غـزوة الخـنـدق
1999/09/24م
المقالات
1,548 زيارة
ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم دومة الجندل، في ربيع الأول من السنة الخامسة للهجرة، واستعمل على المدينة سباع بن عُرفطة الغفاري. ثم رجع إلى المدينة قبل أن يصل إليها، ولم يلق كيداً. أما الواقدي فأورد عن جماعة من السلف قالوا: أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدنو إلى أداني الشام، وقيل له إن ذلك مما يفزع الروم، وإن بدومة الجندل جمعاً كبيراً، وإنهم يظلمون من مرّ بهم، وكان بها سوق عظيم، وهم يريدون أن يدنوا من المدينة، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فخرج ألف من المسلمين، فكان يسير بهم الليل، ويكمن النهار، فلما دنا من دومة الجندل، أخبره دليله بسوائم بني تميم. فسار حتى هجم على ماشيتهم ورعائهم، فأصاب من أصاب، وهرب من هرب في كل وجه، ووصل الخبر إلى مسامع أهل دومة الجندل، فتفرقوا، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم، فلم يجد فيها أحداً، فأقام بها أياماً، وبث السرايا، ورجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وكانت هذه الغزوة بداية تهديد تخوم الإمبراطورية الرومانية، وإرشاداً للصحابة في حمل هذا الدين، إلى خارج جزيرة العرب، وهذا ما قام به خلفاؤه رضوان الله عليهم. ثم كانت غزوة الخندق.
وقد اختلف في أي سنة كانت، فابن إسحاق، وعروة بن الزبير، وقتادة، والبيهقي، رَوَوْا أنها كانت في شوال من السنة الخامسة للهجرة، بينما روى موسى بن عقبة عن الزهري، أنها كانت في شوال من السنة الرابعة للهجرة، وكذلك قال الإمام مالك بن أنس، والأصوب أنها كانت في شوال من السنة الخامسة للهجرة. وكان سببها أن نفراً من اليهود من بني النضير ومن بني وائل أتَوْا مكة، فدعَوْا قريشاً إلى حرب محمد وأصحابه، وأغرَوْهم بأنهم سيمدونهم بالعون، فأجابهم أهل مكة إلى ذلك، ثم خرجوا إلى غطفان. فدعوهم إلى حرب محمد وأصحابه، وأن قريشاً استعدت لذلك، فأجابوهم أيضاً إلى ما دعوهم إليه. وكان من مكر اليهود ونفاقهم، حين سألتهم قريش: أيهما خير ديننا أم دين محمد؟، أنهم أجابوهم: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، وفي هؤلاء اليهود نزل قوله تعالى: (ألم تَرَ إلى الذين أوتوا نصيـباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً ). وقد أنزل الله في هذه الغزوة صدر سورة الأحزاب، من قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً ) إلى قوله تعالى: (وردّ اللهُ الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً ).
وقد خرجت قريش في عشرة آلاف من أحابيشهم وما تبعهم من بني كنانة وأهل تهامة، وقائدها أبو سفيان، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد. وكان من أبرز قادتها عيينة بن حصن، وجاءت بنو قريظة من فوق المسلمين، وجاءت قريش وغطفان من أسفل منهم، وفي هذا يقول الله تعالى: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم). فلما سمع بهم الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب الخندق من حول المدينة، وكان أشار بحفر الخندق سلمان الفارسي رضي الله عنه، وعمل رسول الله في حفر الخندق، كما عمل معه المسلمون، وجعل المنافقون يستترون بالضعيف من العمل، ويتسللون إلى أهاليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعودون إلى أعمالهم، وفيهم نزل قوله تعالى: (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً)، ومن المنافقين من يستأذن رسول الله قائلين إن بيتهم مكشوفة، وفيهم نزل قوله تعالى: (ويستأذن فريق منهم النبيَّ يقولون إنّ بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً ) ، ومنهم من كان يخذّل المسلمين، كما قال تعالى: (وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مُـقـامَ لكم فارجِعوا)؛ أما المؤمنون، فكانوا يتسابقون في العمل، ويرتجزون:
نحن الذين بايعوا محمدا
على الجهاد ما بقينا أبدا
وقد أصـابهم النصب والجوع، فلما رأى رسـول الله صلى الله عليه وسلم ما بهـم مـن شـدة وكـرب قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم إن العيش عيش الآخرة، فارحم الأنصار والمهاجرة». وقد وصف القرآن حال المسلمين في قوله تعالى: (هنالك ابتلي المؤمنون وزُلزِلوا زِلزالاً شديداً ) ، سيما بعد أن بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض المسلمين، أن كعب بن أسد زعيم بني قريظة، قد نقض العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إلحاح حيي بن أخطب عليه بالنقض، وإغرائه بجموع قريش وغطفان، وأنهم سيستأصلون محمداً وأصحابه، وقد اشتد بالمسلمين الخوف، حتى إنّ أحدهم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.
وقد حاول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكسر شوكة الكافرين، فساوم زعيمين من غطفان على أن يعطيهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا عن المدينة، وهمَّ أن يكتب بينه وبينهم الكتاب، ولكنه بعث إلى السعدين: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، يستشيرهما فيما هَمَّ به، فقالا له: يا رسول الله، أمراً نحبه فنصنعه، أم شيئاً أمرك الله به، لا بد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلاّ لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما. فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا، نحن وهؤلاء القوم، على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة إلا قِرىً أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له وأعزّنا بك وبه، نعطيهم أموالنا! والله، ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم؛ فسُـرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: أنتم وذاك، وقال لزعيمي غطفان: «انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف».
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون على حالهم، والمشركون يحاصرونهم، ولا قتال بينهم، بضعاً وعشرين ليلة، إلا أن فرساناً من قريش، منهم عمرو بن عبد ودّ العامري، وعكرمة بن أبي جهل، تيمّموا مكاناً ضيقاً من الخندق، فجاوزوه بخيولهم، وأخذوا يتحدون المسلمين، ينادونهم: من يـبارز؟ فبرز علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ودّ وقال له: يا عمرو، إنك عاهدت الله، فيما بلغنا، أنك لا تُدعى إلى إحدى خلّتين إلاّ أخذت إحداهما؟ قال: نعم. قال عليّ: فإني أدعوك إلى الله والإسلام؛ قال عمرو: لا حاجة لي بذلك؛ قال: فأدعوك إلى البراز؛ قال: يا ابن أخي، والله ما أحب أن أقتلك لما كان بيني وبين أبيك؛ فقال له علي: أنا والله أحب أن أقتلك. فاستثار بذلك عمراً، فتـنازلا وتجاولا، فما انجلى النقع حتى رُئي عليّ على صدر عمرو يقطع رأسه، فلما رأى أصحابه مقتل عمرو، اقتحموا بخيلهم الثغرة منهزمين هاربين.
ثم إن نُعيماً بن مسعود أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، ولم يعلم قومي بإسلامي، فمُرني بما شئت؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنت رجل واحد من غطفان، فلو خرجت فخذَّلت عنا إن استطعت كان أحب إلينا من بقائك معنا، فاخرج فإن الحرب خدعة». فخرج نُعيم حتى أتى بني قريظة، وكان ينادمهم في الجاهلية، فقال لهم: إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، وفيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، وإنهم جاءوا لحرب محمد وأصحابه، فإن أصابوه، وإلاّ لحقوا ببلادهم، وخلّوا بينكم وبين الرجل، ولا طاقة لكم به. فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً. ثم خرج حتى أتى قريشاً فقال لهم: تعلمون أن معشر يهود، قد ندموا على ما كان من خذلانهم محمداً، وقد أرسلوا إليه يسترضونه، على أن يأخذوا من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فيسلمونهم إليه فيضرب أعناقهم. وكان أن أرسل أبو سفيان عكرمة بن أبي جهل إلى بني قريظة، يستحثهم على بدء قتال محمد في الغد، وكان الغد يوم سبت، فرفض اليهود القتال يوم السبت وطلبوا من قريش وغطفان رهائن، ما أكّد مقولة نعيم بن مسعود، فخذل الله بينهم، واختلفت كلمتهم، وبعث الله ريحاً عاصفاً في ليال شديدة البرد. فجعلت الريح تقلب آنيتهم، وتكفأ قدورهم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان ليأتيه بخبرهم، فأتاهم فاستتر بينهم، وسمع أبا سفيان يقول: يا معشر قريش، ليتعرف كل امرئٍ جليسه، ثم قال: ويلكم يا معشر قريش، إنكم والله، ما أصبحتم بدار مقام. ولقد هلك الكراع والخف (أي الخيل والإبل)، وأخلفتـنا بنو قريظة، ولقينا من الريح ما ترون: ما يستمسك لنا بناء، ولا تثبت لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، فارتحلوا فإني مرتحل. وعاد حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فحمد الله، وكفى الله المؤمنين القتال.
وفي صـحيـح مسـلـم، عن الأعمـش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنا عند حذيفة، فقال رجلٌ لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت. فقال حذيفة: أنت تفعل ذلك! لقد رأيتُنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب، وأخذتـنا ريح شديدة وقرّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا رجلٌ يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة» فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال: «ألا رجلٌ يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة» فسكتنا فلم يجبه أحد، فقال: «قم يا حذيفة فأتـنا بخبر القوم» فلم أجد بدّاً إذ دعاني باسمي أن أقوم، قال: «اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم عليّ» ثم بقية القصة.
وكان من غرائب غزوة الخندق ما خرَّجه النسائي عن البراء قال: لما أمرنا رسول الله أن نحفر الخندق، عرض لنا صخرة لا تأخذ فيها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى ثوبه وأخذ المعول وقال: بسم الله، فضرب ضربة فكسر ثلث الصخرة، ثم قال: «الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله، إني لأبصر إلى قصورها الحمراء الآن من مكاني هذا»؛ قال: ثم ضرب أخرى وقال: بسم الله، فكسر ثلثاً آخر، ثم قال: «الله أكبر أُعطيت مفاتيح فارس، والله، إني لأبصر قصر المدائن الأبيض»، ثم ضرب الثالثة وقال: بسم الله، فقطع الحجر وقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر باب صنعاء». وهذا مصداق قوله تعالى: (سيجعل الله بعد عسرٍ يُسراً ) وقوله تعالى: (فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً ) . وروى ابن إسحاق عن أبي هريرة أنه كان يقول، حين فتحت هذه الأمصار في زمان عمر وزمان عثمان وما بعده: افتتحوا ما بدا لكم، فوالذي نفس أبي هريرة بيده، ما افتتحتم من مدينة، ولا تفتتحونها إلى يوم القيامة، إلاّ وقد أعطى الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك.
ومن الغرائب أيضاً، ما رواه جابر بن عبد الله قال: عملنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق، فكانت عندي شويهة غير جد سمينة (غير كاملة السمن) قال: فقلت: والله لو صنعناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فأمرت امرأتي، فطحنت لنا شيئاً من شعير، فصنعت لنا منه خبزاً. وذبحت تلك الشاه، فشويناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فلما أمسينا، وأراد رسول الله الانصراف عن الخندق، قال: قلت: يا رسول الله، إني قد صنعت لك شويهة كانت عندنا، وصنعنا معها شيئاً من خبز هذا الشعير، فأحب أن تـنصرف معي إلى منزلي، وإنما أريد أن ينصرف معي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، قال: فلمـا أن قلـت له ذلك، قـال: نعـم، ثـم أمـر صارخاً فصرخ: أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت جابر بن عبد الله، قال: قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال: فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل الناس معه، قال: فجلس وأخرجناها إليه. قال: فبرك فسمّى الله، ثم أكل، وتواردها الناس، كلمـا فـرغ قـوم قامـوا وجـاء نـاس، حتـى صدر أهل الخندق عنها.
وكان من تداعيات غزوة الخندق، أن رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ووضع المسلمون سلاحهم، فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: يا محمد، إن كنتم قد وضعتم سلاحكم، فما وضعت الملائكة سلاحها، إن الله يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة، وإني متقدّم فمزلزل بهم حصونهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً فنادى: لا يصليَنَّ أحد العصر إلاّ في بني قريظة.
1999-09-24