مقتطفات من كتاب التيسير في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته
( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ).
جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه
عطاء بن خليل أبو الرشته
أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:
-
في هذه الآيات تأكيد لما سبق بيانه في الآيات السابقة حول عاقبة كتمان العلم وكتمان الذين أوتوا الكتاب معرفتَهم الأكيدة لرسول الله eالمسطورة في كتبهم، غير أن في هذه الآيات معنى جديداً: فالآية السابقة ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) هذه الآية فيها بيان حال الذين يكتمون ما أنزل الله على العموم، سواء أكان ذلك لتحقيق مصلحة دنيوية لهم أم لغيرهم كأن يكتموا عقوبة منزَّلة في كتبهم حتى لا تُطبَّق عليهم، أو ينكروا حقاً يعرفونه حتى لا يتبعوه، هذا من وجه، ومن وجه آخر أن يكون الكاتمون في حالة تصح التوبة فيها كأن تكون قبل الوفاة مثلاً أو ما هو في حكمها. أي أن يكون احتمال توبتهم وارداً؛ ولذلك قال سبحانه بعدها ( إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا ).
وأما الآية التي نحن بصددها ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ) فهي بيان لحال الذين يكتمون ما أنزل الله لمصلحة غيرهم مقابل عوض يأخذونه؛ ولذلك قال سبحانه بعدها ( وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ) هذا من وجه، ومن وجه آخر أن يكون الكاتمون في حالة لا تصح التوبة فيها أي أن يكون احتمال توبتهم غير وارد كأن يموتوا على كفرهم وهم يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، ولذلك قال سبحانه بعدها ( أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ).
-
( وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ) هذا المنطوق لا مفهوم مخالفة له لأنه خرج مخرج الغالب، فإن الذين كانوا يكتمون الحق كانوا في العادة لا يتقاضون من رؤسائهم الذين يكتمون لأجلهم إلا قليلاً من العوض بالنسبة لفداحة الجريمة التي يقترفون.
وهكذا فلا مفهوم مخالفة له أي لا يقال لو انهم كتموا ما أنزل الله مقابل ثمن كبير فإنه لا يكون عليهم إثم، بل كتم ما أنزل الله جريمة كبرى، سواء أكان مقابل ذلك ثمن كثير أم قليل.
( مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ) أي ما يأكلون في بطونهم نتيجة كتمانهم ما أنزل الله إلا المال الحرام الذي سيكون سبباً في دخولهم النار يوم القيامة، فالنار هنا استعمال مجازي بدلاً من المال الحرام لأنها مسببة عنه.
( وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) أي كلاماً يسرهم، وإلا فإن الله سبحانه قد ذكر في آية أخرى أنه يكلمهم بما يسوءُهم ( قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ) المؤمنون/آية108.
( وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) لا يطهرهم بغفران ذنوبهم أو الثناء عليهم بل يعذبهم بما كتموا عذاباً أليماً.
-
يبيّن الله سبحانه حالهم ومآلهم بعد أن كتموا ما أنزل الله، بأنهم باعوا الهدى وأخذوا الضلالة بدلاً منه وباعوا المغفرة وأخذوا العذاب بدلاً منها، ومن كان هذا شأنهم فالنار أولى لهم وأولى بهم.
كلّ ذلك بسبب اختلافهم في كتاب الله الذي يعلمون أنه منزل بالحق يؤمنون ببعضه ويكتمون بعضه في الكتاب الواحد، وكذلك يؤمنون ببعض كتب الله ويكفرون ببعضها الآخر، وهذا شقاق منهم للكتاب بعيد بعيد أي تمرد منهم على كتاب الله وعدم إيمان وتسليم.
( فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ) وهو استفهام للتوبيخ، أي ما الذي جعلهم يبذلون الجهد ويتحملون المشاق في القيام بأعمال سيئة مثل الكتمان وغيره ومن ثم يقادون بسببها إلى النار.
( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ).
الكتاب هنا جنس الكتاب فـ(ال) للعموم، فالعقوبة تنطبق على كلّ من يختلف في أي كتاب من كتب الله المنزلة، سواء أكان يؤمن بجزء من كتاب ويكفر بجزئه الآخر، أم كان يؤمن بكتاب من الكتب المنزلة ويكفر بكتاب آخر وهو يعلم أنها كتب الله المنزلة بالحق، فمن يفعل ذلك الاختلاف يكن في شقاق بعيد.
( اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ ) أي فرقوا بين بعض الكتاب وبعضه الآخر أو فرقوا بين كتب الله أي بين كتاب وكتاب فيؤمنون بهذا الجزء ويكفرون ويكتمون الجزء الآخر، أو يؤمنون بهذا الكتاب ويكفرون بالكتاب الآخر.
( لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ) أي في مشاقة كبيرة لكتاب الله يستوجبون بها أشدّ العذاب.