لقد جرت سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه أن يفتنهم ويختبرهم، ليميز الخبيث من الطيب. (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ). ولقد اعتاد الظالمون من الحكام، أن يضطهدوا الذين يخالفونهم في سلوكهم المنحرف، ويناهضونهم في أفكارهم الباطلة، ولم يسايروهم في أهوائهم.
في هذا الباب سنتطرق إلى بعض المحن التي أنزلها الحكام بالعلماء ظلماً وعدواناً، ومواقف البطولة التي وقفها علماؤنا. وهي متقطفة من كتاب (الإسلام بين العلماء والحكام) لفضيلة الشيخ عبد العزيز البدري ـ رحمه الله.
إباء وشمم:
.. عجز عبد الملك بن مروان بما أوتي من دهاء،أن يجر إلى صفوفه سيد التابعين، من جمع بين العلم والعبادة، والتقوى والورع، سعيد بين المسيب رضي الله عنه.
إن دهاء عبد الملك وشراكه لم توقع سعيداً فيها. وإن ودّه.. وتذلّله لم تنطل على سعيد لينال رضاه، وكلما التمس عبد الملك قرباً أو كسب وداً من سعيد كان الاعراض نصيبه، والانكار على أفعاله حليفه.
(دعي إلى نيف وثلاثين ألفاً ليأخذها فقال: لا حاجة لي فيها ولا في بني مروان حتى ألقى الله فيحكم بيني وبينهم).
مرت الأيام.. فتقدم عبد الملك إليه يرجو منه أن يزوج ابنته لابنه الوليد حين استخلفه، ولكن سعيد يرفض، ويأبى هذا القرب! وينفر من هذه المصاهرة بإباء وشمم، إباء العلماء وشمم الأتقياء.. غير مبال بما يجلب عليه هذا الرفض من بأس وأذى. لأنه قرب ومصاهرة لم يرد بها وجه الله والدار الآخرة، وعصمة النفس من الشهوات الفاسقة.
وأمام هذا الرفض لابن أمير المؤمنين، فإنه يزوج بنفسه طالب العالم في حلقته بمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أبا وداعة من ابنته الفقيه العابدة.. وإليكم الحادثة كما جاءت عن الزوج الكريم.
(قال أبو وداعة كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أياماً، فلما جئته قال: أين كنت؟ قلت: توفيت أهلي فاشتغلت بها، فقال: هلا أخبرتنا فشهدناها، ولما أردت أن أقوم قال: هلا حدثت امرأة غيرها. فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ قال: إن أنا فعلت تفعل؟ قال: نعم. ثم حمد الله وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم وزوجني (ابنته) على درهمين.. وفي مساء ذلك اليوم وإذا بالباب يقرع فقلت: من هذا؟ قال: سعيد. ففكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب، فإنه لم ير منذ أربعين سنة إلا ما بين بيته والمسجد، فقمت وفتحت. وإذا بسعيد بن المسيب، فظننت أنه بدا له ـ أي ظهر له رأي غير الذي رآه فجاء يعتذر ـ فقلت فما تأمرمين؟ قال: رأيتك رجلاً عزباً قد تزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك، فإذا هي قائمة خلفه في طوله ثم دفعها في الباب ورد الباب)..
هذا فعل سعيد مع أحد أفراد المسلمين، مع طالب علم، وذلك فعله مع حاكم المسلمين بسطوته وسلطانه، فتأمل يا أخي.
وحين ذاك عجز عبد الملك وأُسقط في يده، فلم ينفعه دهاؤه، بل لم ينفعه اصطناع تقربه أو تزلفه.
ولكن ماذا فعل عبد الملك مع سعيد بعد ئذ. هنا جاءت المحنة وحلت النكبة بسعيد ولكنه صبر عليها واحتسب ذلك عند الحي القيوم.
(.. قال يحيى بن سعيد، كتب هشام بن اسماعيل والي المدينة إلى عبد الملك بن مروان أن أهل المدينة قد أطبقوا على البيعة للوليد وسليمان إلا سعيد بن المسيب.
فكتب: أن عرضه على السيف فإن مضى فاجلده خمسين جلده وطف به في أسواق المدينة ـ فلما قدم الكتاب على الوالي دخل سليمان بن يسار وعروة ابن الزبير وسالم بن عبد الله، على سعيد بن المسيب، وقالوا: جئناك في أمر، قد قدم كتاب عبد الملك إن لم تبايع ضربت عنقك، ونحن نعرض عليك خصالاً ثلاثاً، فاعطنا احداهن. فإن الوالي قد قبل منك أن يقرأ عليك الكتاب فلا تقل لا ولا نعم، قال: يقول الناس بايع سعيد بن المسيب، ما أنا بفاعل، وكان إذا قال لا لم يستطيعوا أن يقولوا نعم، قالوا: تجلس في بيتك ولا تخرج إلى الصلاة أياماً، فإنه يقبل منك إذا طلبك من مجلسك فلم يجدك؟ قال: فأنا اسمع الآذان فوق أذني حيّ على الصلاة. ما أنا بفاعل، قالوا: فانتقل من مجلسك إلى غيره فإنه يرسل إلى مجلسك فإن لم يجدك امسك عنك، قال: فأرقاً من مخلوق ـ أخوفاً من مخلوق الله ـ ما أنا متقدم شبراً ولا متأخر، فخرجوا وخرج إلى صلاة الظهر فجلس في مجلسه الذي كان فيه، فلما صلى الوالي بعث إليه، فأتى به فقال: إن أمير المؤمنين كتب يأمرنا إن لم تبايع ضربنا عنقك، قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين ـ بيعة للوليد ومثلها لسليمان في وقت واحد ـ فلما رآه لم يجب أخرج إلى السدة فمدت عنقه وسلت السيوف. فلما رآه قد مضى أمر به مجرداً فإذا عليه ثياب من شعر.
فقال لو علمت ذلك ما اشتهرت بهذا الشأن. فضربه حمسين سوطاً ثم طاف به أسواق المدينة فلما ردوه والناس منصرفون من صلاة العصر قال: إن هذه الوجوه ما نظرت إليها منذ أربعين سنة.. ومنعوا الناس أن يجالسوه. فكان من ورعه إذا جاء إليه أحد يقول له قم من عندي، كراهية أن يضرب بسببه..)
(.. عندما ضرب هشام بن اسماعيل والي المدينة لعبد الملك بن مروان الامام سعيد بن المسيب لامتناعه عن اعطاء البيعة لوليّ عهده (الوليد وسليمان) ضرباً مبرحاً خمسين سوطاً وطاف به تبان من شعر حتى بلغ رأسه الثنية. فلما كروا به قال أين تكرون بي؟ قالوا إلى السجن قال: والله لولا إني ظننت أنه الصلب ما لبست هذا التبان أبداً..).
وفي رواية (أما والله لو علمت أنهم لا يزيدونني على الضرب ما لبست لهم التبان، إنما تخوفت أن يقتلوني فقلت تبان أستر من غيره. وفي رواية دخل أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث فجعل يكلم سعيداً ويقول إنك خرقت به فقال: يا أبا بكر اتق الله وآثره على من سواه، قال: فجعل أبو بكر يردد عليه إنك خرقت به ولم ترفق، فجعل سعيد يقول: إنك والله أعمى البصر أعمى القلب، قال: فخرج أبو بكر من عنده، وارسل إليه هشام بن اسماعيل فقال: هل لان سعيد بن المسيب منذ ضرباه؟ فقال أبو بكر.. ما كان أشد لساناً منه منذ فعلك به ما فعلت فاكفف عن الرجل.. ثم خلى سبيله.. وفي السجن أيضاً يقول عبد الله بن يزيد الهذلي (دخلت على سعيد بن المسيب السجن فإذا هو قد ذبحت له شاة فجعل الاهاب على ظهره، وجعلوا له بعد ذلك قضيباً رطباً وكان كلما نظر إلى عضديه قال اللهم انصرني من هشام..).
تلك من إساءات الحكام في تطبيق الإسلام، إن البيعة لا تؤخذ من الأمة بالقوة أو الإكراه، ولا بضرب السياط على الظهور، ولا باعتقال وحبس المعرضين عنها، وإنما تؤخذ عن رضا الأمة وموافقتها، لأن البيعة هي الطريقة الشرعية في نصب الحاكم وهي طريقة التعبير عن رضا الأمة عن الحاكم المنتخب فإذا قرر هذا شرعاً ومثله قد قرر أن الحاكم هو نائب عن الأمة في تنفيذ الإسلام ووكيل عنها في الحكم، فكيف يباح استعمال القوة بأشكالها وألوانها في سبيل إقرار هذه البيعة لتحقيق شرعية النيابة والوكالة.
(اللهم انصرني من هشام) تكل دعوة مظلوم على ظالم. ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب. فاستجاب الله تعالى هذه الدعوة، وأزال سلطان هشام ومن ولاه. فليحذر الظالمون من دعوة المظلومين، بذلك نطق الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
ولكن هل انتهت محنة الإمام الورع؟ لا لا. فقد جاءته محنة أخرى، فصبر عليها كما صبر على أختها من قبل..
(.. استعمل عبد الله بن الزبير جابر الأسود الزهري على المدينة المنورة فدعا الناس إلى البيعة لابن الزبير فقال سعيد بن المسيب لا حتى يجتمع الناس فضرب ستين سوطاً فبلغ ذلك ابن الزبير فكتب إلى جابر يلومه ويقول ما لنا ولسعيد دعه..).
(.. وكان جابر هذا قد تزوج الخامسة قبل أن تنقضي عدة الرابعة، فلما ضرب سعيد بن المسيب صاح به سعيد والسياط تأخذه: (والله ما ربعت على كتاب الله، يقول الله: (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ) وإنك تزوجت الخامسة قبل انقضاء عدة الرابعة، وما هي إلا ليال فاصنع ما بدا لك فسوف يأتيك ما تكره).
وقد صدق سعيد، فما مكث جابر إلا يسيراً حتى قتل ابن الزبير، وكانت نهاية جابر السوداء المظلمة، وتلك عاقبة الظالمين.
وهكذا عاش سعيد ممتحناً في دينه وهكذا شأن المتقين الأبرار، رحم الله سعيداً فقد جاد بنفسه في سبيل الحق وإقامة العدل فلم تزعزع إيمانه المحن بل زادته إيماناً ويقيناً بأن للدين صولة وللإسلام قوة ولا غروة في ذلك لأنه من العلماء الرجال..
أعلمت أخي القارئ أن كل (جرم) سيد التابعين ابن المسيب في نظر عبد الملك بن مروان أنه لم يبايع ولي عهده، ولأنه امتنع عنها لوجود نص شرعي يحفظه، فهو حجة عليه يوم القيامة.
وتلك اساءة عبد الملك ومظلمة سجلها عليه التاريخ وأنكرتها عليه الأمة وغضب عليه رب العالمين، ومن ينجو من عقاب هذه المظالم، وسيقال له يوم القيامة: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) نعم سيسأل كل حاكم عما اجترحه من سيئات ومظالم في حق أمته، ولو كان (عموماً) مطبقاً للإسلام منفذاً لأحكام القرآن حامياً للثغور مدافعاً عن بيضة المسلمين كعبد الملك.
وكيف تكون المسؤولية والمحاسبة حين لا يكون الحكام كذلك؟ لا شك أن المسؤولية اليوم أعظم والمحاسبة يجب أن تكون أشد، إذ حكام الأمس الذين ذكرتهم في هذا الكتاب كالملائكة بالنسبة لحكام اليوم!!
(مات سعيد سنة احدى وتسعين هـ وله من العمر 74 عاماً).