سلسلة أمهات المؤمنين (3): عائشة بنت أبي بكر (رضي الله عنهما)
2010/03/20م
المقالات
3,004 زيارة
فبهداهم اقتده:
سلسلة أمهات المؤمنين (3)
عائشة بنت أبي بكر (رضي الله عنهما)
هي الصدّيقة بنت الصدّيق عائشة بنت أبي بكر بن قُحافة، وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر الكِنَانية، ولدت في الإسلام، بعد البعثة النبوية بأربع أو خمس سنوات. وعندما هاجر والدها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة، بعث إليها بعبد الله بن أريقط الليثي ومعه بعيران أو ثلاثة للحاق به، فانطلقت مهاجرة مع أختها أسماء ووالدتها وأخيها.
الرؤيا
مضت فترة على زواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من سودة (رضي الله عنها)، ثم استيقظ يوماً مسترجعاً في مخيلته ذكرى حلم رآه، فقد جاءه جبريل عليه السلام بقطعة قماش حريري عليها صورة عائشة بنت أبي بكر وقال له: إنها زوجتك في الدنيا والآخرة. ولما تكررت الرؤيا ليومين على التوالي، أدرك (صلى الله عليه وآله وسلم) أنها أمر من الله سبحانه وتعالى، ولابد من تنفيذ أمر الله.
الخِطبة
عن خولة بنت حكيم قالت: دخلت بيت أبي بكر فوجدت أم رومان، فقلت لها: ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة، قالت: وما ذاك؟ فقالت: أرسلني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأخطب له عائشة. قالت: وَدِدْتُ، انتظري أبا بكرٍ فإنه آتٍ. وجاء أبو بكر، فقلت له: يا أبا بكر، ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة؟ أرسلني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأخطب له عائشة. قال الصديق (رضي الله عنه): وهل تصلح له؟ إنما هي بنت أخيه. فرجعت إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقلت له ما قال أبو بكر، فقال: «ارْجِعِي إِلَيْهِ فَقُولِي لَهُ: أَنَا أَخُوكَ وَأَنْتَ أَخِي فِي الإِسْلامِ وَابْنَتُكَ تَصْلُحُ لِي» فَرَجَعَتْ فأتيت أبا بكرٍ فذكرت له ذلك، قال: انتظريني حتى أرجع. قالت أم رومان توضِّح الموقف لخولة: إن المطعم بن عدي كان قد ذكر عائشة على ابنه زبير، ولا والله ما وعد أبو بكرٍ شيئاً قط فأخلف. دخل أبو بكر على مطعم وعنده امرأته أم زبير، وكانت مشركةً، فقالت العجوز: يا ابن أبي قحافة لعلنا إن زوَّجنا ابننا من ابنتك أن تصبئه وتدخله في دينك الذي أنت عليه. فالتفت إلى زوجها المُطعم فقال: ما تقول هذه؟ فقال: إنها تقول كذلك. فخرج أبو بكرٍ (رضي الله عنه) وقد شعر بارتياحٍ لما أحلَّه الله من وعده، وعاد إلى بيته، فقال لخولة: ادعي لي رسول الله. فمضت خولة إلى الرسول الكريم فدعته، فجاء بيت صديقه أبي بكر، فأنكحه عائشة وهي يومئذٍ بنت ست سنين أو سبع.
الزواج
إن العقد على عائشة سبق الدخول بسنوات، ولما استقر عليه الصلاة والسلام بالمدينة، أرسل زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة ليأتيا بمن خلَّف من أهله، وأرسل معهما عبد الله بن أريقط يدلهما على الطريق. والنبي عليه الصلاة والسلام يهيِّئ الدور لزوجته سودة ولزوجته عائشة ليستقبل فيها أهله، غرفةٌ صغيرةٌ جداً ملحقةٌ بالمسجد هذه الغرفة بيت عائشة، وكانت هذه الغرفة الصغيرة التي لا تتسع لصلاته ونوم زوجته معاً، إما أن يصلي فتنزاح جانباً، وإما أن يناما معاً، أما أن يصلي هو وتنام هي فالغرفة لا تتسع لهما.
وصلت هذه السيدة الجليلة إلى المدينة مع أمها أم رومان، وأختها أسماء، وأخيها عبد الله، واستقروا في دار الوالد الصديق (رضي الله عنه)، ولم تمضِ أشهر معدودات حتى تكلَّم الصديق (رضي الله عنه) إلى النبي عليه الصلاة والسلام في إتمام الزواج الذي عقده بمكة. فلما كلَّم الصديق رسول الله في شأن إتمام الزواج، سارع النبي عليه الصلاة والسلام، وسارعت نساء الأنصار إلى منزل الصديق لتهيئة هذه العروس الشابَّة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وحينما دخلت أم السيدة عائشة (رضي الله عنها) على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومعها ابنتها العروس السيدة عائشة بعد أن هُيئت له، دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في دار أبي بكر وقالت: «يا رسول الله هؤلاء أهلك، بارك الله لك فيهن وبارك لهن فيك».
أول حب في الإسلام
كانت عائشة (رضي الله عنها) أول حب في الإسلام. فعن أنس (رضي الله عنه) قال: «أول حبٍ كان في الإسلام حب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعائشة (رضي الله عنها)» وكانت تسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كيف حبك لي، فيقول: مثل العقدة، ثم تعود فتسأل بعد فترة: كيف حال العقدة، فيجيبها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): على حالها.
الزوجة الغيور
وفي ذات ليلة خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى البقيع حيث مدافن المسلمين وكثيراً ما كان يخرج إليها ليلاً، بعد صلاة الفجر، يزور أهل البقيع ويسلم عليهم ويدعو للمؤمنين والمؤمنات ويتذكر الموت والآخرة. فاستفاقت عائشة فلم تجده بجوارها، فقلقت وتحيرت في أمرها وظلت على حالها تلك حتى عاد رسول الله ورأى ما هي عليه من الهم والأرق، فأنكر ذلك منها، وقد ظنت أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قد خرج إلى إحدى نسائه غيرها، فقال لها: إذاً فقد غلبك شيطانك يا عائشة؟ فسألته: أي شيطان يا رسول الله؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): لكل إنسان شيطان. فأردفت: وحتى أنت يا رسول الله. فأجابها (صلى الله عليه وآله وسلم): نعم، ولكن الله تعالى أعانني عليه فأسلم.
وأرسلت أم سلمة مرةً بصحفة من ثريد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو عند عائشة وعنده ضيوف، فضربت عائشة (رضي الله عنها) الصحفة فانفلقت، فجعل رسول الله يجمع الثريد ويقول لأصحابه: كلوا، غارت أمكم، غارت أمكم. وأرسل صحفة سليمة إلى أم سلمة وترك المكسورة لعائشة.
غيرة نسائه (صلى الله عليه وآله وسلم) منها
لقد احتلَّت السيدة عائشة (رضي الله عنها) مكانةً كبيرةً في بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، مما جعل أنظـار الصحابة تتجه بإعجابٍ وإكبارٍ واحترامٍ وإجلالٍ نحو بيت أم المؤمنين الثالثة السيدة عائشة، لما خصَّها الله تعالى من الفضائل والمُكرُمات، مما أثار غيرة أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أجمعين.
عن هِشَام عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَاجْتَمَعَ صَوَاحِبِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلْنَ: يَا أُمَّ سَلَمَةَ، وَاللَّهِ إِنَّ النَّاسَ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ، وَإِنَّا نُرِيدُ الْخَيْرَ كَمَا تُرِيدُهُ عَائِشَةُ، فَمُرِي رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ أَنْ يُهْدُوا إِلَيْهِ حَيْثُ مَا كَانَ أَوْ حَيْثُ مَا دَارَ، قَالَتْ: فَذَكَرَتْ ذَلِكَ أُمُّ سَلَمَةَ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَتْ: فَأَعْرَضَ عَنِّي، فَلَمَّا عَادَ إِلَيَّ ذَكَرْتُ لَهُ ذَاكَ، فَأَعْرَضَ عَنِّي، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ ذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ: يَا أُمَّ سَلَمَةَ، لا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا نَزَلَ عَلَيَّ الْوَحْيُ وَأَنَا فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ غَيْرِهَا» (أخرجه البخاري).
ثم إن أمهات المؤمنين حاولن محاولةً ثانية مع السيدة فاطمة (رضي الله عنها)، أن تكلِّم أباها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الخصوص، فلم تُجدِ محاولتها شيئاً. فقد روى مسلمٌ في صحيحه أن عائشة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قالت: «أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ مَعِي فِي مِرْطِي، فَأَذِنَ لَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ، وَأَنَا سَاكِتَةٌ، قَالَتْ: فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): أَيْ بُنَيَّةُ، أَلَسْتِ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟! فَقَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَأَحِبِّي هَذِهِ، قَالَتْ: فَقَامَتْ فَاطِمَةُ حِينَ سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَرَجَعَتْ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَأَخْبَرَتْهُنَّ بِالَّذِي قَالَتْ وَبِالَّذِي قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَقُلْنَ لَهَا: مَا نرَاكِ أَغْنَيْتِ عَنَّا مِنْ شَيْءٍ، فَارْجِعِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَقُولِي لَهُ: إِنَّ أَزْوَاجَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: وَاللَّهِ لا أُكَلِّمُهُ فِيهَا أَبَداً. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْهُنَّ فِي الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)… قَالَتْ: فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) مَعَ عَائِشَةَ فِي مِرْطِهَا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا وَهُوَ بِهَا، فَأَذِنَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ… فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَتَبَسَّمَ: إِنَّهَا ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ».
حديث الإفك
لقد كان حديث الإفك من أشد وأصعب ما واجهت عائشة (رضي الله عنها) في حياتها ومن أقسى ما تعرض له بيت النبوة إلى أن تنزلت آيات الله تعالى في سورة النور تكشف الغمة وتبددها.
فلقد خرج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في جيش من المسلمين في المدينة إلى ديار بني المصطلق، وكان سهم الخروج من نصيب عائشة من بين أزواجه. وحيت تم النصر للمسلمين على بني المصطلق الذين لقوا جزاء غدرهم ونفاقهم ووزعت المغانم والأسلاب. وقد التقى عند حوض الماء الذي كان يستقي منه المسلمون، أحد الأنصار وأحد المهاجرين، فتزاحما وتنافرا وكاد خصامهما يؤدي إلى اشتباك بين المؤمنين. ومما زاد في تأجيج نار الفتنة ما قاله رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. وسمع أحد المسلمين تلك المقالة، وشهد الحادثة، ومن ثم رأى بوادر الفتنة، فأسرع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ينقل إليه الخبر وما قاله ابن سلول، فرأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن من الحكمة أن يشغل الناس عن الفتنة بالمسير على الفور بعد أن أقاموا للاستراحة. في أثناء ذلك، كانت عائشة (رضي الله عنها) قد خرجت من خبائها لقضاء حاجة بعيداً عن معسكر المسلمين، وهي لا تدري من أمر ما يحدث شيئاً، وابتعدت كثيراً… وحين رحل المسلمون رفع هودجها من مكانه ظناً من قائده أنها بداخله، ومضى المسلمون في طريقهم إلى المدينة. عادت عائشة (رضي الله عنها) مما ذهبت إليه وافتقدت عقداً كانت تزين به جيدها فلم تجده، فرجعت سريعاً إلى حيث كانت ولملمت حبات العقد المتناثرة، وعادت على جناح السرعة، وحين بلغت طرف المعسكر، ومكان الهودج لم تجد أثراً لبشر، فارتاعت وجزعت وألمّ بها خوف شديد، ثم لبثت في مكانها لا تدري كيف تتصرف، وماذا تفعل!
وكان من عادة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) القائد الظافر الخبير، أن يرسل إثر كل غزوة رجلاً من أصحابه اسمه صفوان بن المعطل يستدرك ما فاته المسلمون عند رحيلهم. وفوجئت عائشة (رضي الله عنها) بخيال فارس يأتي حيث تقف، فأرخت حجابها وعندما لمحها صفوان غض بصره، وقال في دهشة وعجب: ظعينة رسول الله؟ ما خلفك رحمك الله؟ وما الذي أخرجك؟ ثم نزل عن بعيره، وتأخر حتى ركبت ثم تقدم وأمسك بالمقود. وشُغِل بال رسول الله على عائشة حتى عادت واطمأن عليها وسمع بعذرها وصدقها. بعد أن افتقدها فلم يجدها واهتم لأمرها.
وكان عندما أطل موكب صفوان وعائشة على مداخل المدينة المنورة ولمحه ابن سلول المنافق، الذي كان جالساً مع بضعة نفر من أتباعه، ومن هم على شاكلته، استيقظ الحقد في قلبه، ووجد المادة التي يتسلى بها والسم الذي ينفث، لينفس عن حقده وحسده لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى المسلمين، فقال: أيها الناس، ظعينة نبيكم عادت في ركاب رجل، والله ما نجت منه ولا نجا منها. وسرت أكذوبة ابن سلول بين الناس مسرى النار في الهشيم، وتناقلتها الألسنة تصريحاً وتلميحاً. لكن عائشة (رضي الله عنها) عنها دخلت منزلها خالية الذهن، لا تدري من أمر هذا الإفك والافتراء شيئاً.
داهم عائشة (رضي الله عنها) المرض فاستأذنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تذهب إلى بيت أبيها كي تقوم أمها على خدمتها ورعايتها. ولقي طلبها هذا سرعة استجابة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مما جعلها تحزن وتتوجس، لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن ليطيق فراقها أو ابتعادها عنه، ودخلت عائشة منزل والدها الصدّيق الحزين (رضي الله عنه) الذي ما انفك يدعو الله تعالى أن يبرئ ساحة ابنته. وقضت (رضي الله عنها) في بيت أبي بكر قرابة العشرين يوماً حتى شفيت من مرضها. وفي ليلة خرجت مع امرأة من الأنصار ممن كنّ يزرنها لقضاء حاجة بعيداً في الخلاء، وبينما كنّ في الطريق عثرت المراة بطرف ثوبها، وكادت تسقط أرضاً، فقالت: تعس مسطح، فانتفضت عائشة وقالت بحدة: بئساً تالله ما قلت في رجل من المهاجرين ممن شهدوا بدراً… فقالت المرأة: عجباً، تدافعين عنه، أوَ ما بلغك الخبر يا ابنة أبي بكر؟ فأجابت عائشة مستفسرة بدهشة: وما الخبر؟ فقصت عليها المرأة حديث الإفك، وما يشاع عنها، وما يروجه دعاة السوء من أقاويل وافتراءات. وكان مسطح بن أثاثة واحداً من الذين أطلقوا لألسنتهم العنان، ينالون به من شرف عائشة (رضي الله عنها) وسمعتها.
ولما فرغت المرأة من الحديث، كاد يغمى على عائشة (رضي الله عنها) فتماسكت وعادت إلى البيت تبكي وتنتحب، وتلوم أمها لأنها كتمت عنها الخبر رأفةً بها، وراحت الأم تخفف من حدة غضب عائشة والدموع تنهل من عينيها فتغسل وجهها، وتقول: أي بنية، هوني عليك الشأن، فوالله لقل ما كانت امرأة حسناء عند زوج يحبها ولها ضرائر، إلا كثرن، وكثر الناس عليها، لكن أين عائشة وأين أمها!!
لقد كانت في هم شديد، كانت الدنيا كلها في نظرها مظلمة سوداء. فقعبت في الدار متوارية عن الناس، عازفة عن الطعام والشراب لا تلغو ولا تنام، تبكي وتنشج.
ولم يكن سكوت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سكوت الصدق معاذ الله، ولكن سكوت الصابر، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. وحين كثر القيل والقال، خطب في الناس فقال: أيها الناس، ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت منهم إلا خيراً، ويقولون ذلك عن رجل ما علمت منه إلا خيراً، وما يدخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي (يعني صفوان بن المعطل) فسكت الناس جميعاً. ثم أراد رسول الله أن يستشير خلصاءه في هذا الأمر وأصفياءه، فاستدعى إليه ابن عمه علي بن أبي طالب وحبه أسامة بن زيد (رضي الله عنهما) وسألهما رأيهما: فقال أسامة: إنك لأعلم الناس بعائشة يا رسول الله، وإن الناس لتكذب، وما عرفنا عنها إلا خيراً.
وأما علي فقال: يا رسول الله، إن النساء كثيرات، وإنك لقادر على أن تستخلف (أي تنجب الأبناء) وسل الجارية تصدقك. فدعا رسول الله جاريتها بريرة ليسألها فتقول: والله ما أعلم إلا خيراً، وما كنت أعيب على عائشة شيئاً إلا أني كنت أعجن فآمرها أن تحفظه فتنام عنه، فتأتي الشاة فتأكله!
وحين سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: تسألني يا رسول الله عن عائشة وإني بدوري أسألك: من زوجك إياها؟ فأجاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهدوء: الله تعالى. فقال عمر: إذاً أفتظن أن الله قد خدعك ودلس عليك فيها؟ سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم.
البراءة من السماء
وفتر الوحي، وتوقف مدة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مما جعل لألسنة السوء والفحشاء مجالاً وميداناً فسيحاً..! ولم يبقَ أمام رسول الله من حيلة إلا المواجهة، فعزم على الذهاب إلى دار أبي بكر (رضي الله عنه)، وحين دخل عليه الصلاة والسلام إلى الدار، كانت عائشة تبكي وبجوارها امرأة من الأنصار، فكفكفت دمعها، ومسحت عينيها، ثم جلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبالتها يسألها: يا عائشة، إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فاتقي الله، فإن كنت قد قارفت سوءاً مما يقولون فتوبي إلى الله، إن الله يقبل التوبة من عباده. ونزل القول على رأس عائشة نزول الصاعقة، فخيم الصمت الرهيب على المكان، وشمل الجميع السكوت.. ولكن عائشة وحدها تكلمت ودموعها تدفقت من عينيها بغزارة. تكلمت لتدافع عن نفسها، ثم نظرت إلى والديها، وقالت صائحة صارخة: ألا تجيبان؟! فقالا: والله ما ندري بماذا نجيب. فعادت إلى البكاء مع النشيج، وقد تقطعت نياط قلبها حزناً وألماً، ثم التفتت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلة: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبداً، والله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس، والله يعلم أني بريئة، لأقولنّ ما لم يكن، ولئن أنكرت ما يقولون لا يصدقونني، إنما أقول كما قال أبو يوسف (يعقوب عليه السلام) فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، ثم عاد السكوت يلفّ المكان بروائه الشامل.
شعر رسول الله بأن الوحي يكاد ينزل عليه، فسجى في ثوبه، وأتته عائشة بوسادة من أدم وضعتها تحت رأسه، وفزع الجميع إلا عائشة الطاهرة البريئة. وحين استفاق عليه الصلاة والسلام من غشية الوحي وهو يتصبب عرقاً كالجمان، قال: أبشري يا عائشة، قد أنزل الله براءتك… فصاحت والفرحة تغمر قلبها: الحمد لله. ثم أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالأشخاص الذين كانوا يروجون ويفترون ويقذفون، فنالوا جزاءهم. وعادت الطاهرة البريئة إلى بيتها، وإلى مقامها في قلب رسول الله وإلى مكانتها الرفيعة في نفوس المسلمين جميعاً.
مرضه (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيت عائشة
وحين دهمت الحمى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سأل نساءه مستأذناً بكل ما كان يتمتع به من أدب النبوة أن يمرض في حجرة عائشة فأذنّ له. فقامت عائشة (رضي الله عنها) المحبة الوفية بتمريضه (صلى الله عليه وآله وسلم) والاعتناء به على خير ما يكون الحب والوفاء.
وأوصى (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدفن في حجرتها… وهكذا كان. ولقد كانت (رضي الله عنه) أكثر نسائه وأهله حزناً لفراقه، وألماً لبعاده، وهي تذكر سالف أيامها معه، وسنوات عمرها التي رافقته فيها.
وتولى والدها أبو بكر خلافة المسلمين ثم تبعه عمر بن الخطاب (رضي الله عنها). والكل يعرف لها مكانتها ومنزلتها، وفضلها وعلمها. ثم لما تولى الخلافة علي (رضي الله عنه) وكانت الفتنة، شاركت عائشة رضي الله عنها في معركة الجمل، وقد سميت بهذا الاسم لأن عائشة (رضي الله عنها) كانت تركب جملاً، ضد علي (رضي الله عنه)، ولما انتهت الواقعة أعادها علي (رضي الله عنه) إلى دارها في المدينة المنورة مع أخيها محمد بن أبي بكر مصونة مكرمة محترمة، وحلفت ألا تغادر دارها من يومها.
الوفاة
مرضت عائشة (رضي الله عنها) وكان قد سبقها إلى الدار الآخرة معظم نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم اشتد عليها المرض حتى فارقت الحياة الدنيا، وجرى دفنها في البقيع، وكانت وفاتها سنة ثمان وخمسين من الهجرة ليلة الثلاثاء السابع عشر من شهر رمضان على أرجح الأقوال. وقد بلغت من العمر تسعة وستين عاماً. وكان الصحابي الجليل أبو هريرة ممن حضر جنازتها وصلى عليها، وبينما هو في طريق عودته من البقيع بعد الدفن، وقد غاصت عيناه بالدموع، كان يردد: رحم الله أم المؤمنين عائشة، لقد كانت حياتها صفحة ناصعة، شديدة النقاء، بالغة الطهارة.
رضي الله عنها وأرضاها وأكرم نزلها ومثواها، وألحقنا بها في الصالحين من عباده.
زهدها (رضي الله عنها)
أما زهد هذه السيدة الجليلة زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أم المؤمنين، فعن القاسم بن محمد قال: “كانت عائشة أم المؤمنين (رضي الله عنها) تصوم حتى يزلقها الصوم” أي يجهدها.
وعن ابن المنكدر عن أم ذَرَّ، وكانت صاحبة عائشة، قالت: “بعث إليها بمالٍ أراه ثمانين أو مئة ألفٍ فدعت بطبقٍ، وهي يؤمئذٍ صائمة فجلست تقسم بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهمٌ واحد. فلما أمست قالت: يا جارية أين فطوري؟ فجاءتها بخبزٍ وزيت. قالت لها أم ذر: أما استطعت مما قسمت اليوم أن تشتري لنا لحماً بدرهمٍ نفطر عليه؟! “.
وقال عروة: “لقد رأيت عائشة (رضي الله عنها) تقسم سبعين ألفاً وإنها لترقع جيب دِرعها”.
أهدى معاوية لعائشة ثياباً وورِقاً -أي فضةً- وأشياء توضع في خزانتها فلما خرجت نظرت إليه فبكت ثم قالت: لكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يجد هذا، ثم فرّقته ولم يبقَ منه شيء. وعندها ضيف، فلما أفطرت، أفطرت على خبزٍ وزيت، فقالت المرأة: يا أم المؤمنين لو أمرتِ بدرهمٍ من الذي أهدي إليكِ فاشتري لنا به لحماً فنأكله، فقالت عائشة (رضي الله عنها): كلي فوالله ما بقي عندنا منه شيء”.
مكانتها العلميَّة
روى هشام بن عروة عن أبيه قال: “ما رأيت أحداً من الناس أعلم بالقرآن، ولا بفريضةٍ، ولا بحلالٍ وحرام، ولا بشعر، ولا بحديثٍ، ولا بنسبٍ من عائشة (رضي الله عنها)”.
وقال أبو موسى الأشعري (رضي الله عنه): «ما أشكل علينا أمرٌ فسألنا عنه عائشة، إلا وجدنا عندها فيه علماً».
وقال بعض العلماء: “لو اجتمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين، وعلم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل”.
وقال عطاء بن رباح: “كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأياً في العامَّة”.
وقال مسروق: “رأيت مشيخة أصحاب رسول الله الأكابر يسألونها عن الفرائض”.
تميزها عن سائر نسائه (صلى الله عليه وآله وسلم)
تميزت أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) عن سائر نسائه (صلى الله عليه وآله وسلم) بتسع أمور كما تذكرها هي فتقول: خلالٌ فيَّ تسعٌ لم تكن في أحد من النساء، إلا ما آتى الله مريم بنت عمران، والله ما أقول هذا فخراً على أحد من صواحبي، وهي: نزل الملك بصورتي، وتزوجني رسول الله لسبع سنين، وأهديتُ إليه لتسع سنين، وتزوجني بكراً لم يشركه فيّ أحد من الناس، وكان يأتيه الوحي وأنا وهو في لحاف واحد، وكنت من أحب الناس إليه، ونزل فيَّ آيةٌ من القرآن، ورأيت جبريل ولم يره أحد من نسائه غيري، وقُبض في بيتي ولم يله أحد غير المَلَكِ وأنا.
محمد الشمالي – لبنان
2010-03-20