الدول الدائنة وخاصّة أميركا لها مصالح عدّة في إعطاء القروض للبلدان النامية، ومصلحتها تعجيز المدين عن سداد الدين، حتى تجعل من الدين سبباً لفرض سيطرة على أرض البلد المدين، وعلى نظامه وسائر مرافقه. والخلاص من الديون يكون بعدم الاعتراف بالفوائد، وعدم سداد أصل الدين إلا عند الميسرة، وأن تتكتّل الدول المدينة جبهة متراصّة في وجه غول الاستعمار.
في 28/11/1987، اجتمعت ثماني دول من أميركا اللاتينية (الجنوبية) في “اكابولكو” في المكسيك، ودام مؤتمرهم ثلاثة أيام، وكان الموضوع الأساس في أبحاثهم: قضيّة الديون الخارجية الضخمة المترتبة على بلادهم (380 مليار دولار).
وفي اليوم نفسه الذي اختتمت فيه قمّة دول أميركا اللاتينية، 30/11/87، افتتحت قمة دول منظمة الوحدة الأفريقية في “أديس أبابا” عاصمة أثوبيا في مؤتمر طارئ لمعالجة قضية الديون الخارجية الضخمة المترتبة على القارة السوداء (200 مليار دولار). وكان وزير مالية السودان طالب في 25/11/87بالغاء كل قروضه.
وقد سبقت هذه القمم قمم كثيرة لدول الوحدة الأفريقية في “أديس أبابا“، ولدلو أميركا اللاتينية في “قرطاج” ولدول عدم الانحياز في “هراري” لمعالجة أزمة الديون الخارجية.
ومنذ مدة قريبة تأسست جبهة لبلدان أميركا اللاتينية هدفها الرئيس العمل لإقامة نظام اقتصادي جديد، وإيجاد حلّ لمسألة الديون الخارجية.
كيف رَبَت
الدول النامية (أي المتخلفة اقتصادياً)، أو ما يسمّونها بدول العالم الثالث أو دول الجنوب، كانت الديون الخارجية المتراكمة عليها حسب بيانات البنك الدولي، 72 مليار دولار سنة 1970، و161 مليار دولار سنة 1974، و828 مليار دولار سنة 1984، وحوالي 970 مليار سنة 1986، وهي بالتأكيد تزيد عن ألف مليار دولار سنة 1987 حسب تقديرات الخبراء.
والديون الخارجية على العالم الثالث هي في الحقيقة أكثر من هذه الأرقام، لأن بيانات البنك الدولي تستبعد الديون العسكرية، التي تبقى سرّية، وتستبعد الديون الخارجية التي تدفع بالعملة المحلية، وتستبعد الديون الخاصة التي لم تضمنها الحكومات، وتستبعد الالتزامات تجاه صندوق النقد الدولي.
الدول الصناعية لها مصلحة في الإقراض
في أواخر الستينات، أخذت قيمة الذهب ترتفع بالنسبة إلى الدولار وسائر العملات، وفي آب 1971 أوقفت أميركا تحويل الدولار إلى ذهب، ودبّ في الأسواق ركود اقتصادي واضح. ومعلوم أن الدول الصناعية بحاجة إلى تصريف إنتاجها. ولما كانت شعوب العالم الثالث هي السوق الأهم، وهذه الشعوب فقيرة لا تملك ثمن السلع، رأت الدول الصناعية أن تقرض الفقراء ليشتروا منتوجاتها (هي لا تقرضهم نقداً بل تسلّمهم السلع وتسجّل أثمانها عليهم). وبذلك تغلّبت الدول الصناعية على حالة الركون الاقتصادي.
وفي الواقع، فإن الدول الصناعية استطاعت أن تقنع حكّام الدول النامية بأن هذه القروض ستخدم مشاريع منتجة في بلادهم، وستحقق الرفاهية لشعوبهم، وبذلك ستقوي شعبيّتهم. واستطاع خبراء البلاد الصناعية أن يقنعوا (خبراء!) البلاد المتخلفة بجميع النظرّيات والمشروعات التي اقترحوها عليهم. والمغلوب بطبعه مولع بتقليد الغالب، كما يقول ابن خلدون. فأقبلوا على القروض يأخذونها بفوائد عالية، وصاروا يستوردون السلع الاستهلاكية ومواد الكماليات والترف. واستمرّ الحال على هذا المنوال حتى خريف عام 1982 حيث انفجرت الأزمة في دول أميركا الجنوبية. فقد وجدت البرازيل أنها غير قادرة على دفع ما يستحق عليها، وقد وقفت إلى جانب البرازيل كل من المكسيك والأرجنتين وتشيلي لأنهم كلهم مثقلون بالديون، وتوقفوا عن دفع الأعباء المترتبة عليهم في عام 1982.
جدولة الديون
وهذا التوقف عن الدفع ألقى الذعر في البنوك والمؤسسات الدائنة (وأكثرها أميركي). ولكن أميركا، ومعها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبنك التسويات الدولية طمأنت أصحاب الديون، وأوجدت حلاً للمشكلة، وافقت أميركا، وأقنعت المؤسسات الدائنة، بأن تعيد جدولة الديون للدول العاجزة عن الدفع. أي تأخير دفع الفوائد والأقساط المستحقة إلى آجال جديدة مع فرض شروط جديدة.
هل الدائنون يجهلون عجز المدينين عن السداد؟
من المؤكد أن المسؤولين في الدول الدائنة والخبراء في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يعرفون الأوضاع الاقتصادية للبلدان التي يعطونها القروض، ويعرفون أنها لا تستطيع السداد، فلماذا يعطونها ويجازفون بأموالهم؟ إن الدول الدائنة بإعطائها القروض تضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد وليس عصفورين فقط: الأول أنها تمنع الكساد بتمكين الأسواق من استيراد إنتاجها فتبقى حركة العمل والإنتاج في بلادها مستمرة.
والثاني أنها مطمئنّة إلى السداد، حتى لو عجزت الدول المدينة عن السداد النقدي، فإنها لا تعجز عن تقديم شيء من أرضها وسيادتها، وهذا ما تهدف إليه الدول الاستعمارية، فهي تطلب قواعد من مطارات وموانئ، وتطلب مشاركة الدول المدينة في ثرواتها، وتطلب امتيازات تجارية وسياسية وغيرها.
والثالث أنها تجعل الحاكم في البلد تحت رحمتها وخاتماً في إصبعها، لأنه حين يعجز عن السداد سيلجأ إلى طلب فترة سماح وإعادة جدولة ديونه، فيتدخل صندوق النقد الدولي (وهو من الأدوات التي تستخدمها أميركا لفرض استعمارها) ولا يقبل بفترة سماح ولا بإعادة جدولة إلا بعد أن يطّلع على ذلك البلد المدين: كيف يخطط اقتصاده، وكيف ينفق أمواله، وكيف يتصرّف في جميع شؤونه. صندوق النقد الدولي يرسل لجنة من الخبراء ليطلعوا على ذلك كله، ثم يضعون سلسلة من المقترحات والشروط ليسيّر النظام في ذلك البلد بموجبها وتحت رقابتهم. فإن وافق الحاكم وخضع لتوجيهاتهم وافقوا على إعادة الجدولة التي لا تشكل حلاً بل مجرد تأجيل للمشكلة وتضخيم لها.
إننا نذكر كيف حصل مع الخديوي إسماعيل في مصر، تراكمت عليه الديون لإنكلترا وفرنسا. لقد فرضتنا عليها أن يعيّن في حكومته وزيراً إنجليزياً ووزيراً فرنسيّاً ليراقبا من داخل حكومته كيف يتصرّف، فإن كان مبذّراً أو ينفق المال على أعمال لا تعجبهم اتهموه بأنه عن قصد ينوي عدم تسديد الديون.
والدول الدائنة الآن، وعلى رأسها أميركا، لا ترغب أن ترى البلاد المدينة قادرة على سداد دينها، بل نحن نراها تهتم بتعجيز المدين عن سداد الدين حتى يبقى في أسرها. وقلّ أن نجد أن بلداً وقع في شباك الديون الخارجية واستطاع الخروج منها.
البرازيل وصندوق النقد الدولي
البرازيل عدد سكانها 130 مليون نسمة، وعليها دين يساوي 120 مليار دولار، أي بمعدل 923 دولاراً على كل شخص (إمارة الشارقة عدد سكانها 220 ألف نسمة وعليها ديون تساوي مليار دولار أي بمعدل 4545 دولاراً على كل شخص). لقد هال البرازيل أن يتضخّم دينها إلى هذا الحد وبسرعة مذهلة، فشكّل برلمانها لجنة لتقصيّ الحقائق، وخرجت اللجنة بنتيجة أن حجم الدين الحقيقي على البرازيل هو 39 مليار دولار ليس 120 ملياراً كما يقول صندوق النقد الدولي. أما كيف أسقطت هذه اللجنة بقية الدين فهو كالآتي:
1- سعر الفائدة في عام 1979 كان 6,5% بينما صار في عام 1981 ـ 1982 21,5% وبحذف الزيادة في الفائدة يسقط 40 مليار دولار.
2- الشركات المتعددة الجنسية التي كانت تشرف على استثمار الأموال المقترضة وتقوم بتنفيذ المشروعات اختلست وهرّبت إلى الخارج 18 مليار دولار يجب إسقاطها.
3- بين عامي 1985 ـ 1986 انخفض سعر الدولار، وبتأثير ذلك زادت قيمة الدين 5 مليارات دولار يجب إسقاطها.
4- الشركات المتعددة الجنسية اقترضت من الخارج 18 مليار دولار وسجّلتها على الدولة، يجب إسقاطها.
فتكون النتيجة:
120 – (40 + 18 + 5 + 18) = 120 – 81 =39 مليار دولار.
وبناء على هذا صار كثير من الخبراء والباحثين في مسألة الديون الخارجية يرون أن البرازيل لا يجوز أن تتحمل أكثر من 33% من ديونها، والباقي يجب أن يتحمّله الدائنون، ويرون أنّه ليس من العدل تحميل المسؤولية كلها لأخطاء السياسة الداخلية.
مسؤولية الدائنين
إن ما توصلت إليه لجنة تقصي الحقائق البرازيلية من تحميل الدائنين النصيب الأوفر من مسؤولية الدين لم تبق محصورة في ديون البرازيل، بل صارت معظم الدول المدنية تحمّل الدائنين قسطاً من مسؤولية الدين. ففي قمّة منظمة الوحدة الأفريقية في “أديس أبابا” في 30/11/87، قال “منغيستو مريم”: “لا شك في أن السبب الرئيسي لمشكلة الديون هو السياسة التي تنتهجها الدول الدائنة (…)، ويجب الإقرار بأن هذه السياسة ليست مضرّة بالبلدان المدينة فحسب، بل بالدائنين.
وفي قمّة دول أميركا اللاتينية المنعقدة في “اكابولكو” (في المكسيك) في 28/11/87، قال رئيس البرازيل “خوسيه سارني”: تهب رياح جديدة على قارتنا: إنها رياح الاستقلال. لقد ولّى زمن انتظار الخلاص من الخارج. وليست هناك إرادة سياسية لدى الدول الصناعية لإخراج أميركا اللاتينية من تخلفها المفجع”. وقال رئيس البيرو “آلان غارسيا”: “حان الوقت لإنهاء ديكتاتورية الدولار التي فرضت علينا منذ أكثر من 40 عاماً. وسنعاني مزيداً من البؤس إذا لم نتحد لإرغام الأغنياء على الحوار”. واعتبر أن مشكلة ديون أميركا اللاتينية “يجب أن تكون مشكلة للدائنين وللنظام النقدي الدولي (…) بقدر ما هي مشكلة للدول التي تسعى إلى معالجتها”.
هل من حل؟
الدائنون يتظاهرون بأنهم مظلومون لأن أموالهم في خطر، ويتظاهرون بأنهم لم يقدّموا القروض للبلدان النامية إلا كعمل إنساني لمساعدتها على تطوير اقتصادها، وهم يسمّون هذه القروض: مساعدات. والواقع أن كلامهم هذا ليس إلا خداعً، وهي أساليب (ميكافيلية)، فليس عندهم عمل إنساني ولا عمل أخلاقي ولا عمل روحي، وإذا تظاهروا بشيء من هذا فهم مخادعون، ولا ينخدع بهم إلا كل ساذج، فهلا فهمت أمتنا هذا. إن المدينين هم الضحية وهم الفريسة، وهم الذين يجب أن يبحثوا عن حلّ. ونحن نقرأ حلولاً يطرحها بعض المسؤولين في الدول المدينة، وحلولاً يطرحها بعض الخبراء، وحلولاً يطرحها بعض الكتّاب. والحل كما نراه يتطلّب المواقف والأعمال التالية:
1- أول قرار هو أن لا نستشير أي خبير من أبناء الدول الدائنة، لأن مشورتهم هي تضليل، وأن نعتمد على مشورة أهل الخبرة والوعي من أبنائنا.
2- أن نعترف بالدين الأصلي فقط، أما الفوائد الربوية فيجب إسقاطها، ولو كان المسؤولون في السابق قد وافقوا عليها. ونحن نسترشد في ذلك بقوله تعالى: ]يا أيها الذين آمنوا اتقوا وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين @ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلَمون[. وهذا التوجيه الرباني هو الذي يحل مشاكل الإنسانية. وهل أزمة الديون هذه كانت تحصل لولا أكل الربا الذي حرّمه الله على الناس (جميع الناس)؟ وهل يُرجى حلّ لمشاكل البشرية بغير الرحمة المهداة: ]وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين[؟
3- نعلن لأصحاب الديون أننا على استعداد لدفعها إليهم عند الميسرة، وعليهم أن ينتظروا إلى الميسرة دون زيادة فوائد. ونحن نسترشد في ذلك بقوله تعالى: ]وإن كان ذو عسرة فَنَظِرة إلى ميسرة[. ونحن نعلم أن الدائنين الكفّار لا يؤمنون بهذه الآيات، ولكن نحن نؤمن بها، ويجب أن نجعلهم يتعاملون معنا بموجبها.
4- إيجاد رأي عام عالمي عند المسلمين وعند غير المسلمين ضدّ الربا، وضد النظام الرأسمالي، وضد الجشع والخداع الذي أوجد هذه الأزمة العالمية، أزمة الديون الخارجية، التي يحرسها البنك الدولي، والذي يمنع العمل الإنساني والتراحم بين البشر، ويجعل الإنسان عبداً لمن اقرضه قرشاً.
5- إيجاد تكتل من البلدان المدينة ليقفوا وقفة واحدة في وجه الدائنين، سواء من أجل إيجاد الرأي العام، أو من أجل إيجاد الهيبة، أو من أجل الوقوف في وجه المقاطعة الاقتصادية، أو من أجل منع الضغوطات السياسة أو غيرها وقد رأينا كيف أن وقوف أربع دول (المكسيك والبرازيل والأرجنتين وتشيلي) عام 1982 موقفاً واحداً وهو رفض رفع الالتزامات لذلك العام، رأينا أن الدائنين لم يفعلوا ما كانوا يهددونه به من عقوبات بل سارعوا لإيجاد مخرج (وإن كان هذا المخرج أكثر ضرراً). أي أن وقوف مجموعة من الدول بجانب بعضها يعطيها قوة.
6- تحريض هذا التكتل من البلدان لإسقاط كل الفوائد، وأن لا يعترفوا إلا بالدين الأصلي (رأس المال)، وأن لا يدفعوا إلا عند الميسرة. وهذا التحريض لا بد أن يكون بشكل منسَّق وحكيم.
7- استعداد كل دولة من الدول المدينة للدفاع عسكرياً عن سيادتها إذا أراد الدائنون غزوها. والمؤكد أن الدول الدائنة إذا أحسّت عزماً وتصميماً من البلدان المدينة على القتال لحماية سيادتها وأموالها فإنها ترضخ للأمر الواقع.
8- التقشّف في الإنفاق الاستهلاكي، وهذا تتحمّله الشعوب بصبر إذا رأت حكامها يشاركونها التقشف، ورأت أن هذا من أجل دحر الاستعمار، وهيمنة الأعداء.
9- الاجتهاد في العمل والإنتاج. أن يكون الشعب كله نشيطاً وأن يتم توجيه إلى الأعمال المنتجة، وأن تقوم الدولة قدر استطاعتها بإقامة المشروعات المنتجة التي تحقّق الاكتفاء الذاتي ولو بعد حين.
10- التوجيه الحكيم من المسؤولين لشعوبهم كي يصبح كل مواطن يتحمّل قسطاً من المسؤولية. وهذا يتم إذا كان المسؤول قدوة حسنة للمواطن، وكان المواطن والمسؤول قدوة حسنة للمواطن، وكان المواطن والمسؤول يتعاونان على حمل رسالة واحدة. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيّته: فالإمام راعٍ عن رعيته، والرجل في أهل راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعيةً وهي مسؤولة عن رعيّتها».