لوازم الفهم السياسي ورسم السياسات (٤) تاريخ الشعوب وصفاتها واتفاقها وصراعها
6 ساعات مضت
المقالات
57 زيارة
لقمان حرزالله- فلسطين
وإن التاريخ حين يُدرس لا بد أن يميز الدارسُ ما يفيده منه، ويطرح ما لا يفيده، وتمييز الدارس لذلك يكون من خلال ارتباط دراسته للتاريخ بالهدف الذي يدرس هذا التاريخ لأجله؛ فإنه إذا أراد الأدب والبلاغة أبحر في تاريخ أدباء أمته، وإذا أراد التسلية خاض في أساطير الأمم، وإذا كان الفضول قائده، ذهب يبحث فيما لا جواب عنه في التاريخ. ولكن السياسي لا يدخل هذه المداخل بل يذهب بالاتجاه الذي يمليه عليه هدفه؛ وهو دراسة سياسة الأمس.
التاريخ:
فتاريخ الأمم والدول والقادة هو أخبار عن أحوال وقعت تتعلق برعاية الشؤون وتغيير الأوضاع، وهذا كان في حينه أحداثاً سياسية فأصبحت اليوم تاريخاً، ودراسة تاريخ الأمم والدول والقادة يفيد في جوانب شتى، فتاريخ القادة ينير بصائر السياسي الفعلي الذي يباشر السياسة، وذلك حين ينظر في أفعال القادة الذين غيروا مسار الأحداث، أو أخرجوا بلادهم من الأزمات، أو جنبوا أممهم الويلات، أو نهضوا بأممهم وأوصلوها إلى مصاف الدول العالمية. وذلك يؤكد له أن الممكن في السياسة هو الواقع، وهو أيضا ما يمكن أن يصبح عليه الواقع حين تشتغل به يد السياسي. وتاريخ الدول يفيد السياسي ويعطيه تجربة فعليه عن تطور الميزان الدولي، ونشأة الأعراف والقوانين الدولية، وعن الأدوات الفاعلة التي استُخدمت على مر الزمان لإنفاذ التوجهات السياسية، وتحقيق السياسات المرسومة. ودراسة تاريخ الأمم تعطي السياسي نظرة في الأمم والشعوب، وخصالها، وكيفية ارتباط الأحداث المتعلقة بالأمم بهذه الخصال التي تحملها تلك الأمم.
إن القادة الحاليين في العالم يستلهمون تجاربهم في أكثر الأحيان من قادة تاريخيين في أممهم، فالقادة في أمة الإسلام استلهموا عطاءهم من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الخلفاء الراشدين من بعده أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم، والخلفاء السياسيين الذين أحسنوا رعاية الأمة والدولة، كهارون الرشيد وسليمان القانوني رحمهما الله. وهذه أمريكا يستلهم قادتها إصرارهم وتوجهاتهم من القادة الأوائل الذين بنوا أمريكا وحافظوا على وحدتها وأسسوها لتصبح دولة أولى في العالم، مثل جورج واشنطن وأبراهام لينكولن. وهذه روسيا يستلهم قادتها عنفوانهم بل وتوجهاتهم السياسية من قادتهم التاريخيين أمثال بطرس الأكبر وكاترينا. فدراسة التاريخ مهمة لرسم القدوات للقادة الشباب، ودفعهم باتجاه مجاراة قدواتهم في العطاء والقدرة.
وإن الذي يهمنا في بحثنا هنا هو المستفاد من التاريخ في الفهم السياسي ورسم السياسات؛ ولذلك فإنه لا بد لنا من دراسة تاريخ أمتنا وتاريخ الأمم الفاعلة في الأرض، وهذه الدراسة يلزم النظر فيها إلى مفاصل تاريخ الأمم لا إلى تاريخ الأمم التفصيلي كله، وهو يلزم على النحو التالي:
أولاً: دراسة عامة لتاريخ أية أمة عبر تاريخها منذ نشأتها، وهذا الدراسة تخلص إلى صورة واضحة عن صفات هذه الأمة التي لازمتها منذ نشأتها، وهو أمر يؤثر في نظرتنا للأمة المعينة في وقت صحوتها ووقت كبوتها؛ فإذا اجتمعت في أمة صفات القيادة وشدة البأس والقيام بمسؤولياتها وتحملها مسؤولية غيرها، كانت هذه الأمة أمة لا تندثر، فإن كَبَت فسرعان ما ترجع لتلم شعثها وتربي العالم على طريقتها.
وإذا اجتمعت في أمة صفات الخبث والمكر وقوة التواصل مع غيرها وسهولة كسب الأصدقاء وتحييد الأعداء، كانت هذه الأمة وبالا على العالم، لا تجلب له إلا الشقاء والحرب لتحقيق مصلحتها، وإذا كان شعب اجتمعت فيه خصال الخبث مع الجبن وامتهان الدسائس فإن هذا الشعب يكون مصدر قلاقل لأية دولة تسيطر عليه ولا بد أن يُمنع من أخذ أي موقع قيادي في أي دولة تحكمه، وهكذا.
ثانياً: يلزم دراسة مفاصل تاريخ الأمم، التي أحدث تغييرات جوهرية في تاريخها، ودراسة وضع العالم وقت تلك المفاصل التي حصل فيها التغيير لصالح الأمة أو ضدها؛ وبهذا يدرك السياسي تقلب الموقف الدولي، ويستشرف ظهور أمة وأفول أخرى.
فمثلا صلح الحديبية كان مفصلياً في تاريخ أمة الإسلام، وبعده إرسال الرسائل إلى الملوك في العالم. ومعركتا القادسية واليرموك كانتا مفصليتين في خروج الدولة إلى الناحية العالمية. وفتح القسطنطينية كذلك. وفي المقابل كانت حرب بطرس الأكبر على الدولة العثمانية في منطقة بحر آزوف بعد أن أنشأ فيه ميناء ليمنع امداد تتار القرم من البحر من الحروب المفصلية في تاريخ روسيا القيصرية. ومنه أيضاً الثورة الأمريكية التي أعقبها نشأة الولايات المتحدة الأمريكية. ومنها الحربان العالميتان. فهذه المفاصل تعطي صورة عن الموقف الدولي، وتبدله، وأسباب تبدله، وأسباب ضعف دول وقوة أخرى، وعن المكائد والفخاخ السياسية التي كانت تحوكها دول ضد أُخَر. وإن التاريخ يكرر نفسه وإن كان بحلل مختلفة كل مرة.
ثالثاً: يلزم دراسة الأخطار التي أحدقت بالأمم، والحروب الرئيسة التي شنت عليها، ومعرفة خصومها التاريخيين، والثغرات التي كانت تؤتى منها في حروبها.
فإن روسيا لا ترى أوروبا إلا عدواً، وهذا الأمر مؤكد تاريخياً؛ حيث إن أوروبا غزت روسيا ثلاث مرات كبيرة، منها حرب الشمال العظمى بقيادة مملكة السويد، ومعركة بورودينو بقيادة نابليون، وحين غزاهم هتلر ضمن الحرب العالمية الثانية. وهذا يلفت النظر إلى أن روسيا غزيت في المرات الثلاث من بوابتها الغربية، ما جعلها تأخذ مسألة حماية بوابتها الغربية قضية مصيرية، ولذلك وقفت موقفاً شرساً جداً حين طالبت أوكرانيا حلف الناتو بقبولها عضواً فيه، وذلك بإيعاز من أمريكا حتى تشعل هذه البؤرة، وقد اشتعلت عام ٢٠٢٢.
رابعاً: يلزم دراسة التاريخ القريب، وذلك لاتصاله بالقضايا الجارية، فتدرس المشاريع السياسية التي قامت بها الدول، وهل ما زالت قائمة عليها أم أنهت العمل بها فشلاً أو نجاحاً.
وإذا لم يُعرف تاريخ القضية المعينة التي تجري أحداث متعلقة بها، يكون أي تحليل لظروف حالّة دون النظر في تاريخ القضية تحليلاً أبتر، فإن جوانب القضية لا تنكشف بشكل كامل دون معرفة تاريخها؛ فحين يُنظر في القضية الفلسطينية لا بد من معرفة تاريخها منذ أن وُضِعت هدفاً من قبل الانجليز مروراً باحتلالها، إلى إعطائها ليهود، وإعطاء الأردن ومصر حكماً على أجزاء منها، ثم ما تعلق بها من مشاريع الدولة الواحدة والدولتين، وعلاقات يهود بالأردن، ونظرة يهود إلى الأردن عبر تاريخ القضية، والخطط التي أجراها الأمريكان للوصول إلى حل الدولتين، ابتداء بتشجيع تقسيم فلسطين إلى دولتين عام ١٩٥٠ ثم تبنّي مشروع الدولتين عام ١٩٥٩ ثم تجيير اتفاق أوسلو ١٩٩٤ لصالحهم إلى أن وصلت إلى صفقة القرن ٢٠٢٠، والانتقال من مبادرة السلام العربية إلى التطبيع ثم السلام، وتبدل توجهات يهود بين الأردن والسعودية، وتبدل ولاءات يهود بين بريطانيا وأمريكا، ثم سيطرة أمريكا على المشهد، ثم انقسام الحزبين الأمريكيين ودعم كل واحد منهما طرفاً عند يهود. وهكذا، فإنه حين يحصل أي حدث جديد يكون مفهوماً سياقه.
ولا بد من ملاحظة قضية مهمة جداً، وهي أن التاريخ تختلط فيه الأحداث بالحقائق، فهناك أحداث حدثت لأمة أو دولة كانت متعلقة بظروف معينة، وهناك حقائق تاريخية بمعزل عن الظروف، فيجب أخذ الحقائق وترك الأحداث المرتبطة بالظروف. فإن الأمة الإسلامية ليست أمة دموية، حتى لو حصل في تاريخها أن سُفكت دماؤها على إثر خلافات داخلها، ولكن بالنظر إلى واقع تلك الخلافات تجد أن مرد تلك الخلافات إلى ظروف وأحوال نشأت، أو جماعات دخيلة أربكت الأمة في حين غفلة منها، ومثال ذلك ما وقع من أحداث مع الخوارج، وإنشاء الدولة الفاطمية، وسيطرة القرامطة على الحرم. ولكن هذا لم يُخرج تاريخ الأمة من سياقه، وهو تحمل مسؤوليتها في نشر مبدئها للعالم، وقد بقيت على هذا الحال حتى سقطت دولتها، ثم ها هي تعود لتعمل على بناء دولتها من جديد. فالحدث المرتبط بظرف حصل هو دموية الأمة الإسلامية في خلافاتها، وهذا لا يؤخذ، والحقيقة التاريخية هي مسؤولية الأمة في نشر مبدئها، وهذه تؤخذ.
وهكذا فإن تكوين صورة تاريخية عن الأمم الفاعلة والأمم التي كانت أو يمكن أن تكون فاعلة أمر مهم عند السياسي، أكان يريد الاشتغال بالفهم السياسي أم برسم السياسات.
صفاتالشعوب
إن مبحث صفات الشعوب مبحث لازم للبحث السياسي، وكذلك لراسم السياسات المتعلقة بالشعب أو الأمة.
فإن السياسة التي يقررها القادة السياسيون في بلد ما ليست منفصلة عن خصال يحملونها، وهذه الخصال إنما نتجت من طبيعة الشعب الذي خرجوا منه؛ فاختيار الأهداف غير منفك عن صفات الشعوب؛ حيث إن الشعب المتطلع إلى السيادة على غيره يختار هدفاً له مغايراً عن هدف شعب لا يتطلع إلا إلى نفسه، وإن الشعب الذي يشعر بمسؤوليته عن غيره يتخذ أهدافاً سياسية غير تلك التي يتخذها شعب من طبعه الأثرة.
وصفات الشعوب تؤثّر في الخطط والأساليب التي تُسلك للوصول إلى الهدف، فإن الشعب الذي يأنف الظلم لا يسلك نفس السلوك الذي يسلكه الشعب الذي يألف الظلم، حتى لو كان الهدف الذي ذهب باتجاهه الشعبان واحداً.
وإن السياسة التي ترسمها الدولة الأولى في العالم المتعلقة بالشعوب والدول لا بد فيها من النظر إلى صفات الشعوب، فإن توسع الدولة الإسلامية في بلاد الشام وإفريقيا أخذ الطبيعة الحربية، بينما وصل الإسلام إلى إندونيسيا وانتشر فيها انتشاراً واسعاً حين دخلها التجار المسلمون، وعليه فإن سلوك الدولة أسلوباً واحداً لشعبين مختلفين دون النظر في طبائعهما لا يؤدي إلى نفس النتائج عندهما، بل قد يوصل إلى الإخفاق. وكذلك فرق بين الشعب الألماني والشعب الأفغاني، فأمريكا احتلت ألمانيا سنين طويلة فلم يضرب الألمان عليها حجراً، ولكنها حين احتلت أفغانستان لم يهدأ لها بال حتى انسحبت منها بعد عشرين عاماً بشكل مهين. فراسم السياسات لا بد له من النظر في صفات الشعوب حين رسم السياسات المتعلقة بهم. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا ذلك، فإنه لما جعلت قريش ترسل له المفاوضين يوم الحديبية، اتخذ لكل مفاوض أسلوباً يناسبه، فلما أرسلت قريش له الأحابيش كان على رأسهم الحليس بن علقمة الكناني سيد الأحابيش بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة وهم حلفاء قريش، فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا من قومٍ يتألّهون، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه»، فلما رأى الحليس بن علقمة الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى الرسولِ صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى، فقال لهم ذلك، فقالوا له: «اجلس، فإنَّما أنت أعرابيٌّ لا علمَ لك»، فغضب عند ذلك الحليس وقال: «يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيُصَدُّ عن بيت الله من جاء معظِّماً له؟ والذي نفس الحليس بيده، لَتُخَلُّنَّ بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرنَّ بالأحابيش نفرة رجلٍ واحد». [السيرة النبوية، ابن هشام]
وإن صفات الشعوب يمكن أن تدرَك من خلال تتبع تاريخها. وليس المقصود هو قراءة تاريخها التفصيلي، ولكن بالنظر في مفاصل تاريخها فذلك يكفي.
إذ لا بد من النظر في تاريخ نهضتها، وتاريخ كبوتها، وتعاملها مع أعدائها، كما ينظر في تعاملها مع الأزمات التي تلم بها، فيُتحصل من استقراء تلك المراحل صفات عامة لهذه الشعوب.
كما أن صفات الشعوب تدرَك من طبائع بلادها، فالشعوب التي تعيش في البلاد المفتوحة على البحار وطرق التجارة والنقل وصيد السمك تتكون فيها طبائع تناسب طبيعة بلادها ومهنتها العامة، ولذلك كان الإنجليز من أقدر الشعوب على التعامل مع الشعوب الأخرى والتواصل معها، وكانوا من أكثر الشعوب دهاء وخبثاً، بينما عاش العرب في بلاد قاسية الطباع، فهي بين الصحاري والجبال العالية، وكان عيشهم صعباً وأكلهم جافاً، وكانوا لا يبالون بالمشقة في عيشهم، بل إن سعة صحاريهم وسّعت آفاقهم فهداهم الله إلى التجارة خروجاً من ضيق عيشهم، فجمعوا بين القدرة على التواصل مع غيرهم وبين قوة بأسهم، وكانوا لا يألفون النفاق ولا يحبون الكذب، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن صفتهم حين خرج من مجلس بني شيبان حين طلب منهم النصرة فقال: (يا أبا بكر أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها بها يدفع الله عز وجل بأس بعضهم عن بعض، وبها يتحاجزون فيما بينهم) [دلائل النبوة، البيهقي]. فطباع البلاد ومهنتها العامة من أسباب الصفات الجمعية للشعب والتاريخ دليل عليها.
الاتفاقوالصراع
إن الجماعات تاريخياً والدول لاحقاً لم تعش كل واحدة منها منعزلة عن غيرها، فإن كان هذا الأمر غير وارد في الجماعات والدول تاريخياً، فإنه أحرى أن يدرك في هذه الأيام أن الدول لا يمكن أن تعيش منعزلة عن غيرها، خصوصاً تلك التي لديها دافع للتعامل مع غيرها.
وإننا نستثني من بحثنا هذا تلك القبائل والتجمعات التي ما زالت تعيش في مجاهل الغابات، مع أنها هي نفسها لا تنعزل عن محيطها من أمثالها من القبائل، حيث تخوض حروبها وتؤمن مصالح بعضها. ولكن استثناءها جاء من باب أنها لا تؤثر في الساحة الدولية مطلقا.
إن دول هذا العالم إما أن تكون مؤثرة أو تكون متأثرة، ولذلك فإن الجماعة التي تقرر اعتزال العالم لا بد أن تكون متأثرة بأطماع تلك الدول التي تقرر أن تكون مؤثرة.
وإن الدول في العالم إما أن تحتك بغيرها بدافع السيادة أو بدافع الاستعمار. ودافع السيادة يمكن أن ينطلق من حب سيادة العرق أو سيادة القوم أو سيادة المبدأ، فكلها تندرج تحت هذا الإطار. ودافع الاستعمار يندرج تحته كل استغلال لموارد الدول وثرواتها من خلال الاحتلال العسكري أو من خلال الاتفاقات السياسية أو الاقتصادية.
وإن هذين الدافعين يدفعان اللاعبِين على الساحة الدولية إلى الصراع أو الاتفاق. فدافع سيادة العرق كان أداة هتلر في حشد العرق الآري ليخوض حروباً للسيطرة على أوروبا، وإن كان قد تحرك باتجاه الدنمارك والنرويج لحماية شحنات الحديد التي تصله من السويد، إلا أن التوجه العام الذي أظهره كان مدفوعاً بتفوق عرقه، فكان هذا الدافع دافعاً باتجاه الصراع. وإن الدولة الإسلامية اجتاحت الأرض تفتح بلادها مدفوعة بسيادة المبدأ – وهو الإسلام- دون النظر في الثروات والموارد، فكان فتح مصر والشام مثل فتح البلاد الفقيرة في الجزيرة العربية سواء بسواء. وإن دافع السيادة لا يمكن أن يصطلح مع سيادة غيره، إلا صلحاً مؤقتاً، ليستأنف بعدها العمل لسيادة مبدئه أو عرقه أو قومه.
أما دافع الاستعمار فإنه دافع قبيح، يدفع القوي إلى أكل الضعيف بإذلاله، بل باستعباده، لاستخراج موارد بلده لصالح عدوه، ولذلك فإن الدول الرأسمالية الغربية جعلت الصراع لأجل الاستعمار مقدماً على كل دافع في الفترة التي استعمرت فيها العالم الإسلامي وإفريقيا.
فقد وصل الحال أن تستعمر فرنسا النيجر، وتشغل أطفال النيجر لاستخراج اليورانيوم من مناجم النيجر، ليُشحن اليورانيوم إلى فرنسا، لتشغل به مفاعلاتها النووية التي تضيء فرنسا بالكهرباء، وأهل النيجر يموتون في المناجم ولا يجدون ضوءاً إذا أظلم عليهم الليل. ودافع الاستعمار هو الذي دفع الملك البلجيكي ليوبولد الثاني الذي سيطر على جمهورية الكونغو الإفريقية إلى إهلاك عشرة ملايين إفريقي، فضلاً عن تجارة الرقيق التي كانت سلعة الأمس عن الأوروبيين.
إن الصراع يحصل بين أولئك الذين تدفعهم دوافع السيادة، فيصطرع البَلَدان صراعاً يكتسح حدودهما ويدفعهما إلى حالة الحرب الفعلية، حتى يخضع أحد الطرفين ويستسلم، ويسود الأقوى في الصراع على البلدين.
إلا أنه منذ أن تم تقديس الحدود الوطنية أصبح هذا النوع من الصراع مكروهاً دولياً، فلجأت الدول إلى الالتفاف على هذا التوجه الدولي من خلال الاستفتاءات الشعبية، فالنمسا كان التوجه الشعبي فيها للاتحاد مع ألمانيا قبل عملية آنشلوس لضم النمسا إلى ألمانيا، وإن روسيا شجعت الحركات الانفصالية في الشرق الأكراني، ثم اعترفت بالجمهوريات الانفصالية (دونيتسك ولوهانسك) ثم طلبت هذه الجمهوريات من روسيا الدفاع عنها ضد الاعتداء الأكراني عليها، فكان هذا الإخراج مهماً للروس حتى لا يظهروا بمظهر الخارج عن القانون الدولي.
كما أن الصراع يحصل بين أصحاب التوجه الواحد، وذلك من باب سيادة الدولة المعينة في مجموعتها وبالتالي في العالم، ومن باب الصراع على الثروات. فالدول الغربية الرأسمالية اصطرعت في بلاد المسلمين صراعاً عنيفاً، أدى إلى أن تسحب أمريكا البساط من تحت أرجل إنجلترا من مستعمراتها القديمة، من خلال اشعال المناطق وقتل العملاء، فهذه أمريكا أشعلت اليمن من خلال الضربات التي قادتها «السعودية» على اليمن عام ٢٠١٥؛ حتى توفر للحوثي الذي سار في ركاب الأمريكان في ذلك الوقت فرصة ليدخل إلى طاولة الحكم في اليمن، ويسحب البساط من تحت أرجل علي عبد الله صالح ومن خلفه بعد قتله.
وإن أمريكا أشعلت العراق لتنهي تبعيته لإنجلترا وتسيطر على ثرواته.
وفي المقابل فإن الدول التي تدفعها مصالحها إلى الصراع تدفعها مصالحها أيضا إلى الاتفاق، فإن أمريكا رأت في عام ١٩٦١ أن مصلحتها أن تدخل في مرحلة الوفاق مع الاتحاد السوفياتي، حتى تحد من طموح باقي الدول الكبرى، فلما استنفدت مصلحتها تركت الوفاق عام ١٩٧٩.
وإنه لا بد من ملاحظة الفرق بين الصراع المبني على العداء والصراع المبني على التنافس، فإن الدول الأوروبية حين تصطرع مع أمريكا فإن صراعها يكون من باب التنافس على مغانم العالم، حيث أن أوروبا ترى أنها وأمريكا لهما نفس القيم والتوجه الحضاري، وأن أمريكا إنما هي وليدة أوروبا، فهما جبهة واحدة، يتّحدون على غيرهم ويتنافسون بينهم. بينما لا يكون الصراع بين روسيا وأوروبا مدفوعاً بالتنافس، بل بالعداء، وهذا العداء تاريخي بين هاتين الجبهتين.
إن البحث في الصراع والاتفاق إنما يلزم في الدول الفاعلة في العالم، أو ما اتصل بها من قضايا، ويلزم في الأمم والشعوب التي تمتلك مقومات أن تكون دولاً كبرى، أما غيرها فلا يهم بحثها مطلقاً.
وإن الصراع والاتفاق تاريخياً دفع الدول إلى الاتفاق على أعراف، ومن ثم قوانين يحترمها الجميع، وكذلك دفع الدول إلى تشكيل الأحلاف وعقد المؤتمرات الدولية. [يتبع]
1447-03-09