تأملات في سورة العصر
5 ساعات مضت
المقالات
52 زيارة
قال الله تعالى: (وَٱلۡعَصۡرِ١إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ ٢إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ٣)
راسم ابو مأمون خاطر
هذه السورة سورة مكية أُنزلت قبل الهجرة، آياتها ثلاث، وهي بذلك من أقصر سور القرآن كالكوثر والنصر، سميت بسورة العصر لإقسام المولى عز وجل بالعصر، وهو الزمان أو جزء منه.
هذه السورة وإن كانت قليلة الآيات، قصيرة المقاطع، فإنها كثيرة الدلالات عظيمة في معانيها، بليغة في مبانيها، جمعت نهج الإسلام وطريقه وأبرزت معالم الدين وأركانه وتضمنت علوم القرآن وغاياته… في غاية الإيجاز وأجمل البيان أوضحت سعادة الإنسان أو شقاوته وبينت أسباب الفوز والنجاح من الخسارة والخسران… يقول عنها الإمام الشافعي رحمه الله: «لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم».
وبتأمل هذه السورة نخرج بما يأتي:
١- (وَٱلۡعَصۡرِ): قسم، ولكن لماذا يقسم ربنا؟ هل لكي نصدقه؟ والجواب طبعًا بالنفي، فالله هو الحق ولا يقول إلا الحق، إذاً سبحانه يقسم لكي ننتبه إلى أهمية ما يقوله لنا ويخبرنا به، فهذا افتتاح مشوق افتتحت به السورة الكريمة؛ حيث ابتدأ بأسلوب القسم، وهو من أساليب التوكيد، والقسم يؤذن بأهمية ما بعده، وهي طريقة من طرق الكلام الذي يراد الانتباه إليه والعناية به. أقسم الله تعالى بالعصر، لأهميته ولتبيين مكانته ولتعظيم منزلته، ولِما فيه من العجائب؛ أمة تذهب وأمة تأتي، وقدَر ينفذ وآية تظهر، وهو هو لا يتغير، ليل يعقبه نهار، ونهار يطرده ليل.
٢- «أل التعريف»في الإنسان للاستغراق، يعني: كل إنسان في خسارة، الأبيض والأسود.. الغني والفقير، العربي والأعجمي… إلخ كلهم في خسارة وخسران، وفي هذا إثبات الخسارة التامة لكل إنسان. وبيَّنَتِ السورةُ أنَّ الناسَ فريقانِ: فريقٌ يلحَقُهُ الخسرانُ، وفريقٌ نَاجٍ مِنَ الخذلانِ مستثنى من الخسارة العامة ممن استثناهم الله تعالى في السورة.
٣- قوله تعالى: (لَفِي خُسۡرٍ)، يعني أن الإنسان غارق في الخسارة، وتحيط به من كل جانب، وهذا أبلغ من أن يقال: «إن الإنسان لخاسر»… والخسر ضد الربح، ومعناه: الهلاك والنقصان، والمراد بالخسارة: دخول النار، ونيل غضب الجبار، وعدم دخول الجنة وعدم نيل رضوان الله. واللام المؤكِدة (لَفِي) تفيد أنه مغمور في الخسر الذي يحيطه من كل جانب، فعليه أن يلتمس سبيل النجاة… فالكافر خاسر، والمنافق خاسر، والمشرك خاسر، والمرتد خاسر، قال تعالى: (وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيۡطَٰنَ وَلِيّٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدۡ خَسِرَ خُسۡرَانٗا مُّبِينٗا) [النساء: ١١٩]، وقال: (وَخَسِرَهُنَالِكَ ٱلۡكَٰفِرُونَ) [غافر: ٨٥]، وقال: (وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ٨٥)[آل عمران: ٨٥].
٤- ثم يقول تعالى: (إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ٣).
هذا استثناء من عموم الخسارة التي تلحق كل إنسان، ولا يسلم منها إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر؛ فـ «إلا» هذه هي المنجية من الخسران وهي:
١ – الإيمان بكل ما أمر الله به: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِن قَبۡلُۚ وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا١٣٦) [النساء: ١٣٦].
٢ – العمل الصالح: وهذا شامل لأفعال الخير كلها المتعلقة بحقوق الله وحقوق عباده الواجبة والمستحبة، والعمل الصالح هو العمل بالأوامر، واجتناب النواهي الشرعية. والتعريف في قوله {الصَّالِحَاتِ} تعريف الجنس مراد به الاستغراق، فهو يشمل جميع الأعمال الصالحة وتشمل الدوائر الثلاث: علاقة العبد بربه؛ أي العقائد والعبادات كالصلاة والصيام والدعاء، وعلاقة الإنسان بنفسه بالملبوسات والمطعومات، وعلاقة الإنسان بغيره وتشمل المعاملات والعقوبات. والعمل الصالح ثمرة الإيمان لا ينفك عنه وهو من آثاره الطيبة وثمراته اليانعة.
والعمل الصالح كي يكون مقبولاً عند الله تعالى؛ لا بد من توافر شرطين فيه، هما:
أ- أن يكون العمل خالصًا لوجه الله تعالى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى» (متفق عليه)، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ» (رواه النسائي).
ب- أن يكون العمل موافقًا للسنة؛ لقول الله تعالى: (لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ)[الملك: ٢]. يقول الإمام الرازي: «أن يكون أخلص الأعمال وأصوبها؛ لأن العمل إذا كان خالصًا غير صواب لم يُقبَل، وكذلك إذا كان صوابًا غير خالص، فالخالص أن يكون لوجه الله تعالى، والصواب أن يكون على السنة».
٣- والتواصي بالحق فقال: (وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ)، التواصي هو التناصح، فالدين النصيحة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «الدين النصيحة»، قالوا: «لمن يا رسول الله؟» قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم». (رواه البخاري ومسلم). ويقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «المؤمنون نَصَحَة والمنافقون غَشَشَة». والتواصي بالحق هو من جملة العمل الصالح، وإنما خصَّه تعالى بالذكر لأهميته، ولفت الانتباه إليه؛ إذ قد يظن بعض الناس أنه يكفيه للنجاة أن يكون مؤمنًا وعاملًا بالصالحات فحسب، ولا يهمه غيره بعد ذلك.
٤- التواصي بالصبر (وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ): فكما أننا محتاجون إلى التواصي بالحق، فنحتاج كذلك إلى التواصي بالصبر على ذلك الحق؛ التواصي بالصبر على طاعة الله، والتواصي بالصبر عن معصية الله، والتواصي بالصبر على أقدار الله المؤلمة. وعطف التواصي بالصبر على التواصي بالحق رغم أن التواصي بالصبر من التواصي بالحق؛ لبيان أهمية الصبر وعظم أثره في تحقيق النجاة والسلامة من الخسارة. وذكر التواصي بالصبر بعد التواصي بالحق مُشْعِرٌ بأن الدعوة إلى الحقِّ تحتاج إلى مصابرة وصبر، وأن الدعاة والمصلحين قد يلحقُهم أذًى من الطواغيت وأعوانهم؛ فعليهم الصبر على حمل الدعوة، وتحمل ما ينالونه من الأذى، فطريق الحق ليس مفروشاً بالرياحين والورود، بل إنه محفوف بالعقبات والأشواك والسدود، والثبات عليه يحتاج إلى صبر جميل وعزيمة قوية.
وفي السورة الإشارة إلى أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن من يقوم به غالباً يتعرض لأذى الناس؛ فلزمهم التواصي بالصبر كما قال لقمان لابنه يوصيه: (يَٰ بُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱنۡهَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ١٧) [لقمان: ١٧] .
«فبالأمرين الأولين يكمل الإنسان نفسه -أي: بالإيمان والعمل الصالح- وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره -وهما التواصي بالحق وبالتواصي بالصبر- وبتكميل الأمور الأربعة يكون الإنسان قد سلم من الخسران وفاز بالربح العظيم».
1447-03-09