بقلم: أبو عبد الله السالم
جاء في الصفحة الخامسة من «الوعي» عدد (85) ما يلي: «ومسالة تحديد الأسعار لا يجوز للحاكم أن يتدخل فيها بل إنها متروكة للعرض والطلب. والرسول -صلى الله عليه وسلم- منع من تحديد الأسعار وقال: «المسعر هو الله».
ولا بد هنا من إبداء الرأي الشرعي في مسألة العرض والطلب. فهل العرض والطلب حقيقة يحددان الأسعار؟ وقبل كل شيء هاتان الكلمتان هما مصطلحان، وينبغي فهم ماهيتهما، ولفهمهما لا بد من الرجوع إلى الأصل.
والأصل في استخدام هاتين الكلمتين، هو ما جاء في النظام الرأسمالي عند منظريه المتقدمين والمتأخرين. فهم يقولون: إن السعر في السوق يتحدد نتيجة تفاعل قوى العرض وقوى الطلب. وهذا مرتبط بأشكال السوق لديهم، فهناك سوق المنافسة الكاملة وسوق احتكار البيع (أو الاحتكار الكامل)، وسوق لمنافسة الاحتكارية، وسوق احتكار القلة. ولكل سوق مواصفاتها التي تشكل علاقة بين المنتج والمستهلك، وبالتالي تؤثر في هذه السلطة المعروضة. فإذا كانت السلعة منفردة لدى منتج معين أو كانت ليس لها شبيه فالسعر له وضعه، والعرض والطلب له قانونه الخاص، وإذا كانت السلعة لها شبيه في السوق وكان الإنتاج لها محصوراً بين يدي أناس معينين فهذه لها كذلك قانونها الخاص.
والخلاصة أن السوق هي الإطار العام الذي تتحدد فيه أسعار مختلف أنواع السلع والخدمات وعناصر الإنتاج، وذلك بفعل تفاعل قوى الطلب (رغبات المشترين المدعمة بالقوة الشرائية) وقوى العرض (رغبات البائعين بالتخلي عن سلعهم عند مستويات معينة من الأسعار) والسوق هي «مجمع العلاقات المتبادلة بين البائعين والمشترين الذين تتلاقى رغباتهم في تبادل سلعة أو خدمة معينة ومحددة بما فيه الكفاية» وقد يضيق نطاق السوق بهذا المعنى ليقتصر على حي معين، أو يتسع ليشمل مدينة أو دولة أو العالم. (سوق النفط الدولية – القمح الدولية) والسوق ليست محددة بمكان مادي.
وهذه القوانين مرتبطة بالجهاز الاقتصادي لدى الرأسماليين ككل، من حيث نظرتهم إلى المشكلة الاقتصادية، ومن حيث الثمن أو جهازية الثمن، أو من حيث القيمة والحرية الاقتصادية الموجودة في ذاك النظام تجعل الاقتصاد كله مصبوغاً بصبغتها.
وقد يحدث تغير في سعر التوازن لديهم فتكون هناك قوانين ناظمة للعرض والطلب، والنظرة إلى التوازن إنما تتحقق في إطار النظرة إلى الثمن وإلى القيمة والثمن هو الذي يحقق الاتصال بين المنتج والمستهلك. فالسعر يتغير بتغير ظروف الطلب، وبتغير ظروف العرض، وبتغير ظروف العرض والطلب معاً، وتغير ظروف العرض والطلب إما نحو النقصان إما نحو الزيادة. وقد تتغير ظروف الطلب نحو الزيادة وظروف العرض نحو النقصان أو العكس، وهذه القوانين الجزئية درسها الرأسماليون في إطار التوازن وتغير سعره، كما أنها مرتبطة بأساس النظام الاقتصادي، وبنظام الحريات ومن جملتها حرية التملك.
وأما الإسلام فنظرته إلى المسألة مختلفة اختلافاً جذرياً، فالذي يحدد الثمن أو القيمة شيء موجود في النظام، وهذا ليس هو العرض والطلب قطعاً. ولكي نبيّن هذا الأمر لا بد من إدراك واقع المسألة المعروضة.
فما الذي يسبب الغلاء في الواقع الذي نعيشه اليوم؟ لا بد من إيضاح هذه الجزئية لتبيان مسألة الثمن والقيمة من خلال ما نعيشه، ولندرك أن الفساد آت من كليات الأمور أي: من النظام ككل، وليس من أحكام جزئية.
فالواقع المعاش فاسد بقضه وقضيضه؛ وبعجزه وبجره، وهي مسألة بدهية، آتية من أن هذا الواقع يحكم بنظام وهو عبارة عن أفكار تطبق على شكل قوانين أصلها باطل، لأنها من نظام كفر، وليست من الإسلام لا من قريب ولا بعيد. فالعملة أو النقد يربك الأسعار، ويبرز الفساد، وهو العصب المحرك للاقتصاد الرأسمالي، كما هو في هذه القوانين المستعارة من القوانين الرأسمالية في البلاد العربية، بل في بلاد العالم الأخرى.
وقاعدة هذا النقد تقوم في بلادنا، وهي المسألة المطروحة هنا في غلاء الأسعار، تقوم على أساس من السلع والموارد والخدمات. وهذا الأساس يجب أن يتحقق فيه أمور كي يحدث عدم الخلل الاقتصادي:
1- أن تكون هذه القاعدة الاقتصادية متينة.
2- أن تكون السلع والموارد سلعاً أو موارد مرغوبة داخلياً وخارجياً (كالبترول مثلاً).
3- أن تراقب الأسواق ويتحقق لدى الدولة موازنة تراعي هذه القاعدة أو أن تلاحظ مسألة الموجودات والمطلوبات، وأن يتحقق توازن بين الداخل والخارج في الصادرات والواردات.
وبعد هذا يمكن للدولة أن تسمح لعملاتها بأن يُضارب عليها في أسواق البورصة. وأما ما يحدد قوة العملة الشرائية فهو القاعدة الاقتصادية، وقدرة العملة على الشراء، فثقة الناس بها تجعلهم يقبلون عليها، بخلاف ما إذا فقدت العملة هذه الثقة.
وأما في البلاد العربية فنرى أنها ليست لديها قاعدة اقتصادية تسمح بأسواق بورصة، كما أن الارتباط بأوضاع السوق العالمية عن طريق العمالات والخيانات، تجعلها تقوم بعمليات مخادعة فينهار اقتصادها، أو ترتبط بالديون كما يحدث الآن، في جميع البلاد بلا استثناء، أو تلجأ إلى الاعتماد على عملات صعبة تكنـزها في بنوكها ومصارفها فترتبط بالبنوك والمصارف بآلية العملية الصعبة إذا تعرضت للاهتزازات الدولية. وكذلك الحيل الموجودة في السوق الداخلية في مسألة السندات المالية التي تصدرها الخزينة لامتصاص العملات الصعبة من السوق أو لامتصاص العملات المحلية كسيولة، وذلك لحل مشكلة التضخم، الذي استحال إلى مرض مزمن يستحيل علاجه لدى الرأسماليين، لأنه في الواقع تشترك فيه كل الفعاليات الاقتصادية، مما ينجم عنه البطالة لأنه يحصل الاستغناء عن كثير من الأيدي العاملة لوجود مشكلة عمال، كما توجد مشكلة الإجارة، بالإضافة إلى المال الذي تخلقه المصارف والبنوك بعمليات مصرفية ربوية تعتمد على خصم سعر فائدة لسندات تستحق السداد على المدى القصير أو الطويل بفائدة معينة، وتخصم إذا بيعت هذه السندات قبل أوانها في دار المقاصة أو الخصم. فالمال الربوي مال ليس له واقع في الدول وهذا ما يجعل الدول العربية في مأزق كبير لضعف القاعدة الاقتصادية أو بمعنى أدق للنهب الحاصل للثروات التي حبا الله بها هذه الأراضي. وتظهر مشكلة المنافسة كمشكلة أساسية معتمدة على واقع الحرية وعلى واقع الثمن الذي يجعل المال محدداً للتوازن، كما هو متعلق بمشكلة المال، أو مشكلة إجارة، أو بمشكلة الاقتصاد أو المشكلة الاقتصادية التي تقول: إنها الندرة النسبية للسلع والخدمات والموارد، فالإنسان له حاجات غير محدودة، وهناك موارد محدودة، يجب تطويعها لكي تشبع حاجات الإنسان غير المحدودة. وبهذا قضى النظام الرأسمالي على الإنسان، لأن الحل في رأيهم هو بزيادة الإنتاج أي: أن تضع الثروة بيد الناس يتناولها من يشاء كيف يشاء. فالذي خلق عاجزاً عقلياً وجسمياً لن يستطيع تناول هذه الثروة. والحقيقة أن الإنسان حاجاته الأساسية محدودة وهي متعلقة بالمطعم والمشرب والملبس والمسكن فيجب أن تشبع إشباعاً كاملاً، فالحاجة هي حاجة زيد وعمرو وحسن وحسين وسعد وسعيد لا حاجة المجموعة على هذه الشاكلة، فيجب إشباع حاجة كل شخص على حدة، ومن ثم فالمشكلة الاقتصادية ليست في قلة الموارد بل في سوء التوزيع فالله سبحانه قد حبا الأرض بخيرات وافرة، ولكن توزيعها فاسد.
وأما مشكلة غلاء الأسعار فالاقتصاد الرأسمالي المريض الفاسد هو الذي يسببها. فمثلاً في القانون المطبق في البلاد العربية المستعار من هذه القوانين الرأسمالية هناك جملة من الأمور التي تسير السوق فيه. فهناك العملة وسعر العملة أي: التسعير في الصرف، وتسعير السلع والبضائع، والنظرة إلى السلعة من خلال منشئها لا من حيث التابعية في دولة، وكذلك الحواجز الجمركية، والاحتكار كلها تسبب غلاء الأسعار. وهذا لا يجوز كما أن الدولة تأخذ في بعض البلدان بموجب دستورها ضريبة تصاعدية لأنها ترى تحديد الملكية، من خلال ضريبة مثلاً على الأرباح، فما هذا التناقض؟ والأصل النظر إلى الفساد الأصلي في الدستور والقوانين، فالنظرة إلى التملك لا تكون صحيحة على هذا النحو الذي تلغي فيه غريزة الإنسان في فلسفة النظام الرأسمالي، أو تلغى فيه طموحاته كما في هذه القوانين في بلادنا.
فإذاً مسألة العرض والطلب مرتبطة بواقع الأنظمة والقوانين الرأسمالية، وليس لها تعلق بالوضع الصحيح أي: نظام الإسلام. ولكي يحصل الاستقرار في السوق لا بد من نظرة صحيحة قائمة على أساس صحيح وهي موجودة في الإسلام. فالإسلام يمنع الاحتكار «لا يحتكر إلا خاطئ» والإسلام منع التسعير وسماه (مَظْلِمَة) كما ورد في الحديث، كما أن الحواجز الجمركية لا تجوز (لا يدخل الجنة صاحب مكس) وكذلك جعل سعر الصرف بناء على أمور: منها أن هناك أصنافاً من الأموال لا يجوز مبادلتها إلا وزناً بوزن (الحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والتمر بالتمر والزبيب بالزبيب والملح بالملح) وكذلك الذهب بالذهب والفضة بالفضة وزناً بوزن مثلاً بمثل يداً بيد (زيادة على الأصناف الأخرى). فالذهب والفضة من حيث الاصطراف يكونان وزناً بوزن متماثلين في مجلس واحد بسعر المجلس، وإذا حصل تأجيل فهو ربا لا يحل. فالاصطراف له شروط.
وأما عملة الدولة الإسلامية فهي قائمة على أساس الذهب والفضة، إذ أن الأحكام المالية والمعالجات في بعض العقوبات، وبعض الأمور قد علقها الشارع في التقرير بالذهب والفضة.
والعالم كان يعتمد هذه القاعدة الذهبية التي كانت لا تسبب إشكالاً اقتصادياً، وتنعدم المشكلات الاقتصادية. وأما عندما اتبع العالم نظام العملة الإلزامية، فإن الدنيا عاشت في فوضى، بل استحال الاقتصاد الرأسمالي إلى زلزلات متعددة، أبرزها كان في سنة 1929 يوم الجمعة الأسود كما أسموه، ويوم الاثنين الأسود كذلك في أواخر الثمانينات. واليوم العالم في حالة خمول اقتصادي تعمل الدول الكافرة على ترقيعه رغم الخسائر الشديدة في البورصات لانهيار الدولار المتأزم، وما اتفاقية الغات أو الأسواق واللقاءات والمعاملات بين أميركا والصين واليابان، وبين الدول الأوروبية والدول العربية إلا محاولة لتنشيط الاستثمارات الأميركية والأوروبية، والإسرائيلية أيضاً.
ونظام المعدنين لا يسبب أية مشاكل في الواقع لأن الذهب والفضة فيهما مزايا من أهمها حصر تقلبات سعر الصرف في حدود ضيقة، وهي قدرة تلقائية على ذلك، والركائز التي يرتكز إليها في هذا المجال:
1- أنه هناك تعبيراً سمي في النقد الورقي المضروب عن مقداره في خزينة الدولة ذهباً أو فضة مثلا: 4.25غ ذهباً وزن الدينار شرعاً، ولكل ورقة إلزامية. وكذلك في المعدن يجب أن تكون كل وحدة من الدينار مسكوكة على مادة الذهب بهذا المقدار، والدولة ملزمة بالنسبة لغير المعدن بأن تصرف كل دينار ورقي بوزنه ذهباً. وكذلك هناك حرية تبديل، فهي تضمن عدم زيادة الأوراق عن حاجة النشاط الاقتصادية، فلا تهدر ثقة الناس به ولا يربك الاقتصاد. وكذلك لأي فرد الحق في أن يصهر المعدن ويحيله إلى نقود معدنية، أو له أن يأخذ بدله أوراقاً بشرط تحقق الاصطراف الشرعي، لأن الملاحظ أن العالم عندما عاش في أزمة 1929 وما بعدها أخل بهذا الشرط أصلاً، عدا الدولة الإسلامية إذ طغت المعاملات الربوية التي سببت سحب الذهب والأموال من التداول، وتمركزها في يد دول أو أفراد، وبالتالي إلى الإخلال بالأسعار وإثارة مشاكل لم تكن لتظهر من مثل التضخم والتراكم والتفاوت المضاعف بين أسعار الصرف وكذلك التسعير والمشاكل الأخرى المشار إليها. والميزة الثانية لهذا النظام أنه نظام يسبب إعادة التوازن. إلى ميزان المدفوعات. وخلاصة الأمر أن الذهب والفضة يمتلكان آلية تلقائية تدخل الاستقرار إلى سعر الصرف.
وكذلك فلا مشكلة عمال في الإسلام، لأن تقدير المنفعة إنما تقوم على أساس معين. نحاول أن نشرحه، فالقيمة هي مقدار ما في الشيء من منفعة مع ملاحظة عامل الندرة. فالندرة ليست أساساً للتقدير بل تلاحظ مجرد ملاحظة أثناء التقدير. وأما المنفعة فهي تتألف من أمرين: الأول المزايا الكامنة في هذا الشيء والثاني: هو الرغبة في هذا الشيء. وهذه المنفعة ناتجة إما عن مال وإما عن جهد وإما عن مال وجهد معاً (الثروة) فأما المال فقد يكون بإفناء العين مثل أكل الرغيف، وإما بالانتفاع بالعين كركوب السيارة أو غير ذلك. والجهد إما جهد عقلي مثل عمل المهندس في المخطط لمشروع ما، وإما جهد جسمي كأن يعمل العالم ببدنه. وهذا التقدير إنما يكون في النظام الرأسمالي في المنافع بناء على ما أسموه بالمنفعة الحدية أو النهائية التي جعل تقدير قيمة الرغيف أو منفعته عند نهاية الجوع لا أوله أي: عندما يحصل اشتداد الطلب بالجوع للرغيف مما يجعل المنتج يتحكم بالجائع كيف يريد. وهذا فساد غاية الفساد. وهذا بناء على قانوني العرض والطلب أو التعارض بين الإنتاج والاستهلاك. فإذا كثر الإقبال على السلعة يرتفع ثمنها تلقائياً وإذا قل يحدد الإنتاج ويقل ثمنها أو ينخفض. فليس هناك قيود على العرض والطلب إلا ما يراه النظام في الأصل، إذ تعلوا القيمة المادية على كل شيء فالمقابل هو مادي، والمكافأة للمنتج تكون بالمال، كما يكون الجزاء كذلك نقدياً كأن تقام دعوى قذف الكرامة فيكفي التعويض المالي. فليس ثمة قيم أخرى معنوية بل القيمة الطاغية هي المادية، ومن ثم حصل الاختلال في المثل الأعلى، ناتج عن الخلل في منظومة القيم.
وهكذا فالفساد أخذ بعضه بناصية الآخر، فلا يمكن تصور السوق الرأسمالية إلا بناء على قاعدة بل قواعد تحكمها وتتحكم فيها، كما تتحكم في النظام وفساد النظام. وخلاصة الكلام أن الحياة الاقتصادية بفعاليتها تشترك في مسألة الأسعار ومسألة السوق. فالنظام كل متكامل لا يمكن فصل بعضه عن الآخر. وكذلك بالنسبة إلى النظام الإسلامي لا يمكن فصله عن بعضه فالمشكلة تمس الإنسان وليست مشكلة اقتصادية…
وأما الجانب الآخر الذي يحدث خللاً في المجتمع فهو الأموال التي تأتي بطريق غير مشروعة مثل أموال القمار ومثل أموال الغش وأموال لا يحق للأفراد أن يأخذوها بل هي مصادرة أصلاً لصالح بيت مال المسلمين كأموال الإرث الخاصة بالمرتد أو الكافر الذي يرثه مسلم، فلا يجوز أن يرثه مسلم. وهناك قاضي حسبة يراقب العش والاحتكار ويراقب الموازين والعقود ووضع السوق كلية. فالضوابط موجودة أصلاً في الإسلام. فقد حسب حساب لكل شي،، مما يسهم في استقرار الوضع الاقتصادي جملة وتفصيلاً. وأما المعاملات الدولية فتأتي من خلال نظرة الإسلام إلى الدار الكافرة، فإذا كانت هناك أمور تقوي الدول الكافرة كصناعات أو سلع استراتيجية فلا يجوز إخراجها من دار الإسلام، كما لا يجوز إخراج قوت الناس الأساسي مما يسبب فراغاً في السوق يؤدي إلى مجاعة. وكذلك ينظر إلى البضاعة على هذا الأساس إذا دخلت إلى دار الإسلام من المستأمنين. كما أنه لا تمنع البضاعة أي بضاعة بل ينظر إلى الشخص الذي يحمل هذه البضاعة. فالدار الحربية إما أن تكون محاربة فعلاً أو حكماً. والمحاربة فعلاً إنما يكون بيننا وبينها حرب قائمة أو غير قائمة المهم أنها فيها وصف الحرب بغض النظر عن نشوب الحرب أو عدم نشوبها. وأما المحاربة حكماً فهي محاربة في الأصل لكونها يبج أن تزال بالجهاد إلى دار إسلام، ولكن الحرب لم تكن بيننا وبينها، وهذه يجوز التعامل معها ولو بفتح سفارات كسويسرا حالياً. والدول الطامعة في أراضينا تلتحق بالمحاربة فعلياً فلا يجوز فتح سفارات لها في أرضنا. والمحاربة حكماً إذا أخذوا ضريبة على تجارنا فلنا أن نأخذ نحن بالمقابل.
هذه هي الأوضاع الاقتصادية التي تحقق الأمان في الداخل والخارج. فالفعاليات كلها تسهم في استقرار الأسعار واستقرار السوق وانعدام الخلل في الميزان الاقتصادي بعامة، ولأنه شرع من عند رب العالمين.
ولكن قد يحدث تصور للأمور من خلال الواقع اليومي، وهذا باطل، إذ لا يجوز تصوير الإسلام على واقع فساد بل ينبغي أن يكون الإسلام مستقلاً عن أي واقع، لأنه نظام من عند رب العالمين لا يشبه نظاماً ولا يشبه أي نظام.
والنظرة الشاملة للإسلام ترينا أنه حدد أسباب التملك في النظام الاقتصادي كما أنه حدد تنمية المال، وكذلك حدد النظرة إلى التوازن.
فأما أسباب التملك فلا تجوز إلا بحدود وضعها الشارع، فلا يجوز أن تعتمد على شركة غير إسلامية مثلاً أو على عمل غير إسلامي. فالعمل والإرث، والأموال التي يأخذها الأفراد من غير مقابل جهد أو مال والحاجة للمال من أجل الحياة. فمثلاً العمل لا يجوز بعمل غير مشروع بل هناك مثلاً شركة المضاربة وهناك السمسرة والدلالة والصيد والمساقاة وإحياء الموات… كلها على وجه حدده الشرع، وكذلك باقي الأموال…
وأما تنمية المال فلا يجوز تنميته بشركة غير الشركة الإسلامية ولا يجوز الغش والاحتكار والقمار… ومن حيث التوازن كانت هناك الزكاة والركاز والإشراف الداخلي والخارجي على التجارة مع وجود النقد الذهبي والفضي… وعلى الرغم من هذه العجالة فبإمكاننا أن نتصور الأساس في نظام الإسلام الاقتصادي.
وأما ما يحدث من غلاء أسعار في الدولة الإسلامية أحياناً، فهذا مرده إلى الله سبحانه وتعالى من حيث هو المسعر، أي: أنه هو الذي يتحكم، ولكنه هو السبب الذي ينتج هذا المسبب. ولكن الأحوال التي تحدث فيها هذه الأمور يجب أن تراعى فندرس الأمور التي يظن أن فيها خللاً وتحل أو يمكن أن تؤتي بأساليب تحل هذه المشاكل. فكون الله هو المسعر لا يعني حدوث خلل يؤدي إلى غلاء في الأسعار بل ربما يكون هناك أمر له أثره الجديد في المجتمع مما يؤثر في وضع السوق فيتدارك هذا الأمر في البداية، وهذا الأمر ليس ناجماً عن عدم الالتزام بالطريقة بل هو خارج هذا كله. فالتسعير من عند الله يعني أن الله هو المتحكم المطلق بالسعر، وهو الذي بيده هذا الأمر، ولكن حل مشكلة الغلاء يكون بغير التسعير قطعاً، فهذا طلب من الله بألا نحل المشكلة بالتسعير لأنه حرام بما أنه بيده سبحانه. وهو الملاحظ من الحديث. وأما أنه يعني التسليم أو الاستسلام المطلق فلا يدل الحديث على هذا وإلا فلماذا قيام الشرع؟
فمثلاً، ولإيضاح المشكلة، حدث في الدولة الإسلامية زمن عمر أنه حصل غلاء في السوق فيما يتعلق بالقوت أو الطعام، فحلّ عمر هذه المشكلة بأن اشترى مواد من خارج الدولة وطرحها في السوق بأسعار منخفضة مما أحدث هبوطاً في الأسعار. –رضي الله عنه.
ومثلاً هناك مشكلة قد تحدث خللاً إذا زادت، مع أنها عادية في ظل نظام المعدنين، مثلما حدث في ولاية نيجهير أيام آخر الدولة العباسة. فقد أصبحت السلعة مرتفعة الثمن، فبدل أن يُشْتَري كيس الحنطة بعشرة دراهم أصبح بمائة، فهل هذا خلل في وضع السوق؟ نعم هذا خلل يبج أن يعالج في الأصل. وسبب المشكلة كما يفهم من خطط المقريزي هو أن هذه الولاية تكتظ بالفضة، ففيها مناجم فضة كثيرة، مما نجم عنه هذا الأمر.والحق أنه لا ينظر إلى المسألة على أنها عادية بل إنها تسبب تفاوتاً كبيراً في الأسعار، بل في وضع السوق ووضع الصرف. فكيف تعالج؟
الأصل في الدولة الإسلامية أنها تراعي وضع المال على نموذج معين، أي: أنها تراعي إيجاد نقود في التداول بحسب قواعد معينة منها عدد الناس الموجودين، ومراقبة هذا التزايد لطرح النقد لأن النقد إذا زاد في التداول يسبب إشكاليات، هذا إذا كانت الزيادة فائضة عن الحد المعتاد، لكنها تظل غير مؤثرة إلا في حالة معينة هي في بداية إنشاء الدولة، لاستقرار السوق وأن الدولة تتعرض لحصار اقتصادي، وفي الحصار تحدث إشكاليات في النقد بسب بعدم عدم دخوله وخروجه، وبسبب وجود نقد مضارب في حال الخروج، فلحفظ القوة الشرائية يجب مراعاة عامل عدم الزيادة في الكمية النقدية. وفي حال توافر السوق الداخلية متمازحة مع الخارج يمكن أن لا شكل الزيادة أي إشكال. وإذا حصل ما حصل في ولاية ينجهير فالحل الأمثل في تقديري هو مراقبة العقود لأن التاجر قد يلجأ مثلاً إلى الموافقة على أي سعر يقدم له دون مراعاة سعر السوق، وهذا غير جائز. وتبقى مشكلة تصريف الذهب إلى الخارج بشروط أو الفضة. فيمكن امتصاص الزيادة بشكل واضح عندما تكون الدولة وساعة الأطراف، فيمكن أن تخرج الكميات إلى خارج هذه الولاية إلى ولايات أخرى أو إلى دول أخرى محاربة بشروط البيع والشراء وذلك في حال اليسر، أو يمكن ألا يسمح للأفراد بتحويل السبائك إلى نقد، أو يمكن الاعتماد الكبير على استخدام الفضة في الحلي النسائية وهكذا يمكن حل المشكلة ببساطة. وهناك حلول كثيرة أخرى لا يتسع الوقت لذكرها.
والخلاصة من كل ما تقدم أن وضع السوق في الاقتصاد الإسلامي يحدده النظام الإسلامي ككل. وليس أمور العرض والطلب كما رأينا لأنها من حيث الاصطلاح فكرة رأسمالية. ولم يقصد بها النظام الإسلامي، وعلى فرض أنه يجوز استخدام هذه الكلمة بقيود، ولكنها مرتبطة بالنظام الرأسمالي، فلا يمكن استخدامها بدقة، ولا يمكن إزالتها بل يجب الحسم في الاصطلاح.