نماذج من الفخاخ السياسية
1998/12/26م
المقالات
2,338 زيارة
الفخ السياسي: هو فكرة أو عمل أو وسيلة سياسية تنصب كمصيدة للقوى السياسية لتجذب إلى الطعم الكامن فيها لتقع في المصيدة بهدف السيطرة أو التسخير أو إضعاف القوة أو القضاء على هذه القوى.
والفخاخ السياسية تبنى على أساس الحقائق الفكرية والسياسية والتاريخية ومنها حقائق القوة والضعف وقوة التأثير وضعفه، وعلى أساس التضليل والمناورة والخداع والكيد والمكر، وعلى أساس فهم حال القوى السياسية المستهدفة ومعرفة طموحاتها وأهدافها لكي يتأتى حسن اختيار المصيدة والطعم المناسب للفريسة المستهدفة.
والفخاخ السياسية قد تكون في شكل الأفكار والأعمال والوسائل أو في مضمونها وأهدافها أو في نوعها وصفتها وأثرها. وقد يجري نصب أكثر من فخ للخصم في وقت واحد ظاهر وخفي ومفاجئ لضمان وقوعه في واحد منها. والكشف عن الفخاخ السياسية يستلزم الوعي السياسي الذي يعتمد على الحقائق وعلى الدلالة السياسية، أي: أن الأمور الدقيقة تكشف عن أمور عظيمة خفية، والنجاة من الفخاخ السياسية القاتلة أو الممرضة مرضاً خطيراً يستلزم الاستقامة وإخفاء المضامين والأبعاد للأفكار والأعمال والوسائل الإستراتيجية والإدارية، وعزل راسم السياسة عن القوى التي تباشر تنفيذها، وكتمان الأحوال السياسية للقوى السياسية التي تستوجب الإخفاء، وعدم التسرع في تحقيق أهداف مبدئية نتيجة اقتراحات وتأثيرات خارجية.
إن الحياة السياسية للقوى السياسية مفعمة بالنماذج للفخاخ السياسية سواء تعلقت بالأفكار أو الأعمال أو الوسائل ومنها الرجال، فمثلاً: فكرة نزع السلاح حين أدخلت لعصبة الأمم، اتخذتها إنجلترا وسيلة لإضعاف فرنسا، وأخذت تضغط على فرنسا من أجل تنفيذ الفكرة، وصارت تتظاهر هي بأنها أخذت تخفض أسلحتها، فصدقت فرنسا ذلك، وباشرت بالفعل في تخفيض أسلحتها، وحدت من نشاطها في التسلح وكان هذا مكيدة من إنجلترا من أجل أضعاف فرنسا بالنسبة لها، وبالنسبة لألمانيا، لذلك فإنها أي فرنسا لم تستطع الصمود أمام ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وانهارت انهياراً فظيعاً وسريعاً، وكان لأخذها بفكرة تخفيض التسلح أثر كبير في ذلك.
ومثلاً: حين وقعت الحرب العالمية الثانية نشطت روسيا في الصين، فأوجدت حزباً شيوعياً قوياً، وأسندته ليأخذ الحكم في الصين وكانت أميركا تسند الحكم القائم هناك، ثم صارت تسند شان كي تشك، وجعلته في أول الأمر يشرك الشيوعيين معه حتى صارت لهم قوة، وصار لهم وزن، ثم انفصلوا عنه وصاروا يحاربونه، وكانت تسند شان كاي تشك علنا وتمده بالمال والسلاح، ولكن بشكل محدود وكانت تشجع الحزب الشيوعي خفية، وتحد من نشاط شان كاي تشك، وظلت تسير بخطوات خفية، لكنها خطوات مركزة على وجه أدى إلى انتصار الشيوعيين، وأخذهم الحكم في الصين كلها وطرد شان كاي تشك وحصره في جزيرة فرموزا – تايوان– وكان شان كاي تشك يلاحظ ذلك ويستغربه، ولم يكن يتصور أن أميركا تضعفه وتسند الحزب الشيوعي لأنه لا يتصور أن أميركا تعمل لجعل الصين دولة شيوعية، ولكنه كان ينسب هذا للجهل الأميركي وأنهم غير مدركين للموقف، ولكن تبين فيما بعد أن أميركا قد وضعت خطة لجعل الصين دولة شيوعية، وذلك من أجل أن تقف في وجه روسيا ومن أجل تفكيك المعسكر الشيوعي وتحطيمه وبالفعل قد نجحت خطة أميركا، وإن كان نجاحها قد تم بعد ما يقرب من عشرين سنة، فهذا عمل سياسي قد قامت به أميركا، ويعتبر من الفخاخ الدولية العظيمة.
ومثلاً بعد الحرب العالمية الثانية خرجت أوروبا محطمة فقيرة مهددة من قبل روسيا، فرمت بنفسها في أحضان أميركا واستغاثت بها أن تنجدها، فسارعت أميركا إلى نجدتها ووضعت مشروع مارشال، وصارت المساعدات الأميركية تتدفق على أوروبا، ولكن هذه المساعدات كانت مواد اقتصادية وأسلحة وخبراء، وعن طريق هذه المساعدات دخلت شريكاً في الشركات، وشجعت الرجال المثقفين في أوروبا على الهجرة إلى أميركا، وربطت اقتصاد أوروبا باقتصاد أميركا، وما أن مرت بضع عشرة سنة إلا وأصبحت أوروبا تابعة لأميركا، وصارت تحت جناحها وصارت اقتصاديات أوروبا بشكل عام ملكاً للشركات الأمريكية، فكانت مساعدة أميركا لأوروبا مكيدة من أجل ربطها بها، ومن أجل أخذ مثقفيها، ومن أجل إشراكها في اقتصادياتها.
ومثلاً ألمانيا خرجت من الحرب العالمية الثانية مثخنة بالجراح محطمة الاقتصاد، مهيضة الجناح مدمرة الصناعات. فسارعت أميركا لمساعدتها، وكانت أي “أميركا” تدرك نقطة هامة في إنشاء الصناعة في الدول، فالدولة لا تكون دولة صناعية بالمعنى الدولي إلا إذا جعلت أساس صناعتها الصناعة الحربية، وبنت كل صناعاتها على الصناعة الحربية. وألمانيا إذا أعيدت لها الصناعة على هذا الأساس فإنه ما أسرع أن تعود دولة كبرى مرة أخرى ولذلك تقدمت أميركا من ألمانيا وتبنت إعادة صناعتها، فأقامت الصناعة فيها على أساس اقتصادي لا على أساس حربي، وعلى أساس التنمية لا على أساس الصناعة الحربية، وإلى جانب ذلك أدخلت الشركات الأميركية لألمانيا، وأقامت الصناعة بأموال أميركية، وبذلك ضربت ألمانيا كدولة عسكرياً وضربتها كأمة اقتصادياً فوجدت في ألمانيا مصانع ضخمة، وتحسنت اقتصاديات ألمانيا صناعياً، فصارت ألمانيا من ناحية اقتصادية أكثر ثروة مما كانت عليه قبل الحرب العالمية الثانية، وظهر للعالم كيف أعادت ألمانيا صناعتها بسرعة هائلة، لكن الحقيقة أن ألمانيا بهذه الصناعة على هذا الوجه قد انتحرت، ولن تقوم لها قائمة إلا إذا أعادت النظر من جديد في صناعتها فنفضتها من الأساس، وأقامتها على أساس الصناعة الحربية، ولن تتقدم اقتصادياً إلا إذا أخرجت الشركات الأمريكية والأموال الأميركية من البلاد – فهذه المساعدة من أميركا لألمانيا على هذا الشكل عمل سياسي يعتبر من الفخاخ الدولية وقد ضرب ألمانيا بدل أن يأخذ بيدها.
ومثلاً: قامت بريطانيا بنصب فخ دولي لكل من فرنسا، وروسيا، وألمانيا، عن طريق تقوية ألمانيا وتشجيع هتلر لتنمية هذه القوة لإحداث خلل في ميزان القوى الدولية بشكل يهدد فرنسا وروسيا ولتقوم ألمانيا بالنيابة عنها في معالجة القوة الفرنسية والروسية وقد خمنت بريطانيا أن ألمانيا قد تدرك حقيقة الفخ المنصوب لها، وبالتالي تتجنب الوقوع فيه أو تتجنب أن تزج فيه زجاً وتقوم بهذا الأمر في الوقت والظرف المناسب، ومن أجل أن تضمن بريطانيا تجنب خطر تقوية ألمانيا عمدت إلى نصب فخ دولي آخر لها لمعالجة القوة الألمانية، فقامت بإطلاع الشركات الأميركية على كنوز وثروات الشرق الأوسط وجعلتهم يتذوقون طعم الاستغلال ويتلمسون عظم الكنوز. وبذلك ضمنت تسخير القوة الأميركية في معالجة القوة الألمانية. وهذا ما حصل بالفعل، وإن كانت النتائج بعد الحرب العالمية الثانية لم تكن لصالحها ومع ذلك فإن بريطانيا لم تيأس من وضعها وشجعت أميركا لتتولى قيادة المعسكر الغربي لتعالج قوتها وقوة الإتحاد السوفيتي عن طريق إذكاء نار الحرب الباردة القديمة بينهما وكادت أن تنجح لولا أن روسيا عمدت إلى جعل أميركا تدرك نوايا الإنجليز وتداركت أميركا نفسها في اللحظة الأخيرة، وها هي الآن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي تنصب لأميركا الفخاخ لتعالج قوتها وسيطرتها ولتضمن وقوع أميركا بواحدة منها لتعود إنجلترا دولة فاعلة في الموقف الدولي.
عبد العزيز شاكر
1998-12-26