قضايا فكرية: بقلم: أبو عبد الله – بيت المقدس
أبناء إبراهيم عليه السلام
(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)
لقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة – وخاصة على لسان بعض الزعماء الذين لهم صلة مباشرة بعملية السلام في الشرق الأوسط – عن مصطلح “أبناء إبراهيم” وذلك في محاولة منهم لإيجاد قاسم مشترك بين الفئات التي اقتتلت ردحاً طويلاً من الزمن للفوز بالسيطرة على بيت المقدس وما حوله من البلاد، فهم يهدفون إلى إبراز اليهود والنصارى والمسلمين كأصحاب ديانات سماوية لها نفس القدر من القدسية والمرجعية التشريعية، وأن أتباع تلك الديانات ينحدرون من أحل واحد ويتصلون بنسبهم إلى أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهذا يجعلهم يشعرون بشعور الأخوة نحو بعضهم البعض مما يساهم في تخفيف وتيرة الصراع بينهم تمشياً مع موجة السلام التي تجتاح المنطقة وأهلا. إن هذا المصطلح يحتاج إلى وقفة جادة ومعمقة كيلا يساء استخدامه ويفقد بالتالي معناه الحقيقي الذي وضع له أصلاً، هذه الوقفة يمكن التعبير عنها من خلال مناقشة عدة قضايا أهمها:
1- التعرف على شخصية إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
2- تحديد أتباعه والتعريف بهويتهم وكيفية انتمائهم إليه.
3- بيان وصايا إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبنائه.
4- إسقاط حق التبعية لـ “أبناء إبراهيم” عن كل شخص يثبت عليه الانحراف عن مقتضيات البندين 2، 3 أعلاه مع نفي الصفات التي ألصقها به أعداؤه.
5- بيان أن الشريعة الإسلامية ناسخة لكل الشرائع والديانات السابقة.
أما بالنسبة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام فهو إبراهيم بن تارح بن ناحور بن سارونج بن راغو بن فالغ بن عابر بن شامح بن ارفخذ بن سام بن نوح عليه السلام.
وهو نبي مرسل من الله عز وجل مؤمن بوحدانية وألوهيته وربوبيته، وصاحب معجزة عظيمة حيث أوقدت له النيران العظيمة وألقي فيها فلم تضره، بل كانت برداً وسلاماً عليه.
وسنقصر في بيان جوانب شخصته وأوصافه وفعالياته على ما ورد ذكره في القرآن الكريم ذلك أن أصدق الحديث كتاب الله، فقد آثاه الله سبحانه وتعالى رشده في صغره وابتعثه رسولاً واتخذه خليلاً في كبره. قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ) وقال سبحانه على لسان إبراهيم عليه السلام: (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) وقال جل شأنه: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً).
ومن أوصافه عليه الصلاة والسلام أنه كان أمة بعني قدوة وإماماً ومهتدياً وداعياً إلى الخير يقتدى به فيه، وقانتاً لله أي خاشعاً له في جميع حالاته وتحركاته وسكناته، حنيفاً أي مخلصاً على بصيرة، شاكراً لأنعمه أي شكر ربه بجميع جوارحه من قلبه ولسانه وأعماله، أواهاً حليماً، وقد جاءت هذه الأوصاف الآيات التالية:
(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ).
(وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ).
وقد عده الله سبحانه وتعالى مع أولي العزم من الرسل في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا).
وقد تجسد هذا الوصف عندما حطم الأصنام بيديه وصدع بقول الحق وناظر نمرود زمانه وتحداه وكشف كفره وضلاله،وقد وصفه الله تعالى بالوفي في قوله: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى).
وفيما ذكرت من أوصافه كفاية وغناء عن ذكرها جميعاً ما قد يضيق به مقام كهذا نظرة لكثرة ورود ذكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام في القرآن الكريم. ومن الطبيعي أن يكون لرجل مثله شأن عظيم بحكم الصفات التي قدم ذكرها ومن أبرزها الاصطفاء والنبوة. ومعلوم أن كل رسول يحمل رسالة يبلغها عن ربه إلى قومه، فيقبلها نفر منهم ويرفضها آخرون فتظهر أوصاف الاتباع من خلال التزامهم بمقتضيات الرسالة وتبنيهم لما جاء فيها، فهؤلاء يستحقون شرف الانتماء وحقوق العضوية لمنهجه.
وذلك يقودنا تلقائياً للتعرف على أهم الأوصاف التي يتقرر بموجبها إعطاء بطاقات شرف الانتماء لعضوية أبناء هذا النبي الكريم، وقد أتى القرآن الكريم على ذكرها في وقوله تعالى: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ).
وفي ذلك أبلغ الدلالة على أن الذي يتبع نهج إبراهيم عليه السلام يتشرف بالانتماء إليه، وكذلك – وهي النقطة الأهم في هذا الموضع – فإن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو أولى الناس بإبراهيم عليه السلام، ومعه كل من آمن بالعقيدة الإسلامية واتبع الشريعة السمحة، وهذا بحد ذاته دليل دامغ يدحض كل ادعاء بأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد اتبع ديناً غير دين الإسلام كاليهودية أو النصرانية بل إنه ومن اتبعه في عصره ومن بقي على ملته بعد موته والرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأتباه من المسلمين، كل هؤلاء ينهلون من معين واحد ويشربون من بئر واحدة.
وقد رد الله سبحانه وتعالى على اليهود والنصارى ادعاءهم هذا في قوله: (يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)، يأتي القرآن صراحة على سحق ادعاءاتهم بقوله سبحانه وتعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ).
وبما أنه ليس يهودياً ولا نصرانياً فهو قطعاً ومن باب أولى ليس ديمقراطياً ولا رأسمالياً ولا اشتراكياً ولا علمانياً ولا قومياً عربياً، ولا وطنياً فلسطينياً ولا أردنياً، أو غير ذلك من الصفات التي لا تليق به.
وأما وصاياه عليه السلام فقد أجملها القرآن الكريم في آية واحدة جامعة وهي قوله تعالى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) فاتباع الإسلام هو الوصية العظمى وهو الخطاب الإلهي للناس جميعاً ووصيته للمؤمنين منهم خاصة لقوله سبحانه وتعالى: (قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)، وقوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، فمن ليس بمسلم لا يقبل منه ومن لا يموت على الإسلام فقد يئس من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور، فقد نص القرآن الكريم على عدم جواز اتباع غير الإسلام ديناً في قوله: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ).
وكذلك فإن القرآن الكريم ناسخ لكل الكتب السماوية التي نزلت قبله مع إقراره بوجودها، قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) قال العلماء في تفسير ذلك بأن القرآن مسلط على الكتب السماوية السابقة وناسخ لها فهو المعتمد وغيره متروك.
أفبعد هذا البيان يقبل من أحد لا يدين بدين إبراهيم عليه السلام ولا يتبع منهجه أن يدعى تبعيته؟
وهل يتصور أن يمنح أحد شرف هذا الانتماء وهو بعيد كل البعد عن هدي أولى الناس بإبراهيم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بل ويعادي المؤمنين ويتربص بهم الدوائر؟
وهل يسوغ اعتبار من يتحدى أحكام الشريعة الإسلامية ويتبع شرعة الأمم المتحدة الكافرة أنه يمت بصلة طيبة مع سيدنا إبراهيم عليه السلام؟
لقد كان أبو لهب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال الله عن ابن نوح عليه السلام: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ)، وتبرأ إبراهيم عليه السلام من أبيه، وقتل أبوعبيدة أباه في بدر. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن هؤلاء الأدعياء لا يعلمون بأبسط وصايا إبراهيم عليه السلام لبنيه من الأخذ بسنن الفطرة التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله: (وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الفطرة خمس، الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط»، وفي رواية أن الكلمات عشر وهن الطهارة في الرأس خمسة وفي الجسد خمسة، أما في الرأس فقص الشارب والمضمضمة والسواك والاستنشاق وفرق الرأس، وفي الجسد تقليم الأظافر وحلق العانة ونتف الإبط والختان وغسل أثر الغائط والبول بالماء.
وختاماً نقول إن بعض هؤلاء المدعين بنوة إبراهيم قد يكون نسبهم، بحكم التسلسل الوراثي، متصلاً مع أبي الأنبياء إبراهيم أو أحد أبنائه وأحفاده، ولكنهم في واقعهم السلوكي يمثلون نموذجاً صارخاً للعقوق وشكلاً واضحاً من أشكال الحلق الفاسد المنحرف، وما هم في الحقيقة إلا نفر مارق فاسق يحاول تسويق هرطقات وترهات على شعوبهم المغلوبة على أمرها ليحققوا من خلال ذلك مآربهم الدنيئة وأغراضهم الخبيثة لتمكين الكفار من رقاب المسلمين.
فاللهم رد كيدهم في نحورهم، واجعل تدميرهم في تدبيرهم، وعجل الله لنا بفرجك ونصرك وبقيام دولة الخلافة الإسلامية التي فيها حكمك. إنك يا مولانا على كل شيء قدير وبالإجابة جدير وسلام على المرسلين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.