العدد 151 -

السنة الثالثة عشرة، شعبان 1420هـ – كانون الأول 1999م

السببية

ورد في قاموس الصحاح أن لفظة السبب تعني كل شيء يتوصل به إلى غيره، وقد استعملها العرب الأقحاح بهذا المعنى فقد قال زهير:

ومَنْ هَـابَ أَسْـبَـابَ المَـنَـايَـا يَـنَـلْـنَـهُ                  ولَـوْ رَامَ أَسْـبَـابَ السَـمَـاءِ بِسُـلَّمِ

    كما وردت في القرآن الكريم بهذا المعنى أيضا قال تعالى: (أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب ) وفسرها الزمخشري بقوله فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى العرش. إذاً فالسبب هو كل شيء يتوصل به إلى غيره. وكذلك وردت في اصطلاح الأصوليين بهذا المعنى، فقد عرفوا السبب بأنه لفظ ظاهر منضبط دل الدليل السمعي على كونه معرِّفاً لوجود الحكم لا لتشريع الحكم، وكما قالوا بأن السبب ما يلزم من وجوده وجود ومن عدمه عدم، مثل كون العقود الشرعية سبباً في إباحة الانتفاع أو انتقال الأملاك، أو مثل حصول النصاب سبب في وجوب الزكاة. فحين نستعمل لفظة السبب في قولنا مثلا أسباب الإرث أو أسباب التملك أو ربط الأسباب بمسبباتها، فإننا نعني كل ما يتوصل به إلى غيره، ولا نعني غير ذلك مطلقا، فواسطة التوصل إلى الغير هي السبب والغير هو المسبَّب. أما السببية فهي ربط الأسباب بمسبباتها، وهي القاعدة العملية التي يتم بموجبها إنجاز الأعمال وتحقيق الأهداف، مهما كانت هذه الأعمال بسيطة أو معقدة، ومهما كانت هذه الأهداف قريبة أو بعيدة. فطالب العلم حين يدرس ويفهم ويعي مادة البحث المقررة، وحامل الدعوة حين يتصل بالناس وحين يوزع المنشورات، وحين يتابع الأحداث السياسية في العالم، كل ذلك من قبيل الأخذ بالأسباب أي ربط الأسباب بمسبباتها. أما حين نعمل لعودة الإسلام عن طريق خطب الجمعة، أو نعمل لإيجاد النهضة بمحاكاة وتقليد الغرب واعتناق أفكاره ومبدأه، أو حين نتمنى عودة الإسلام بدون قيام الكتلة الحزبية، فإن ذلك كله لا يحقق الهدف، وهو من الاتكالية أو التواكلية، وهي عكس السببية، أي عدم ربط الأسباب بمسبباتها. فالسببية إذاً هي ربط الأسـباب المادية بمسـبباتها المادية من أجل تحقيق قصد معين أو هدف معين بمعرفة جميع الأسباب المفضية إلى تحقيقه، ثم ربطها معا ربطاً صحيحاً، وعندها نقول إننا أخذنا بالأسباب، أي بقـاعـدة الـسـبـبـيـة.

                وعند الحديث عن قاعدة السببية لا بد من الحديث عن الجانب الإنساني، والذي بواسطته فقط يمكن الوصول إلى الهدف المنشود، الذي نسعى لتحقيقه، وحتى تتحقق ثمرة العمل لا بد من وجود الإنسان ولا بد من القيام بالعمل المادي المؤدي إلى حصول الثمرة، فبدون الإنسـان لا تحـقـق الأعمـال، وبـدون العمل لا تحـقـق ثمـرة. والجـانـب الإنساني في تحصيل ثمرة العمل محصـور بالعـقـل والإرادة، وفعل العقـل هو التقـريـر المبنـي على الفـكـر وفـق قواعد معينة، والإرادة هي التصميم على إنجاز العمل مهما كان شاقا ومضـنياً، والثبات على ذلك والاستمرار فيه.

                فالأمور العقلية التي يجب توفرها لتحقيق ثمرة العمل هي:ـ

 1ـ            تحـديد الهـدف أو ثمرة الـعـمـل الــمــرجــوة بوضـوح ودقـة.

 2ـ            معرفة جمـيـع الأسـبـاب المفضـيـة لتحقيق ذلك الـهـدف.

 3ـ            ربط الأسباب بمسبباتها ربطاً محكماً للوصول إلى الهدف وتحقيق ثمرة العمل.

 4ـ            السير وفق قوانين وسنن الكون حين السعي لتحقيق الأهداف.

                أما ما يتعلق بالإرادة فيـنـحـصـر في ثلاثـة أمـور هـي:ـ

 1ـ            توفر الإرادة وثباتها وبقاؤها على الدوام.

 2ـ            توفر الإحساس بالحاجة إلى العمل وأهميته.

3ـ             موازنة الحوافز والطموحات لدى الإنسان بالقدرات والإمكانات.

                فالعقل والإرادة لازمان لا يفترقان لتحقيق الأهداف، فمن أجل تحقيق هدف معين لا بد من توفر الإرادة لتحقيقه، ولا بد من معرفة جميع الأسباب المؤدية إلى تحقيقه، ثم ربطها فيه ربطاً محكماً، وعندها نقول أننا أخذنا بالسببية. والحقيقة أن البحث في السببية هو بحث في الوسائل والأساليب والطرق المادية وعلاقتها بالمقاصد والأهداف المادية، فالإنسان في حياته اليومية يستعمل الوسائل والأساليب والطرق المادية من أجل الوصول إلى مقاصده وأهدافه وبالتالي إلى غاياته، ومن استقراء هذه الوسائل  والأساليب والطرق واستقراء علاقتها بالأهداف والمقاصد والغايات، نجد أن هناك علاقتين لا ثالثة لهما، الأولى هي علاقة السببية المجردة، فإذا أوصلت الوسيلة أو الأسلوب أو الطريقة إلى الهدف حتما بحيث لا يتحقق الهدف بغيرها نقول أن العلاقة القائمة بينها هي علاقة سببية، والثانية إذا تحقق الهدف أحياناً ولم يتحقق أحياناً أخرى، كما أنه يتحقق بغير هذه الوسيلة، فإن العلاقة القائمة هي علاقة خاصة بملابسات خاصة وهي ما تسمى بالحالة. والمثال على هذا القول إن السكين مثلا سبب في القطع، فالإنسان حين استعمل السكين للقطع إنما استعمل الأداة أو الوسيلة التي توصل إلى القطع، أي استعمل السبب للوصول إلى المسبب، والتاجر حين يفتح متجرا بقصد الربح نجد أنه يربح أحيانا ويخسر أحيانا أخرى، فالتجارة لا تأتي بالمسبب وهو الربح بشكل حتمي وإنما قد تأتي به وقد يأتي بغيرها. فهذا المثال هو ما يسمى بالحالة. ومن هنا يتضح أن علاقة السببية القائمة بين الأشياء المادية في الحياة لا تتخلف إلا بمعجزة من الله، وهي لا تكون إلا للأنبياء والرسل. أما السببية القائمة في مظاهر الحياة الأخرى فهي تتخلف بفعل دائرة القضاء فيوقف فعلها. فالإنسان في حياته أثناء عمله لتحقيق أهدافه يصادف هاتين الحالتين فقط، وأن قيام الإنسان بالأعمال في الحالتين هو أخذ بقاعدة السببية، لأنه لا يجوز له أن يلاحظ فعل دائرة القضاء قبل أو حين القيام بالعمل إذ لا تظهر نتيجة الفعل إلا بعد وقوعه. أما الأسباب الكامنة وراء خروج الإنسان عن قاعدة السببية فهي كثيرة، منها ما يشمل جميع الناس، ومنها ما هو خاص بالمسلمين فقط. أما الأسباب العامة، فمنها ما يصادفه الإنسان من تحقيق بعض أهدافه دون أن يسعى لتحقيقها، مثل حصوله على ثروة لم يسع لها، بسبب الإرث مثلاً، ومثل حصوله على النصر جراء ضعف اعترى الأعداء،ومنها ما يصادف الإنسان من ظروف وأحوال بفعل دائرة القضـاء، تمنعه من تحقيق هـدف طالمـا سعى إليه، كأن يلمّ بطالـب العلـم مرض ليلـة الامتحان. فمثل هذه الظروف تترك أثراً سلبياً في حياة الإنسان، فيضعف قيامه بتحقيق قاعدة السببية، بل قد تؤدي إلى الاتكالية أو التواكلية، ما يدعو الإنسان للتهاون في تحقيق قاعدة السببية، فيضعف الحافز لديه ويقل إنتاجه وتـتـراجـع جـهـوده.

                أما ما هو خاص بالمسلمين، فإن ما حصل في العصور الهابطة من خطأ لفهم معنى التوكل واختلاطه بمفهوم السببية، جراء سوء فهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «اعقلها وتوكل»، وكذلك الخطأ في فهم معنى القدر، والكتابة في اللوح المحفوظ، وعلم الله، واختلاطه بمفهوم السببية، ومن سوء فهم مسألة القضاء والقدر؛ كل ذلك أدى إلى التهاون بالسببية وإلى الأخذ بالتواكلية. أما عن تأثير دائرة القضاء على تحقيق الأهداف سلباً أو إيجاباً، فإن الإسلام قد فصل بين العقيدة والحكم الشرعي، فطالما أن تحقيق الأهداف يتطلب أعمالا فهو متعلق بالحكم الشرعي ولا شأن للعقيدة به، أي أن الشارع طلب من المكلف الالتزام بالحكم الشرعي حين القيام بالعمل، فالعقيدة لا دخل لها بالعمل، ولا يجوز ملاحظتها أثناء القيام بالعمل، وأي خلط بين العقيدة والحكم الشرعي عند القيام بالعمل، يترك أثراً سلبياً على أداء الفعل، فإذا كانت السببية فرضاً فيجب تحقيقها بغض النظر عن تأثير دائرة القضاء. والمسلم حين يؤمن بأن القضاء من الله، فإن تأثير ذلك على إنجاز الأعمال يكون تأثيراً إيجابياً في كل الأحوال، فيدفعه إلى العمل لا إلى التواكل والكسل. أما حديث التوكل «اعقلها وتوكل» فمناسبته أن رجلاً جاء النبي صلى الله عليه وسلم  وأراد أن يترك ناقته فقال: أرسل ناقتي وأتوكل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «اعقلها وتوكل» فهو تعليم للأعرابي أن يعقل ناقته، أي يأخذ بالأسباب، ويفهمه أن التوكل لا ينفي الأخذ بالأسباب، وأمر له بالأخذ بالأسباب والتوكل.

                ومسألة الأخذ بالأسباب هي مسألة أخرى غير التوكل، وأدلتها غير أدلة التوكل، فلا يصح أن تحشر معه أو تجعل قيداً له. فكما يجب على المسلمين الأخذ بالأسباب، كما ثبت بالأدلة الشرعية، كذلك يجب عليهم أن يتوكلوا على الله تعالى، كما ثبت بالأدلة الشرعية، وكذلك فإن علم الله بأن الأمر الفلاني سيحصل لا يعني عدم الأخذ بالأسباب وربطها بالمسببات لأن علم الله لم ينكشف لأحد حتى يعلم الشيء، ولا يأخذ بأسبابه، فالكتابة في اللوح المحفوظ والقدر يستحيل أن تعرف من قبل الخلق حتى يحكموا على وقوع الشيء وعلى عدم وقوعه، فلا يصح أن يتركوا الأخذ بالأسباب بحجة القدر والكتابة، لأن ذلك ربط بمجهول، بل لا بد من الأخذ بالأسباب دون ربطها بالقدر بل دون التفكير به. أما الأدلة الشرعية التي تثبت أن السببية فرض فرضه الله تعالى مثل باقي الفروض كالجهاد والصلاة والزكاة وغيرها فهي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اعقلها وتوكل» ووجه الاستدلال من الحديث هو أن صيغة الأمر في قوله اعقلها تفيد الطلب الجازم لأن حكم التوكل فرض وأدلته مستفيضة منها قوله تعالى: (وعلى الله فليتوكل المؤمنون )، وقوله: (فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلينوغيرها من الأدلة الكثيرة، فهذه الآيات قطعية الدلالة على وجوب التوكل على الله، فإنها أمر صريح بالتوكل على الله واقترنت بقرينة تدل على الجزم، وهي مدحه تعالى للمتوكلين في كونه يحبهم، وكذلك فإن واو العطف في حديث رسول الله المتقدم، مع ما تعنيه من الجمع المطلق، فإنها تفيد اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم. وعليه فإن الأمر في اعقلها طـلب جـازم أي أن السـببية فرض فرضه الله تعالى. والدليل الآخر على فرضية السببية هو عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في إنجازه لأعماله وسعيه من أجل تحقيق أهدافه ومقاصده، فمِنْ تتبُّـعِ حياة الرسول صلى الله عليه وسلم  اليومية، نجد أنه لم ينجز أعماله بدون ربط الأسباب بمسببات، بغض النظر عن كون هذه الأعمال تدخل في باب الفرض أو المندوب أو المباح، كما أن الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين وتابعي التابعين من بعدهم لم ينجزوا أعمالهم بغير طريق السببية أي عن غير طريق ربط الأسباب بمسبباتها، والشارع لم يبين طريقاً آخر غير ذلك لإنجاز الأعمال في الحياة الدنيا. والدليل الثالث على وجوب السببية هو من باب وجوب طاعة الشارع، إذ إن طاعته فرض، وهي تتمثل في السعي والتحري لتحقيق ما طلب، فطاعة الشارع في تحقيق الفرض أو المندوب أو المباح فرض، فالامتثال لطلبه عن طريق السعي لتحـقـيـق ما طلـب واجب. أما ما يترتب على تحـقـيق العمل من ثواب أو عدمه فهو يعود للشارع يوم القيامة ولا شأن لقاعدة السببية في ذلك. فالامتثال لطلب الشارع من أجل القيام بالعمل يظهر من التحري فيما يوصل إلى هذا العمل، وعدم التحري لما يوصل إلى القيام بالعمل هو عدم امتثال لطلـب الشـارع، فالتحري عن ما يوصل إلى العمل واجب من باب وجوب طاعة أوامر الشارع. فطلب العمل طلب للتحري عن ما يوصـل إلى هـذا العـمـل، أي الأخذ بالأسباب وتحقيق قاعدة السببية، فمن الواجب أن نتحرى عن الأسباب المؤدية إلى القيام بالعمل، سواء ترتب على إنجازه ثواب في حالة الفرض والمندوب أولم يترتب في حالة المباح، فتحقيق السببية فرض بغض النظر عن حكم العمل. إذ أن حكم السـببـيـة شـئ وحكـم العمـل مـن حيـث الثواب والعقاب شئ آخر. فحكم السببية آت من وجوب حكم الطاعة، وحكم العمل آت من دليله، وهو أحد الأحكام الثلاثة: الفرض والمندوب والمباح، والفرق بين الفرض من جهة والمندوب والمباح من جهة أخرى هو أن إنجاز الفرض هو المطلوب إتمامه، وعدم إتمامه يترتب عليه إثم في حالة القدرة، أما المـنـدوب والمباح فإن عدم إتمـامـه لا يترب عليه إثم مع القدرة، ومن هنا كان طلب القيام بالعمل من الشارع هو طلب تحـقـيـق العمل وإلا لا معنى لطلب الـشـارع. وطلب تحقيق العمل هو طلب تحقيق السببية. فإذا أراد المـسـلـم تحـقيق فرض فرضه الله عليه، يجب علـيـه أن يأخـذ بقاعـدة الـســبــبــيــة عن طـريق معرفة جميع الأسـبـاب وربطها بمسـبـبـاتـهـا ربطـاً محـكـمـاً، فإذا قام بخلاف ذلك لا يكون قد أخذ بالسـبـبـيـة، أي يكـون قد وقع في التـواكليـة، ويكون آثماً في تقصيره. وإذا أراد المـسـلـم أن يقـوم بالمندوب أو المباح، فعليه أن يسعى لتحقيق المندوب أو المباح عن طريق السـببية أي بربط الأسـبـاب بمسـبـبـاتـهـا وإلا يكـون آثـمـاً.

                ومن هنا يكون لزاماً على كل مؤمن يريد تحقيق هدف من الأهداف، أن يقرر ويعزم الأمر متسلحاً بالإيمان متوكلا على الله حق التوكل، وأن يعتقد أن الله سوف يساعده على تحقيق هذا الأمر، ثم يلتمس الأسباب ويربطها بمسبباتها ربطاً قوياً، ويمضي قدماً لا يصدّه عن تحقيق هذا الهدف أي خطر، ولا يقعده عنه بلاء أو ضرر، ولا تقف في وجهة العقبات، لأنه يؤمن أن ما قدره الله سيقع قطعاً، وأن ليس له إلا الأخذ بالأسباب، هذا ما كان عليه رسـول الله صلى الله عليه وسلم  في كل أعماله فلم يطلب النصـر في معركـة من المـعـارك بدون إعداد السـلاح، ولم يطلب تغيير المجتمع بدون التفاعل معه بالصراع الفكري الحاد، ولم يطلب الحكم بدون أهل النصـرة، ولم يفتح مكـة بدون إعداد الجيوش والاستعداد للقتال، ولم ينشر الإسلام بدون الجهاد، وهذا ما كان عليه الصـحـابة رضوان الله عليهم أجمعين يوم اندفعوا في الفتوحات، ويوم خرجوا إلى العالم يحملون رسالة قدر لها أن تصـحـح مسـار الزمان والإنسان، وتغير وجهة العالم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *