مفـاهيمُ أسـاسـيةٌ في كيفية حَمْل الدعوة الإسـلامية
2001/01/11م
المقالات
3,387 زيارة
إن حمل الدعوة الإسلامية يجب أن يكون شغلنا الشاغل، وهمنا المتواصل. فهو فرض ربنا تعالى علينا وقضيتنا المصيرية. وإن كان جل فروض الإسلام لها وقت وكيفية تنتهي عندها، إلا أن حمل الدعوة الإسلامية لا ينتهي ويستغرق حياة الأمة الإسلامية حتى لقاء رب العالمين سبحانه وتعالى. ومن هنا كنا (خير أمة أخرجت للناس) ومن هنا كنا “أمة الوسط” صاحبة المسئولية العظمى في حمل الإسلام رسالةً للعالمين. وهذا الحمل يستوجب تذليلَ كل الصعوبات والعوائق التي تحول بين الإسلام وبين الناس، وامتلاك أنسب السبل والوسائل المشروعة من أجل ذلك. ومن هنا أيضاً اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقول سبحانه: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتُلون ويُقتَلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم).
هذا هو الفرض وهذه هي جائزته، أما كيفية أداء هذا الفرض ألا وهو حمل الدعوة الإسلامية، فله ركائز تتمثل في مفاهيم أساسية منبثقة من العقيدة الإسلامية. وهذه المفاهيم من الممكن تقسيمها إلى قسمين:
أولاً: مفاهيم يجب أن تسود الأمة في مجموعها، وتصبح بدهية عندها، أو بالأحرى سجية عندها، وبخاصة عند حَمَلةِ الدعوة فيها الذين يريدون تحميلها إياها.
ثانياً: مفاهيم يجب أن يتحلى بها حامل الدعوة، وتصبح بدهية عنده أو بالأحرى سجية عنده.
أما مفاهيم حمل الدعوة الأساسية عند الأمة وحَمَلةِ الدعوة فيها، فهي تتمثل في إدراك الأمة في مجموعها فرضية وجود دولة الإسلام ـ دولة الخـلافة ـ التي تعمل على إفهام الأمة في مجموعها رسالتها ودورها المنوط بها في حمل الإسلام رسالة رحمة وهدى للعالمين. فالدولة وحملة الدعوة في الأمة هما اللذان يبثان فيها قيادة الإسلام الفكرية وذلك بإفهامها كيف تجعل عقيدة الإسلام محددة لوجهة النظر لها في الحياة وكذلك اتجاهها الفكري. كما وأن الدولة هي القادرة على إيجاد الأجواء العامة التي تصهر الأمة في بوتقة الإسلام كي تنقيها وتهيئها لأداء هذه الرسالة الجليلة، وذلك بما تقوم به الدولة من جعل العقيدة الإسلامية قاعدة فكرية عند الأمة أي تجعل العقيدة هي الأساس الذي تبنى عليه الأفكار وتنبثق منه المعالجات لمشكلات الحياة. وهذه القيادة الفكرية والقاعدة الفكرية أساسٌ ثابتٌ راسخ، لا يدانيه في ثبوته ورسوخه أية دعوة أو مبدأ في العالم، وهذا الثبوت مستمدٌ من قوة عقيدة الإسلام لكونها موافقة لفطرة الإنسان حيث تقرر العجز والنقص والاحتياج للخالق المدبر ولا تنكر عليه ذلك، كما أنها ـ أي العقيدة الإسلامية ـ مقنعة للعقل تماماً، ومن هنا كان هذا الاطمئنان الذي يتمتع به المسلم عن غيره من أصحاب العقائد والمبادئ الأخرى، فهي عقيدة حقيقية يبني عليها الإنسان حياته. وحمل الدعوة الإسلامية ليس حكراً على عرق من البشر أو قومية معينة منهم بل هو ملكٌ لكل البشر دون تمييز بينهم في لونٍ أو عرقٍ أو قوميةٍ أو وطن، فهو باب مفتوح للإنسان دون تمييز، وهي عقيدة تفتح ذراعيها لكل من يريد من البشر أن ينضم لقافلة هذه الدعوة.
فدولة الإسلام هي الطريقة الشرعية لإيجاد الإسلام في معترك الحياة وحمله للعالم بالدعوة والجهاد، وهي التي تنوب عن المسلمين في ذلك لأنهم هم المنوطون بذلك الأمر بيد أن الشرع الحنيف جعل طريقة تنفيذ ذلك الفرض بإقامة دولة الخـلافة التي يترأسها خليفة واحد بينه وبين الأمة عقد لتنفيذ أحكام الشرع على المسلمين وتطبيق أنظمته عليهم وحمل الإسلام بهم ومعهم وتحت إمرته بالدعوة والجهاد للعالم، وفي مقابل ذلك أوجب الشرع الحنيف على المسلمين السمع والطاعة له، واعتبر الخروج عليه في غير كفر بواحٍ لنا فيه من الله برهان إثماً. وجعل الجهاد معه من أجل إعلاء كلمة الله في الأرض فرضاً، بإجماع الصحابة ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. كما لابد من إدراك الأمة إن العمل لفريضة حمل الدعوة يوجب العمل لإقامة هذه الدولة، وأن أي عمل لا يجعل ذلك نصب عينه يكون مخالفاً لطريقة الإسلام الشرعية في دعوته وطريقة حملها. فهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار معه أصحابه فيه وتابعوهم وسلف هذه الأمة، وليقف من يريد أن يقف على أبواب طلب النصرة في كتب السيرة النبوية وعرض نفسه صلى الله عليه وسلم على القبائل طالباً التمكين والمنعة بإقامة دولة الإسلام، ومضى إلى ما أمره به ربه سبحانه وتعالى من صراع فكري وكفاح سياسي وطلب نصرة سعياً لتمكين الإسلام في دولة قادرة على إيجاد مفاهيم الإسلام وإشاعة أجوائه في منظومة كاملة غير منقوصة ارتقت بالمسلمين في كل مناحي الحياة، فدخل الناس في دين الله أفواجاً. نعم، هذه طريقة الإسلام في حمل دعوته، وكل ما دون ذلك خطوط معوجة تأخذ المسلمين بعيداً عن قضاياهم المصيرية.
هذه هي المفاهيم الأساسية التي يجب أن تسود الأمة الإسلامية، وهذه هي الأجواء التي يجب أن تسيطر عليها حتى تتمكن من أداء رسالتها.
أما حَمَلة الدعوة الذين انصهروا بهذه المفاهيم وأُشرِبوها، ويريدون أن يُحَمّلُوها للأمة بنقلها إليها قيادة فكرية عن طريق دولة الإسلام، فبالإضافة إلى هذه المفاهيم وهذا الانصهار فإن عليهم إدراك وعورة الواقع وفساد أجوائه، وأن هذا شأن الدعوات المخلصة الصحيحة دائماً، فلا بد وأن يتحلوا بمفاهيم تعينهم على أداء مهمتهم، فهم وإن كانوا ينحتون في الصخر إلا أنهم يجب أن يدركوا أن معاولهم صلبة تزيد في صلابتها عن صلابة هذا الصخر، وأن يدركوا كذلك أن هذه المعاول يزيدها الطرق على الصخر حدة وقوة. أما أن يحمل الإنسان المعول ويقف به أمام الصخر دون طرقه، فأنى له أن يدرك صلابة الصخر وصلابة المعول، بل يكون والعياذ بالله كمثل الحمار يحمل أسفاراً. فحامل الدعوة لابد وأن يدرك صحة دعواه وقوتها، والأمر بسيط وقوي في آن واحد. وليسأل حامل الدعوة نفسه وليسأل غيره، وليُعلم غيره إن جهل بهذه الحقائق القطعية، أليس إيجاد الإسلام في معترك الحياة واستئناف الحياة الإسلامية فرضاً؟ أليس إيجاد دولة الإسلام ـ دولة الخـلافة ـ فرضاً؟ أليس نصب خليفة واحد للمسلمين فرضاً على المسلمين؟ أليس حمل الدعوة للعالم بالدعوة والجهاد فرضاً؟ قل إي وربي وليمت بغيظه من يمت من الكفار والفاسقين وعملائهم.
وأول ما يجب أن يتحلى به حامل الدعوة، تميز إيمانه بالله تميزاً يزيد من إحساسه بمراقبة الله له عن غيره، ويزيد من إحساسه بالمسئولية الملقاة على عاتقه، وأن الله ينظر إليه ليرى ماذا هو فاعل تجاه هذه المسئولية، فهي مسئولية حقيقية وليست موهومة ولا مزعومة. مسئولية قامت على فهم الإسلام فهماً صحيحاً على حقيقته التي أرادها الله، ألا وهي أنه رسالة هدى ورحمة للعالمين وليس صفة شخصية أو خلق قويم يتلمس بها الإنسان صلاح شأنه دون أدنى إحساس بالمسئولية تجاه البشر أجمعين. فإيمان حامل الدعوة تصديق جازم مطابق للواقع وعن دليل بوجود الله سبحانه وتعالى واتصافه بصفات الكمال وأنه أزلي تستند جميع المخلوقات إليه ولا يستند إلى أحد. وإيمان حامل الدعوة تصديق جازم بالقرآن الكريم كلام الله المعجز الذي لا يتطرق إليه شك والمتعبد بتلاوته إلى الله سبحانه وتعالى. وإيمان حامل الدعوة تصديق جازم بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأنه رسول الله حقاً وصدقاً.
هذا هو الإيمان الحق الذي يجب أن يكون عند حامل الدعوة وبه يقوى على تحدي الواقع وفساد أجوائه وفي نفس الوقت يزيد من الاحساس بالمسئولية ومراقبة الله عز وجل. فعلى حامل الدعوة أن ينظر إلى إيمانه نظرة صاحب الفكر العميق المستنير، ويسأل نفسه هل هو صادق في إيمانه؟! هل هو يتصرف بحسب هذا الإيمان؟! هل مازال يتعامل مع حقيقة وجود الله سبحانه وتعالى وكتابه الكريم ونبيه العظيم صلى الله عليه وسلم تعاملاً يحبه الله ورسوله؟ هل يقول بملء فيه وملء قلبه ثقة رضيت بالله رباً وبالإسلام دينا وبمحمدٍ نبياً ورسولاً؟
إن هذا الإيمان يستوجب من حامل الدعوة أن يتحلى بالفهم الصحيح لإدراك حقيقة صلته بالله سبحانه وتعالى من حيث كونه مخلوقاً لله سبحانه وتعالى، ويدرك ماهية هذه الصلة على حقيقتها. وهذه الماهية تتمثل في التزامه الحكم الشرعي عند القيام بالعمل، أنى كان هذا العمل وأنى كان هذا الحكم، وأنى كانت القيمة التي يحققها هذا العمل سواءً أكانت قيمة مادية أم قيمة إنسانية أم قيمة روحية أم قيمة خُلُقية. ولذا نرى أن حامل الدعوة قادر على إيجاد الأجواء الروحية الصحيحة دائماً ولا تغيب عنه في جميع أحواله مطلقاً من جراء إدراكه صلته بالله والتزامه الحكم الشرعي حين القيام بالعمل بغض النظر عن قيمته التي يحققها هذا العمل. فغاية حامل الدعوة هي نوال رضوان الله سبحانه وتعالى، وقصده من العمل تحقيق قيمته، فلا يلبس قيمة بأخرى ولا يتخذ قيمة غطاءً لقصد أخرى أو تحقيقاً لقيمة أخرى. أما حين يغيب عن حامل الدعوة إدراك صلته بالله أثناء القيام بالعمل، فإنه يشعر بعدم الروحانية، ويقسو قلبه مع الوقت، ويتساءل أين الدعوة وأين أجواؤها؟ ويلقي باللوم على فكر الدعوة وطريقتها. وإذا فقد حامل الدعوة أجواء الدعوة في نفسه فكيف يوجد أجواءها في الأمة ويبث فيها حرارتها؟!!…
كما أن حامل الدعوة لا بد له من التوكل على الله حق توكله، وحق التوكل يستوجب فهم التوكل على الله فهماً صحيحاً، وأنه أي التوكل على الله في دائرة الإيمان وليس في دائرة العمل. ففي القاموس المحيط: وَكِلَ بالله تَكِلَ وتوكل على الله وأوكل واتكل: استسلم إليه والتوكل: إظهار العجز والاعتماد على الغير. وفي لسان العرب: المتوكل على الله: الذي يعلم أن الله كافل رزقه وأمره فيركن إليه وحده ولا يتوكل على غيره. وفيه أيضاً: وتوكل عليه واتكل استسلم إليه، ووكلت أمري إلى فلان أي ألجأته إليه واعتمدت فيه عليه ووكل فلاناً فلاناً إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته. ومنه قوله تعالى: (ودع أذاهم وتوكل على الله) أي اصبر على أذاهم. فحامل الدعوة يدرك أن التوكل على الله تصديق جازم بأنه سبحانه وتعالى كافيه وناصره ومؤيده حين يستسلم لأمر الله ويقوم به. وهكذا يقوم حامل الدعوة بجميع أسباب النجاح التي يستطيعها لتنفيذ أمر الله، ويستحضر إيمانه قبل العمل وبعده بأن الله كافيه وناصره ومؤيده.
فمهما كانت الصعاب أمام القيام بحمل الدعوة وتنفيذ أحكامها الشرعية سواء المتعلق منها بالفكرة أو المتعلق بالطريقة، فلا بد من أن يقدم عليها حامل الدعوة بكل ما أوتي من أسباب وأساليب للقيام بتبعات حمل الدعوة، وبثقة متناهية بالله سبحانه متوكلاً عليه ومنفذاً أمره. ومدركاً أنه مع التوكل على الله، لا يكون خوف على الآجال والأرزاق والعيال، ومع التوكل على الله لا يكون استصعاب للمهام والإقدام عليها، ومع التوكل على الله لا يكون حُزن ولا حَزن.
ومما يجب أن يتحلى به حامل الدعوة الفهم الوثيق للقاعدة العملية الذهبية “ربط الفكر بالعمل من أجل غاية”. فحامل الدعوة لا يندفع في مباشرة العمل دون أن يكون عنده وعيٌ على العمل وحكمه الشرعي الذي يضبطه، ولا ينتقل للعمل من ردة فعل دون فكرٍ أو دون إدراكٍ للغاية من العمل. فالاستغراق في الفكر وتحصيله دون إدراك العمل المعنيِّ به هذا الفكر لا يؤدي إلى إيجاد العمل في معترك الحياة بل يحول حامل الدعوة إلى كتاب من كتب الدعوة أو كتاب من كتب التراث الإسلامي. فالإجابات عنده حاضرة ولكنه فقط حين يُسأل.
كما أن الفكر مع إدراك الغاية دون العمل المطلوب لتحقيق الغاية، يؤدي إلى أخذ معالجات غير التي قررها الشرع لتحقيق الغاية.
فعندما يريد حامل الدعوة إيجاد الإسلام في معترك الحياة، فلا بد له من إدراك الحكم الشرعي في هذا والأحكام التي تضبط طريقة العمل لإيجاد الإسلام في معترك الحياة، ولا يلتفت لأية قضايا فرعية أو أي كفاح رخيص يعيق تحقيق هذه الغاية. فلا يختلط عليه تعليم الناس الصلاة مثلاً بأنه دعوة لإقامة الدولة أو دعوة للإسلام أو حتى أنه دعوة لإقامة الصلاة في المجتمع. فإقامة الصلاة في المجتمع تتطلب دولة توجد الأجواء التي تجعل الصلاة قائمة في المجتمع وذلك بإنزال العقوبة بتارك الصلاة أكانت حداً أم تعزيراً، وبفتح المدارس ووضع المناهج التعليمية والإعلامية اللازمة لذلك. فالأول وهو حكم شرعي وإن كان من شأنه إيجاد أفراد يصلون في المجتمع، إلا إنه لا يجعل أمر الصلاة للملايين ميسراً ولا تسيطر عليهم أجواؤها ولا يُستهجن على تاركها. فالأول وهو تعليم الصلاة لمن يجهلها لا يحل محل الثاني وهو إقامة الصلاة في المجتمع. ومثله القول بأن المشاركة في البرلمانات أو الشركات المساهمة أو الربوية بحجة عدم ترك هذه الأماكن لغير المسلمين والسيطرة عليها هو من باب الدعوة ويؤدي إلى قيام دولة الإسلام وتحكيم شرع الله. إن هذا القول لم يضبط بالحكم الشرعي أي بالفكر الإسلامي وضبط بفكر آخر هو “الغاية تبرر الوسيلة”. وأيضاً من أمثلة عدم “ربط الفكر بالعمل من أجل غاية” تصور أن الدعاء طريقة شرعية لنصرة المسلمين وترك تجييش الجيوش والدعوة لذلك.
فربط الفكر بالعمل من أجل غاية قاعدة ذهبية يجب أن تكون سجية في حامل الدعوة، فلا تختلط عنده الأعمال والأحكام والغايات؛ فلا تختلط عنده أعمال كسبه للعيش مع أعمال الدعوة، وإن كان الالتزام بالأحكام الشرعية في كليهما واجب. كما لا تختلط عنده أعمال طلب النصرة وغشيان الأوساط الفاعلة والمتنفذة وكسب الأفراد للدعوة بأعمال إيجاد الرأي العام الواعي بالثقافة الجماعية في الناس، كما لا يعطي رأياً أو تحليلاً سياسياً في قضايا غير مصيرية، وكذلك يتجنب الكفاح السياسي الرخيص ويحذر منه حتى لا يستنفذ طاقاته وطاقات الأمة ومن ثم لا يخرجها من حركة المذبوح التي تعاني منها منذ عقود.
وينبغي على حامل الدعوة النـزوع إلى الكمال وتنقيبه عن الحقيقة، وحرصه على صفاء ونقاء فكرة الدعوة وطريقتها. فنـزوع حامل الدعوة للكمال يجعله يبرأ بنفسه عن موضع الشبهات حتى وإن كانت من المباحات، وما ذلك إلا لإدراكه أن الناس ترى الدعوة من خلاله، بل والحقيقة أن الناس ما أن تدرك أنه حامل دعوة إلا وتضعه تحت أنظارها وتراقبه حتى ترى الدعوة فيه فتقبل عليها عملاً أو تأييداً، أو تحجم عنها ولا تندفع إليها، فيجب على حامل الدعوة أن يدرك المغزى الحقيقي من ارتباط واقتران الإيمان بالعمل في القرآن الكريم، وكذلك النهي عن مخالفة الأقوال للأفعال يقول سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون @ كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)، وليعلم حامل الدعوة أن الناس قد تلتمس العذر لغيره من الناس أما هو فلا تلتمس له أية أعذار. كما أن حامل الدعوة ينبغي عليه الحرص في الحركة والكلمة، والجدية في الحديث والضحك والترفع عن سفاف الأمور. وليكن لنا في فعل الصحابة رضوان الله عليهم أسوةٌ حسنة فقد كانوا وكما يروى عنهم يتركون تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام.
وأما تنقيب حامل الدعوة عن الحقيقة فلا سبيل إليه إلا بكثرة الاطلاع المتواصل في ثقافة الدعوة بصفة خاصة وفي الثقافة الإسلامية بصفة عامة، وكذلك كثرة تتبع الأخبار والأحداث، لأنه وإن كان تتبع الأحداث والأخبار من أعمال الدعوة التي لا يتم الواجب إلا بها في كشف خطط الكفار وتبني مصالح الأمة الحقيقية، إلا أن كثرة التتبع والبحث والتنقيب والتحليل تجعل الرأي صائباً عميقاً مستنيراً. أما أن يكون حامل الدعوة متعللاً بقلة الاطلاع، أو بعدم الميل له أو الرغبة فيه، أو عدم الاكتراث بالأخبار وتتبعها ويركن إلى ذلك، فإن هذا قد يجعله غير قادر على إقناع الآخرين لضعف المادة التي يتحدث بها، فنراه يتحدث بفكر الدعوة ومصطلحاتها ولكن دون إدراكٍ للواقع موضع النقاش ودون ترتيبٍ للأفكار.
ومما يجب أن يتحلى به حامل الدعوة، وجوده في الصفوف الأولى قياماً بأعباء الدعوة وتكاليفها العملية والمادية، ساعياً لنوال رضوان الله ونصره غير منتظر من غيره القيام بالعمل، فهو يحمل الدعوة وكأنما يحملها بمفرده، لأنه لا يعنيه سوى الحق الذي هو عليه وإن خالفه سائر الناس، فهو يريد أن ينطبق عليه قوله سبحانه وتعالى: (والسابقون السابقون أولئك المقربون) ويدرك قوله سبحانه وتعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض). وهذا يقتضي منه أن تكون الدعوة وتكليفها في أول سلم الأولويات عنده، يقول سبحانه وتعالى في سورة التوبة: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين).
ويقول القرطبي رحمه في كتابه أحكام القرآن في هذه الآية “لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة من مكة إلى المدينة جعل الرجل يقول لأبيه والأب لابنه والأخ لأخيه والرجل لزوجته: إنا قد أمرنا بالهجرة، فمنهم من تسارع لذلك، ومنهم من أبى أن يهاجر، فيقول: والله لئن لم تخرجوا إلى دار الهجرة لا أنفعكم ولا أنفق عليكم شيئا أبدا. ومنهم من تتعلق به امرأته وولده ويقولون له: أنشدك بالله ألا تخرج فنضيع بعدك، فمنهم من يرق فيدع الهجرة ويقيم معهم، فنـزلت (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان). يقول: إن اختاروا الإقامة على الكفر بمكة على الإيمان بالله والهجرة إلى المدينة. (ومن يتولهم منكم) بعد نزول الآية (فأولئك هم الظالمون). ثم نزل في الذين تخلفوا ولم يهاجروا: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم).
فعلى حامل الدعوة أن يقدم الدعوة وتكاليفها في سلم الأولويات، ويقوم بها امتثالاً لأمر الله، وأن يعالج ما في نفسه من ميل إلى الركون والدعة بالعمل وليدرك قوله سبحانه وتعالى: (بل الإنسان على نفسه بصيرة @ ولو ألقى معاذيره).
كما ينبغي لحامل الدعوة أن يكون أول المدركين لقول رب العالمين لرسوله الكريم ولنا (إنك ميتٌ وإنهم ميّتون) فهذا توكيد منه سبحانه وتعالى بأن النهاية المحتومة لنا هي العودة إليه مهما طال الوقت، ولا يدري أي منا متى ينتهي أجله فقد يكون بيننا من يمد الله في أجله إلى ما يشاء، وقد يكون بيننا من ينتهي أجله الآن أو غداً أو في القريب. فهل يليق بنا أن نلقاه سبحانه وتعالى وقد قصرنا في أمانة الدعوة والرسالة؟!
كما أن حامل الدعوة لا بد له من إدراك أنه على ثغر من ثغور الإسلام في موقعة من أشد ما تكون على الأمة لاقتلاع الإسلام منها، فهل يليق بالجندي في الجهاد وبعد أن يأخذ موقعه في الصفوف أن يظن أنه بمجرد وقوفه في مكانه في الصف فقد أدى ما عليه!! هل يليق بالجندي في الجهاد بعد أن ينـزل إلى ساحة القتال أن يخشى الضربات!! هكذا هو حامل الدعوة أيها الإخوة لا يجوز له بعد أن ندب نفسه للدعوة أن يقف مكانه ينظر وينتظر ماذا يفعل الآخرون، بل يسد الثغرة التي هو عليها دون أن يخشى في الله لومة لائم.
كما ولابد لحامل الدعوة من إيمانه بأن الكفار وعملاءهم وأتباعهم لن يضرونا إلا أذى، فربنا سبحانه وتعالى يقول: (لن يضروكم إلا أذىً) نعم لن ينالوا من صحة عقيدة الإسلام وفكرته وطريقته وكل ما يقدرون عليه أمام الدعوة هو الإيذاء، والذي علينا مواجهته بقوة متوكلين على الله دون أن تلين لنا قناة أو تضعف لنا عزيمة، يقول سبحانه: (لَتُبْلَوُنَّ في أموالكم وأنفسكم ولَتَسْمَعُنَّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور)، ويقول تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزُلزِلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب)
وليد عبد الوهاب ـ مصـر
2001-01-11