة الحقيقية للنهضة أي الارتفاع الفكري في الحياة هي مبدأ يجمع الفكرة والطريقة معاً، وأن النهضة الصحيحة هي ذلك الارتفاع الفكري القائم على الأساس الروحي، أي على إدراك الصلة بالله تعالى إدراكاً عقلياً بأنه هو خالق الوجود كله من كون وإنسان وحياة، وأن صلة هذا الوجود المخلوق بالله الخالق هي الناحية الروحية فيه، وأن إدراك الإنسان عقلياً لهذه الصلة هو الروح التي تسير الأعمال المادية في الحياة، حين يقوم الإنسان بها لإشباع غرائزه وحاجاته العضوية، ليكون إشباعاً منظماً حسب أوامر هذا الخالق ونواهيه بحيث ينتفي وجود مشرع في الأرض غير الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ)، (أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ). هذا المبدأ الذي يجمع الفكرة والطريقة معاً هو الإسلام لأنه عقيدة ينبثق عنها نظام هو معالجات لمشاكل الحياة وحل لها، فالعقيدة والمعالجات فكرة فقط وتظل فكرة في الذهن أو في الكتاب إن لم يصحبها طريقة من جنسها منبثقة عنها تبين كيفية تنفيذ المعالجات وكيفية المحافظة على العقيدة وكيفية حمل الدعوة إلى هذه العقيدة، فتكون كيفية التنفيذ وكيفية المحافظة وكيفية الحمل هي الطريقة التي تنفذ بها الفكرة كي لا تظل خيالية كالمدينة الفاضلة وجمهورية أفلاطون.
ولما كان الإسلام قد أنزل إلى الإنسان بوصفه إنساناً بغض النظر عن زمانه ومكانه فإنه ولا ريب مبدأ عالمي جاء للإنسانية كافة (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) إلا أنه مع كونه مبدأ عالمياً ليس من طريقته أن يعمل له من البدء بشكل عالمي، بل يدعى له عالمياً ويجعل مجال العمل له في قطر أو أقطار حتى يتمركز أي يكون في مركز القوة فتقوم دولته التي تنمو نمواً طبيعياً حتى تشمل جميع العالم الإسلامي، وتحمله الدولة والأمة إلى سائر أنحاء العالم باعتباره رسالة الأمة والدولة وباعتباره رسالة إنسانية عالمية خالدة.
والعالم بأسره مكان صالح للدعوة الإسلامية لأن الإسلام أنزل على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة (قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) إلا أنه لما كانت البلاد الإسلامية يعتنق أهلها الإسلام وتعمرها الأمة الإسلامية على اختلاف شعوبها من عرب وترك وفرس وهنود وغيرهم، وهي أمة قد منيت بالانحطاط الفكري في شتى أقطارها من جراء عوامل كثيرة ترادفت عليها عبر القرون وأدت إلى هذا التخلف والانحطاط، فإن هذه الأمة الكريمة أولى الأمم وأولى الناس بأن تحمل إليها دعوة الإسلام لتفهمه حتى يكون واضحاً جلياً عندها في عقيدته وفيما انبثق عنها من أفكار وأحكام كي تستطيع بعد هذا التفهم أن تبصر الطريق لإقامة دولة الإسلام، فالأمة بحد ذاتها هي الدولة والدولة هي الأمة، فإذا ما وضحت فكرتها وتبلورت نبتت الدولة نبتاً طبيعياً كي تتمكن الأمة بعد ذلك من حمل الرسالة دولياً إلى العالم، إذ كيف يتأتى لها أن تحمل الرسالة العالمية رسالتها وهي في منأى عن فهم هذه الرسالة ومن ثم تطبيقها أولاً كنظام للحياة والدولة والمجتمع فتقدم بذلك النموذج العملي المنير للمجتمع الإسلامي ولدولة الإسلام حتى يراها البشر واقعاً محسوساً في معترك الحياة فيكون ذلك من أكبر دواعي دخول العباد في دين الله أفواجا.
ولما كانت البلاد الناطق أهلها بالعربية أي التي يسكنها الشعب العربي في مختلف أقطاره من طنجة حتى الخليج بوصفها جزءاً من العالم الإسلامي وبوصف اللغة العربية جزءاً جوهرياً من الإسلام، لا بل هي الطاقة التي تحمل بها طاقة الإسلام إذ لا يؤدى الإسلام أداء صحيحاً ولا يطبق تطبيقاً كاملاً واضحاً ولا يحمل حملاً قوياً مؤثراً إلا بلغته التي أنزل بها فضلاً عن اللغة العربية شرط أساسي من شروط الاجتهاد لاستنباط الأحكام التي هي معالجات لمشاكل الحياة، لما كانت اللغة العربية هذا شأنها بالنسبة إلى الإسلام كان أولى البلاد بالبدء بحمل الدعوة الإسلامية هي البلاد العربية، إذ لا بد من مزج الطاقة العربية بالطاقة الإسلامية لتتحد بالإسلام لما فيهما من قدرة على التأثير والتوسع والانتشار، فكان طبيعياً أن تنشأ الدولة الإسلامية في البلاد العربية كي تكون النواة للدولة الإسلامية الكبرى التي تشمل جميع العالم الإسلامي لتحمل الرسالة مع الأمة إلى العالم.
إلا أنه لا ينبغي أن يفهم أن بدء العمل في البلاد العربية يعني أن لا يعمل في غيرها من ديار الإسلام بل إن من المحتم أن ترسل الدعوة كذلك إلى سائر البلاد الإسلامية، ويجري التركيز في المجال العملي للدعوة أي في البلاد العربية لإقامة الدولة فيها بإذن الله تعالى ثم تنموا هذه الدولة طبيعياً فيما جاورها بقطع النظر عن كونه بلداً عربياً أو غير عربي.
وعليه فإننا نرى بعد هذا لبيان الشافي لواقع الحركات في العالم الإسلامي سواء منها من انتهى ومات أو مازال قائماً، وبعد وضع الإصبع على أسباب تخبطها وفشلها ودورانها حول نفسها وبعد أن زرعت اليأس في نفوس جماهير الأمة الإسلامية من قيام حركة أو حزب سياسي مبدئي يأخذ بيدها لإنهاضها من كبوتها وإعادتها إلى المكانة التي كانت تتسنمها في الماضي كأمة كبرى وكدولة كبرى، أن الفلسفة الحقيقية للنهضة هي مبدأ يجمع الفكرة والطريقة معاً، وإنه لا بد من تفهم هذه الكفرة وهذه الطريقة تفهماً عميقاً لكل حزب أو حركة أو تكتل يهدف إلى القيام بعمل جدي يؤدي إلى تغيير الواقع بإقامة دولة وبناء مجتمع وإحداث نهضة، وأن يكون هذا الحزب قائماً على الفكرة والطريقة بشكل تفصيلي.
وقد وضح هذا المبدأ بعون الله تعالى وفضله وأضحى تفهمه من أجل التكتل الحزبي أو الحركة الجماعية أو القيادة السياسية سهلاً ميسوراً، لا بل إن هذا التكتل قد وجد وأصبح مرموقاً يشار إليه بالبنان، واستطاع أن يفرض نفسه على المجتمع ليصبح فاعلاً فيه مؤثراً ومحركاً، رغم جميع ما يعترضه في طريقه من صعوبات لإعاقة سيره فقط كالحكام العملاء والمضبوعين بالثقافة الغربية والظلاميين الرجعيين، ورغم كل ما يواجهه من تشويه لأفكاره وافتراءات عليه.
وقد قام هذا التكتل بناء على هذا الفهم المسبق للفكرة الإسلامية وطريقتها، وبناء على قيامه عليهما بالشكل التفصيلي، أي أنه حزب سياسي تبنى من الأحكام والأفكار والآراء الإسلامية ما هو لازم اليوم لإنهاض الأمة بالإسلام كي يعرف ما الذي يجب هدمه وما الذي يجب بناؤه، ولذلك فهو حزب سياسي أو حركة جماعية مؤثرة إنشائية ارتقائية، جدير بأن يحتضنه المجتمع ويتكفله وأن يضطلع بأعباء حمل الدعوة الإسلامية معه لأنه تكتل هاضم لفكرته مبصر لطريقته فاهم لقضيته.
أما كيفية نشوء مثل هذا التكتل وما الأسباب الموجبة لقيامه فهذا ما سنعرض إليه في الحلقة القادمة إن شاء الله.
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)