استعاد المسلمون، بقيادة البطل صلاح الدين الأيوبي، المسجد الأقصى من أيدي الصليبيين الغاصبين، وشاء الله أن يكتمل النصر يوم الجمعة السابع والعشرين من شهر رجب عام 583 هجرية. وقد أوعز القائد صلاح الدين الأيوبي للقاضي محي الدين أبي المعالي محمد بن زكي الدين علي القرشي بأن يرقى المنبر ويخطب الجمعة.
وقد رأت «الوعي» أن تنشر هذه الخطبة الآن تذكيراً للمسلمين والعالم بأن مصير الغاصبين اليهود هو كمصير الصليبيين. ونسأل المولى عزّ وجلّ أن يشرفنا في القريب العاجل بسماع خطبة يوم النصر بإعلان قيام دولة الخلافة الإسلامية وتطهير المسجد الأقصى من اليهود وتطهير سائر البلاد الإسلامية من رجس الكفار وعملاء الكفار.
[فيما يلي نص الخطبة من كتاب الروضتين في أخبار الدولتين لأبي شامة]:
الحمد لله معزَّ الإسلام بنصره، ومذلّ الشرك بقهره،ومصرّف الأمور بأمره، ومُديم النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره، الذي قدر الأيام دُولاً بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاء على عباده من ظِلّه، وأطهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يُمانع، والظاهر على خليقته فلا يُنازع، والآمر بما شاء فلا يُراجع، والحاكم بما يريد فلا يُدافع، أحمده على إظفاره وإظهاره وإعزازه لأوليائه، ونصره لأنصاره، وتطهير بيته المقدس من أدناس الشرك وأوضاره، حَمْدَ من استشعر الحمد باطن سره وظاهر جهره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحدُ الصمدُ الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، شهادةَ من طهّرَ بالتوحيد قلبَه، وأرضى به ربه، وأشهدُ أن محمداً r عبده ورسوله، رافعُ الشك، وداحض الشرك، ورافض الإفك، الذي أسرى به ربُّه من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى، وعرَجَ به منه إلى السموات العُلى، إلى سدرة المنتهى، عندها جنةُ المأوى، إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما زاغ البصر وما طغى، صلى الله عليه وعلى خليفته أبي بكر الصديق السابق إلى الإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان، وعلى أمير المؤمنين عثمان ذي النورين جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ومكسّر الأوثان، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
أيها الناس، أما بعد ابشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى والدرجة العليا لما يسّره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة من الأمة الضالة، وردها إلى مقرها من الإسلام بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريباً من مائة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذِنَ اللهُ أن يُرفع ويذكر فيه اسمه، وإماطة الشرك عن طُرقِه بعد أن امتد عليها رواقُه، واستعمر فيها رسمه، ورَفْعِ قواعدِه بالتوحيد فإنه بني عليه، وبالتقوى فإنه أسس على التقوى من خلفه ومن بين يديه. فهو موطن أبيكم إبراهيم عليه السلام، ومعراج نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام، وقِبلتكم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام، وهو مقر الأنبياء والرسل ومقصدُ الأولياء ومهبط الوحي ومنزلُ تنزيل الأمر والنهي، وهو في أرض المحشر، وصعيد المنشر، وهو من الأرض المقدسة التي ذكر الله في كتابه المبين، وهو لمسجد الذي صلى فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالملائكة المقربين، وهو البلد الذي بعث الله إليه عبده ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروحه عيسى عليه السلام الذي شرفه الله برسالته وكرمه وبنبوته ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته فقال تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} وقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}، وهو أول القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، ولولا أنكم ممن اختاره الله من عباده، واصطفاه من سكان بلاده لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مُجار ولا يباريكم فيها مبار، فطوبى لكم ممن جيش ظهر على أيديكم المعجزات النبوية، والموقعات البدرية والعزمات الصديقية، والفتوح العمرية والجيوش العثمانية والفتكات العلوية، جددتم للإسلام أيام القادسية، والواقعات اليرموكية، والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية، فجزاكم الله عن نبيكم محمد r أفضل الجزاء، وشكر لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء، وتقبل منكم ما تقربتم به إليه من مُهراق الدماء، وأثابكم الجنة فهي دار السعداء، فاقدُروا رحمكم الله هذه النعمة حق قدرها، وقوموا لله بواجب شكرها، فله النعمة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة وترشيحكم لهذه الخدمة. فهذا هو الفتح الذي فتحت له أبواب السماء، وتبلجت بأنواره وجوه الظلماء وابتهج به الملائكة المقربون، وقر به عيون الأنبياء والمرسلين، فإذا عليكم من النعمة بأن جعلتم الجيش الذي يفتح عليه البيت المقدس في آخر الزمان، والجند الذي تقوم بسيوفهم بعد فترة من النبوة أعلام الإيمان، فيوشك أن تكون التهاني به بين أهل الخضراء أكثر من التهاني به بين أهل الغبراء. أليس هذا هو البيت الذي ذكره الله في كتابه، ونص عليه في خطابه فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} أليس هذا هو البيت الذي عظمته الملوك وأثنى عليه الرسل، وتليت فيه الكتب الأربعة المنزلة من إلهكم عزّ وجلّ، أليس هذا هو البيت الذي أمر الله موسى عليه السلام أن يأمر قومه باستنقاذه فلم يجبه إلا رجلان، وغضب الله عليهم لأجله فألقاهم في التيه عقوبة للعصيان، فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما قعد عنه بنو إسرائيل، وقد فضلكم على العالمين، ووفقكم لما خذّل فيه من كان قبلكم من الأمم الماضيين، وجمع لأجله كلمتكم وكانت شتى، فليهنئكم أن الله قد ذكركم به فيمن عنده، وجعلكم بعد أن كنتم جنوداً لا هوية لكم جنوده وشكركم الملائكة المنزلون على ما أهديتم إلى هذا البيت من طيب التوحيد ونشر التقديس والتحميد، وما أحطتم من طرقهم فيه من أذى الشرك والتثليث، والاعتقاد الفاجر الخبيث، فالآن تستغفر لكم ملائكة السموات وتصلي عليكم الصلوات المباركات، فاحفظوا ـ رحمكم الله ـ هذه الموهبة فيكم، واحرسوا هذه النعمة عندكم بتقوى الله، التي من تمسك بها سَلِم، ومن اعتصم بعروتها نجا وعُصم، واحذروا من اتباع الهوى وموافقة الردى ورجوع القهقرى والنكول عن العدى، وخذوا في انتهاز الفرصة وإزالة ما بقي من الغُصة، وجاهدوا في الله حق جهاده، وبيعوا، عبادّ الله، أنفسكم في رضاه، إذ جعلكم من خير عباده، وإياكم أن يستزلكم الشيطان وأن يتداخلكم الطغيان فيخيل لكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد وبخيولكم الجياد وبجلادكم في مواطن الجلاد، لا والله ما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم. واحذروا عبد الله بعد أن شرفكم الله بهذا الفتح الجليل والمنح الجزيل وخصكم بهذا الفتح المبين واعلق أيديكم بحبله المتين، أن تقترفوا كبيراً من مناهيه وأن تأتوا عظيماً من معاصيه فتكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، أو الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين، والجهادَ الجهادَ فهو من افضل عبادتكم وأشرف عاداتكم، وانصروا الله ينصركم، واذكروا أيام الله يذكركم، واشكروا الله يزدكم ويشكركم، جِدّوا في حسم الداء وقطع شأفة الأعداء وتطهير بقية الأرض التي أغضبت الله ورسوله، واقطعوا فروع الكفر واجتثوا أصوله، فقد نادت الأيامُ بالثارات الإسلامية والحملة المحمدية: الله أكبر، فتحَ اللهُ ونصر، الله أكبر، غلبَ اللهُ وقهر، الله أكبر، أذلَّ اللهُ من كفر، واعلموا رحمكم الله أن هذه فرصة فانتهزوها، وفريسة فناجزوها، ومهمة فأخرجوا لها هممكم وأبرزوها، وسيّروا إليها عزائكم وجهزوها، فالأمور بأواخرها والمكاسب بذخائرها، فقد أظفركم الله بهذا العدو المخذول وهم مثلكم أو يزيدون، فكيف وقد أضحى في قبالة الواحد منهم منكم عشرة وقد قال تعالى: ]إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ[ أعاننا الله وإياكم على اتباع أوامره والازدجار بزواجره وأيدنا معشر المسلمين بنصر من عنده {إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ}