القصيدة التالية مع مقدمتها وعنوانها وردت إلى «الوعي» فرأت أن تنشرها على قرائها. ونشرها الآن لا يقلل من تأثيرها فالذين ذهبوا إلى مدريد ما زالوا يلهثون في الذهاب إلى كل مكان.
صيحة الجامع الكبير
كان الجامعُ الكبيرُ في قرطبة معقلاً من معاقل الإسلام العظيمة، وصرحاً من صروح الحضارة قلَّ أن شهد له التاريخ مثيلاً. في محرابه صلّى الفاتحون، وفي ساحاته تكونت حلقات الأئمة الأعلام من أمثال علي بن حزمٍ وابن رشدٍ والشاطبي وابن النفيس والزهراوي. منذ خمسة قرون وهو يطلّ كل صباحٍ ومساءٍ عبر الوادي الكبير. الذي يشقَّ قرطبة يسأل الطير والنسيم والأنجم والأفلاك عن أحبابه الذين هجروه. وبالأمس خُبِّر أن جماعةً من الأعراب في طريقها إلى مدريد فاشرأب عنقه وهاجت أشجانه، ثم كانت القصيدة:
مع الاعتذار الشديد لأعضاء الوفود فليسوا مقصودين بذواتهم
أرِقٌ وليلى مذ فُجِعتُ طويلُ *** أيُلام في حَمْلِ الهوى مَتبولُ؟
ما زلتُ أرقُبُ في شذاكَ أحبتي *** فمتى سيُشْفى يا نسيمُ عليلُ
أشقانيَ المحرابُ يسألُ عنهمُ *** مُذْ فارقوا، والمنبرُ المثكولُ
والمصحفُ المطويّ يسألُ عنهمُ *** قد شاقَهُ الترتيلُ والتأويلُ
=====
من هؤلاء القادمون؟ أعقبةٌ *** المجدُ فوقَ ركابهِ محمولُ
أم طارقٌ تشكو القواربُ يأسَهُ *** الفتحُ في عزَماتِهِ موصولُ
من هؤلاء القادمون جلودُهم *** سمرٌ ولكن في القلوب شُهُولُ
لم يستَقلِّوا الصافناتٍ وإنما *** ركبوا بغالاً سعيهنّ ثقيلُ
وتجرّدوا من كلَ أبيضَ صارمٍ *** للمجدِ فيه تلألوٌ وصليلُ
جاؤوا إلى مدريد، بئس مجيؤُهم *** لا السَعيُ محمودٌ ولا مأمولُ
جاؤوا إلى مدريد كلُّ عِتادهم *** قولٌ يفوحُ مهانة وطبولُ
جاؤوا إلى مدريد في أعناقِهم *** شرفُ العروبةِ، ويحَهمْ، مقتولُ
=====
يا أيها الأقصى الأبيُّ وقد علا *** فوق المآذن غاصبٌ ودخيلُ
يا أيها الأقصى الأبيُّ وقد جرى *** حلف الأعادي خائنٌ وعميلُ
مَنْ هؤلاء القادمون قلوبُهم *** شتّى، تكادُ من النِّفاقِ تزولُ
جاؤوا وخَلفَهمُ الكرامةُ تشتكي *** وبكل نادٍ وحشةٌ وذهولُ
جاؤوا يسوقهمُ الأعادي عَنوةً *** فَهمُو لهمْ بين الأنامِ ذيولُ
جاؤوا ويا بئسَ المجيءُ كأنهم *** حُمُرٌ تُساق إلى الرّدى وعُجولُ
=====
إنّي لأنكرُ هؤلاء فما همُو *** قومي وما أنا منهمو مَنسُولُ
أنا من كرامِ العالمين، صحائِفي *** بيضٌ ومجدي في الأنامِ أثيلُ
أنا من كرامِ العالمين وإن جَثا *** فوقِي الصليبُ ومنبري مكبولُ
قَومي هُمُ التاريخُ، في أعتابِهم *** صُنِعَ الفَخَارُ وكُوِّنَ التبجيلُ
ركبوا المنايا يومَ عزّتْ أنفسٌ *** فجرَتْ بهِمْ نوقٌ لها وخيولُ
وتقاسموا الدنيا فتوحَ شهادةٍ *** وفتوحَ هَدْيٍ ساحُهُنّ عقولُ
لم يهتِكوا عِرضاً ولا أزرى بهم *** دَنَسٌ يَشينُ فعَالَهم وغُلُولُ
كانوا الفضيلةَ في ذُرا عليائِها *** كانوا المكارِمَ والزّمانُ بخيلُ
كانوا العدالةَ شرعَةً مَهْديّةً *** كانوا التقى مُذْ أُحْكِمَ التنزيلُ
كانوا الهدايةَ للأنامِ، فكلهم *** للعالمين مُبلِّغٌ ورسولُ
=====
أنا من أولئك يا زمانُ وان غَدَتْ *** بيني وبينَهمُ رُبَى وسهول
أنا منهمو مهما تطاولَ بُعْدُنَا *** وبدا لنا بَعْدَ الرحيلِ رحيل
أنا منهمو ولسوف يجمعُ شَملَنا *** حُبٌ تجَذّرَ في القلوبِ أسيلُ
حُبٌ تُكَفْكِفُ وَجْدَهُ غِرناطةٌ *** وتذوبُ من لوعاتِهِ إشْبيلُ
حُبٌ على الإيمان شِيدَ بناؤُهُ *** عَبَقٌ بكلّ المكرُماتِ نبيلُ
أنا منهمو ولسوفَ يأتي طارقٌ *** ولسَوف تُدْحَرُ للعُدَاة فُلُولُ
ولسوف تعلو في المآذنِ صحيةٌ *** ويُجلجلُ التكبيرُ والتَهليلُ
فاخترْ لنفسِكَ ما تشاءُ فإنّهُ *** يومٌ سيأتي يا زمانُ جليلُ
د. أحمد بن عثمان بن عبدالعزيز التويجري
الرياض، الثلاثاء 23/04/1412هـ