مع القرآن الكريم
(وَلاَ تَطْرُدِ الذِينَ يَدْعُونَ رَبهُمْ)
قال تعالى: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ @ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام].
ــــــــــــــــــــــــ
روى أحمد والطبراني وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده خباب بن الأرت وصهيب وبلال وعمار، فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء، وهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا، لو طردت هؤلاء لاتبعناك، فأنزل الله فيهم القرآن: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا) [الأنعام/51] إلى قوله: (سبيل المجرمين).
وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال: جاء عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومطعم بن عدي والحارث بن نوفل في أشراف بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب فقالوا: لو أن ابن أخيك يطرد عنه هؤلاء الأعبد كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لأتباعنا إياه، فكلم أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر بن الخطاب: لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون، فأنزل الله: (وأنذر به الذين يخافون) إلى قوله: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) وكانوا بلالاً وياسر مولى أبي حذيفة وصالحاً مولى أسيد وابن مسعود والمقداد بن عبد الله وواقد بن عبد الله الحنظلي وأشباههم، فأقبل عمر فاعتذر عن مقالته، فنزل (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا) [الأنعم/54] الآية.
إنه قمة التوجيه الرباني للعمل النبوي ومن بعده للعمل الدعوي، حتى لا يؤسس العمل على دخن، ولا يبقى فيه درن. فالخطاب القرآني في هاتين الآيتين قد تجلى فيه عدة أمور منها:
1 – بيان تركيبة المجتمع المكي الطبقية، وإظهار النظرة الاستعلائية التي يكنها الملأ من أشراف مكة في صدورهم تجاه العبيد والضعفاء والفقراء. وأنه يعنيهم في المقام الأول حفظ الألقاب والكنى والمناصب، بل أكثر من ذلك فإنهم يحسبون حساباً لقول نظرائهم في باقي أنحاء الجزيرة حيث خافوا من انتقادهم فيما لو رآوهم مختلطين مع رجال الطبقة الدنيا.
وفي هذا ما لا يخفى من ضغائن وخبائث النفس التي حرص الإسلام على إزالتها من نفوس المؤمنين، وبناء أعراف صالحة تقوم على الأخوة الإيمانية وتحل محل الأعراف السائدة الفاسدة.
2 – موقف الإسلام من الإيمان المشروط، حيث منع الإسلام أحداً كائناً من كان من إملاء شروطه، إذ الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وينبغي أن يكون الإيمان نقياً لا تشوبه شائبة، والسيادة للشرع وحده من غير شريك على الإطلاق. فلا مكان لأنصاف الحلول أو المجاملة أو الحلول الوسط.
3 – تطويع النفوس المؤمنة حتى تصبح ميولها إسلامية، وذلك بنزع فتيل الكبر والتعالي المتأصل في نفوس المستكبرين تجاه الضعفاء، ورفع درجة الثقة عند نفوس الفقراء والضعفاء، فتلتقي تلك النفوس جميعاً عند نقطة التعادل الإيماني المطلوب شرعاً، فلا يتفاضل الناس إلا بالتقوى، وكذلك تدريب النفوس على الأوبة السريعة إلى الحق كما فعل عمر باعتذاره عن اقتراحه.
4 – التقديم يكون بالسبق إلى الإيمان والعمل الصالح، وقد آتى هذا المفهوم أكله عند بلال بن رباح رضي الله عنه عندما سأله رجل: من الذي سبق؟ وكان بلال عائداً من الحلبة يعني ميدان السباق، فأجابه بلال قائلاً: المقربون، فقال الرجل إنما أسألك عن الخيل، فرد بلال: وأنا أجبتك عن الخير، وهذا تجسيد لقوله تعالى: (والسابقون السابقون @ أولئك المقربون) [الواقعة] .
5 – لا يلزم موافقة إرادة الله لعقول الناس، إذا الأصل أن يقبل العقل الإنساني بتدبير الله قبولاً تسليمياً، نظراً لقصوره عن إدراك الحكمة من وراء ذلك. فالله سبحانه وتعالى يقول: (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) [البقرة] ويقول: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) [النساء].
فائدة:
ينبغي لكل عمل دعوي يسير على خطى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسترشد بهذه المعاني القيمة، وأن لا يعبأ بكسب علية القوم إلا إذا خضعوا للشروط الإيمانية بشكل كلي، وأن لا يجعل للشيطان على تنظيمه سبيلاً، فالاهتمام بأن يكون أعضاء العمل الدعوي من حملة الشهادات العليا، أو ممن يشغلون المناصب المرموقة في المجتمع، أو ممن يمتهنون المهن التي يرغبها الناس بدل الاهتمام بأن يكونوا مؤمنين متقين، كل ذلك من تلبيسات إبليس على الحركة العاملة في الأمة لإنهاضها، وتلك التلبيسات توجد في الحركة منافذ يدخل منها المغرضون.
والله ولي التوفيق وبه الثقة وعليه التكلان .
عصام عميرة – رام الله