الاستطاعةُ وأثرُها في وجوبِ إعلانِ قيامِ الدّولةِ الإسلاميّةِ وإقامة الشريعةِ، من العجزِ المانعِ إلى القدرةِ الـمُسقِطَةِ للعذرِ
6 ساعات مضت
المقالات
54 زيارة
دراسة في الفقهِ السياسيِّ لمرحلةِ انتقالِ الثورةِ السوريةِ إلى دولةٍ،
بين مبرراتِ العجزِ ومقتضياتِ الواجب
ثائر أحمد سلامة.
تعدُّ الاستطاعةُ – أي القدرةُ والإمكانُ – من المفاهيمِ المحوريةِ في الشريعةِ الإسلاميةِ، إذ يتوقفُ عليها التكليفُ الشرعي ومجالُ تطبيقِه. وقد قضى الله تعالى ألّا يكلِّفَ العبادَ إلا بما يقدرون عليه، فقال: ]لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ[، وأكدت السُّنَّةُ هذا الأصلَ في قولِه صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتُكم به فأتوا منه ما استطعتم». فالخطابُ الشرعيُّ مقيَّدٌ بالوسعِ والاستطاعةِ؛ فلا مؤاخذةَ على العاجزِ، ولا عذرَ للمستطيعِ المتقاعسِ.
وتتجلى أهميةُ هذا المفهومِ في جميعِ أبوابِ التكليفِ: من العباداتِ الفرديةِ والرخصِ الشرعيةِ، إلى المعاملاتِ، وصولًا إلى الواجباتِ الجماعيةِ الكبرى، كالجهادِ وإقامةِ الدولةِ. وهنا تبرز الإشكاليةُ: كيف نحددُ أن الاستطاعةَ موجودةٌ، ويترتبُ على ذلك وجوبُ الإقدامِ على إعلانِ الدولةِ بلا تأخيرٍ، أو أن نقولَ بوجودِ العذرِ، فما هو الواجبُ الشرعي وقتَها؟ يعني هل نعلنُها دولةً علمانيةً ونسلمُ زمامَ الأمورِ لأمريكا إذا كنا معذورين؟
في هذا البحثِ الاستقصائي سنحللُ دلالةَ الاستطاعةِ في القرآنِ والسنةِ، ونفرقُ بين استطاعةِ الفردِ واستطاعةِ الجماعةِ والدولةِ والأمةِ، لنقفَ على أثرِها في الفقهِ السياسيِّ وحكمِ إقامةِ الدولةِ وتطبيقِ الشريعةِ. وسنناقشُ نقدًا موضوعيًا لاستخدامِ العجزِ ذريعةً للقعودِ، مبينين أن الإسلامَ لا يطالبُ بالمستحيلِ، لكنه يأمرُ بالسعيِ لتحصيلِ القدرةِ الممكنةِ.
وعلى أرضِ الواقعِ، سنستعرضُ نموذجًا معاصرًا هو انتقالُ الثورةِ السوريةِ إلى كيانِ الدولةِ تحت حكمِ أحمد الشرع، في ظرفٍ أنهكته سنواتُ الصراعِ الطويلِ، وهدمُ المدنِ، وتوارثُ الاستبدادِ، ثم جاءت ضرباتُ الكيانِ الصهيوني لمخازنِ الأسلحةِ والصناعاتِ الحربيةِ لحرمانِ القيادةِ من مقوماتِ القوةِ. ورغم ذلك، برز أثرٌ إيجابي بالغُ الأهميةِ، تَمثَّل في التفافِ الجماهيرِ حول مشروعِ التغييرِ وحرصِهم على ألّا تعودَ الأمورُ إلى سابقِ عهدِها، ما منح الدولةَ رصيدًا شعبيًا هائلًا يصعبُ معه اختراقُها أو إسقاطُها بالمؤامراتِ.
هذا التباينُ بين الضغوطِ الماديةِ الخانقةِ والدعمِ الشعبي اللامحدودِ يكشفُ أن الاستطاعةَ ليست مجردَ قدرةٍ ماديةٍ، بل هي – في جوهرِها – ثمرةُ وعيٍ جماعيٍّ وعقيدةٍ تجمع الصفوفَ، وتصنعُ للدولةِ مناعتها من الداخلِ قبل الخارجِ.
ينبغي في دراسةِ مسألةِ الاستطاعةِ عدمُ اختزالِها في القدرةِ الفرديةِ أو حصرِها في القوةِ العسكريةِ الماديةِ، وكأن الفردَ المكلَّفَ هو من سيخوضُ حربًا مع قوةٍ عظمى! أو كأن الخصمَ لن يتعاملَ مع الدولةِ الناشئةِ إلا بحربٍ شاملةٍ. فالاستطاعةُ التي يُعتدُّ بها شرعًا أوسعُ أفقًا، إذ تشملُ النظرَ في مجموعِ عناصرِ القوةِ التي تملكُها الأمةُ أو الدولةُ، وفي طبيعةِ الصراعِ وأشكالِه، وفي احتمالاتِ الردودِ وسيناريوهاتِها.
وثيقةُ المفاهيمِ التأسيسيةِ في منهجِ إقامةِ الدولةِ الإسلاميةِ:
مدخل
إنَّ إقامةَ الدولةِ الإسلاميةِ ليست عملًا ارتجاليًّا ولا خطوةً تجريبيةً تُتَّخذُ تحت تأثيرِ الانفعالاتِ السياسيةِ أو الموجاتِ الثوريةِ، بل هي عمليةٌ شرعيةٌ مركبةٌ، تخضعُ لسننٍ مجتمعيةٍ ثابتةٍ وقوانينَ تاريخيةٍ مطَّردةٍ، كما تخضعُ في الوقتِ نفسه لأحكامٍ قطعيةٍ في الشريعةِ لا يجوزُ تجاوزُها ولا التحايلُ عليها. وإنَّ كلَّ تجربةٍ تُقصي هذه السننَ أو تُهملُ تلك الأحكامَ مصيرُها إلى الإخفاقِ أو الانحرافِ عن غايتِها، ولو حققت إسقاطًا لسلطةٍ أو نظامٍ قائمٍ.
المفهومُ الأوّل: سننُ التغييرِ المجتمعيِّ وأثرُها في بناءِ الدولةِ
لقد دلَّ الاستقراءُ التاريخيُّ والشرعيُّ على أنَّ تغييرَ المجتمعاتِ وأنظمةِ الحكمِ يخضعُ لسننٍمجتمعيةٍ ثابتةٍ، لا تتبدلُ ولا تتحولُ، قال تعالى: ]وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗا[ [الأحزاب: 62]. وهذه السننُ لا تعملُ خبطَ عشواء، بل وفقَ قواعدَ موضوعيةٍ؛ منها: أنَّ الدولةَ الناشئةَ تكونُ امتدادًا طبيعيًّا للكيانِ المجتمعي الذي نشأت فيه، وأنَّ السلطةَ فيها تعكسُ سلطانَ الأمةِ وقناعاتِها وأفكارَها ومقاييسَها. وكذلك تراعي السننُ دراسةَ واقعِ المجتمعاتِ على حقيقتِها الفعليةِ، لدراسةِ تفاعلِها مع الدعوةِ.
فمثلًا: تلك المجتمعاتُ التي صنعَ الكافرُ المستعمرُ ثقافتَها وعلاقاتِها على عينِه عبرَ عشراتِ السنين، وجعلَ مواضعَ التحكمِ في السلطةِ فيها في مكامنَ معينةٍ، وفيها أفكارٌ معينةٌ، تحتاجُ صراعًا فكريًّا معينًا، فتعالجُ بما يلزمُ من أفكارٍ ووسائلَ وأساليبَ، كلُّ هذا يفضي إلى نشوءٍ طبيعي للدولةِ بسندٍ مجتمعي قويٍّ. ومن هنا، فإنَّ أيَّ التفافٍ على هذه السننِ، كالوصولِ إلى الحكمِ عبرَ انقلابٍ عسكري أو تدخّلٍ أجنبي، أو دونَ إعدادٍ مجتمعي فكري وعَقَدي، سيُنتجُ دولةً هزيلةَ البنيانِ، آيلةً للسقوطِ، لا تقومُ أركانُها إلا بقوةِ العسكرِ أو المحتلِّ. وهذه الدولةُ لن تستطيعَ الصمودَ أمامَ الحصارِ أو الحربِ أو صعوبةِ العيشِ إلا بتنازلاتٍ جذريةٍ تمسُّ جوهرَ هويتِها، وتفقدُها القدرةَ على التحولِ إلى دولةٍ إسلاميةٍ في المستقبلِ.
المفهومُ الثاني: لا مساومةَ على قضيةِ الحكمِ، وحرمةُ الحكمِ بغيرِ ما أنزلَ الله أحكامُ الشريعةِ القطعيةُ في بابِ الحكمِ والسياسةِ الموجبةُ لتحكيمِ شرعِ الله حصرًا وقصرًا، لا تَقبلُ التدرجَ ولا المساومةَ، ولا انتقاءَ بعضِها دونَ بعضٍ، وهي مُلزِمةٌ؛ حيث إن الحكمَ بغيرِ ما أنزلَ الله محرَّمٌ في الإسلامِ تحريمًا قطعيًّا.
وقد جعله الله تعالى في ثلاثِ آياتٍ متوالياتٍ من سورةِ المائدةِ من خصالِ الكافرينَ والظالمينَ والفاسقينَ بحسبِ حالِ الفاعلِ، قال تعالى: ]وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ[ [المائدة: 44]، ]… فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ[ [المائدة: 45]، ]… فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ[ [المائدة: 47]. فهذه نصوصٌ قاطعةٌ في ذمِّ مَنْ يحكمُ بغيرِ شرعِ الله، أو يرضى به، أو يُبدّلُه.
والأخطرُ من ذلك ما وردَ في قوله تعالى: ]أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدٗا٦٠[ [النساء: 60]، وجهُ الدلالةِ: هذه الآيةُ تقطعُ بأن مجردَ إرادةِ التحاكمِ إلى الطاغوت – أي إلى غيرِ شريعةِ الله – تنقضُ دعوى الإيمانِ، فجعلَ الله إيمانَهم مجردَ «زعمٍ»، لأن إرادةَ التحاكمِ إلى غيرِ ما أنزلَ الله تنقضُ أصلَ الانقيادِ للشرعِ، فكيف بمن يريدُ أن يجعلَ الطاغوتَ دستورَ دولةٍ وأنظمةَ حكمٍ؟! إن هذا الفعلَ أبعدُ عن الإيمانِ وأبعدُ!
بل إن الله تعالى سمّى سائر القوانينَ المغايرة لشريعتِه «حكمَ الجاهليةِ» فقال: ]أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ٥٠[ [المائدة: 50]. وجهُ الدلالةِ: أن كلَّ تشريعٍ غيرِ مستندٍ إلى وحيِ الله يُعدّ من حكمِ الجاهليةِ، والمشاركةُ في المنظومةِ السياسيةِ التي تُنتجُ هذا الحكمَ وتُمكّنُ له هي مشاركةٌ في تعظيمِه وقبولِه، بينما المؤمنُ مأمورٌ برفضِه والكفرِ به.
وقد ربطَ الله بين الإيمانِ والتحاكمِ إلى شرعِه وحدَه، فقال: ]فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا٦٥[ [النساء: 65]. وجهُ الدلالةِ: أن الإيمانَ الحقيقيَّ لا يكمل إلا بتحكيمِ الرسول صلى الله عليه وسلم، أي سنتِه وشريعتِه، وأن تحكيمُ غيرِه يناقضُ أصلَ الإيمانِ.
إنَّ القولَ بجوازِ التدرجِ في تطبيقِ الشريعةِ بعد قيامِ الدولةِ أو تولي الحكمِ، معناه في الحقيقةِ القبولُ المؤقتُ بالحكمِ بغيرِ ما أنزلَ الله، وهذا محرَّمٌ بنصوصٍ قطعيةٍ لا تحتملُ التأويلَ، وهي نصوصٌ مطلقةٌ غيرُ مقيدةٍ بزمانٍ أو ظرفٍ أو مصلحةٍ سياسيةٍ. وما استدلَّ به بعضُهم من تدرجِ الشريعةِ في تحريمِ الخمرِ أو غيرِه إنما كان في مرحلةِ نزولِ الوحيِ قبلَ اكتمالِ الدينِ، أما وقد أكملَ اللهُ الدينَ بوفاةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإنَّ كلَّ حكمٍ من أحكامِه واجبُ النفاذِ من أولِ يومٍ، دونَ تأخيرٍ أو تعطيلٍ.
وقد أجمعَ الصحابةُ على تطبيقِ الإسلامِ كاملًا ودفعةً واحدةً في الأمصارِ التي فتحوها دونَ أيِّ تدرجٍ أو إبقاءٍ على أحكامِ الجاهليةِ أو بعضِها. كما أن إبقاءَ التشريعاتِ الباطلةِ مؤقتًا بذريعةِ التدرجِ يرسخُها في وعيِ الناسِ ويطيلُ أمدَها، ويفقدُ الأمةَ الحافزَ للتغييرِ، ويجعلُ المؤقتَ دائمًا. وليس في الإسلامِ مصلحةٌ حقيقيةٌ تخالفُ نصًّا قطعيًّا، بل المصلحةُ الشرعيةُ هي عينُ ما حكمَ به اللهُ ورسولُه.
ولقد ضربَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المثلَ الأعلى في رفضِ أيِّ حكمٍ مقيَّدٍ بغيرِ الشريعةِ، حيث عُرِضَ عليه صلى الله عليه وسلم أن يحكمَ في مكةَ، وأن يُمكَّنَ من بعضِ السلطةِ مقابلَ التنازلِ عن بعضِ الدعوةِ أو إرجاءِ بعضِ الأحكامِ، أو بشرطِ إبقاءِ بعضِ شعائرِ الشركِ، فرفضَ ذلك رفضًا قاطعًا، ونزلت سورةٌ كاملةٌ بمثابةِ دستورٍ متعلقٍ بهذا الشأنِ إلى يومِ القيامةِ لرفضِ الحكمِ بغيرِ ما أنزلَ الله، مهما كان الإغراءُ أو الثمنُ: ]قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ ١ لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ ٢ وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ ٣ وَلَآ أَنَا۠ عَابِدٞ مَّا عَبَدتُّمۡ٤وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ ٥ لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ ٦[، إعلانًا بالمفاصلةِ التامةِ والنهائيةِ بين الإيمانِ والشريعةِ والنظامِ، وبين عقائدِ الكفرِ وشرائعِه وأنظمتِه، وحسمَ الأمرَ بقوله في ختامِها: ]لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ٦[، إعلانًا ]قُلۡ[ بحظرِ الحكمِ بغيرِ ما أنزلَ الله، وبحظرِ المساومةِ على ذلك.
ورغمَ أن أوضاعَ المؤمنينَ وقتَها كانت بالغةَ الصعوبةِ يُسامونَ العذابَ الشديدَ صباحَ مساءَ من قبلِ الكفارِ، فإن أحكامَ القدرةِ والوسعِ تتعلقُ بالأفعالِ المطلوبةِ شرعًا، وليست مرتبطةً بالأفعالِ المنهيِّ عنها شرعًا؛ فالمنهيُّ عنه لا يتأتى فيه القولُ بعدمِ الوسعِ أو القدرةِ. وقد جاء في الحديثِ الذي أخرجه البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي هريرةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتُكم به فأتوا منه ما استطعتم»، وفي حديثٍ آخرَ قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتُكم عن شيءٍ فاجتنبوه». فجعلَ الامتثالَ للأمر مربوطًا بالقدرةِ، بخلافِ النهيِ فيجبُ تركُ المنهيِّ عنه مطلقًا.
وفي هذا دلالةٌ واضحةٌ على تهافتِ كلِّ تبريراتِ الحكمِ بغيرِ ما أنزلَ الله، ولو في مسألةٍ واحدةٍ؛ فتركُ المحرمِ يقعُ ضمنِ الاستطاعةِ، بل إن الشارعَ لم يربطِ التركَ بالاستطاعةِ أصلًا، وقد ثبتَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وصحابتُه في أوضاعٍ أشدَّ صعوبةً، ولم يقتحموا الحرامَ بذريعة الضرورةِ أو عدمِ الاستطاعةِ.
كما رفضَ صلى الله عليه وسلم نصرةَ بني شيبانَ لما اشترطوا عليه شرطًا يتنافى مع عمومِ تبليغِ الدعوةِ وإقامةِ الدينِ على جميعِ جوانبِه، وتقييدِ الدعوةِ بالعربِ دونَ الفرسِ. فدلَّ ذلك على أن قبولَ الحكمِ المقيَّدِ بالقوانينِ الوضعيةِ باطلٌ، ولو زُعمَ أنه خطوةٌ أولى نحوَ التغييرِ، إذ هو في الحقيقةِ تثبيتٌ للباطلِ وتضييعٌ لحقِّ اللهِ في الحاكميةِ.
وإن الادعاءَ بأن التدرجَ يعني تطبيقَ بعضِ الأحكامِ اليومَ وبعضِها بعدَ حينٍ، يتضمنُ تبريرَ تطبيقِ البعضِ الآخرِ من أحكامِ الكفرِ تدرجًا، أي تجميلًا للباطلِ وتثبيطًا للنفوسِ عن الأنفةِ من تطبيقِه بحجةِ أنه مؤقتٌ، وما هو كذلك. علاوةً على أنهم لا يطبقونَ أصلًا من الإسلامِ إلا بعضَ أحكامِ الأحوالِ الشخصيةِ، وهذا التطبيقُ امتدادٌ لمحاولات الغرب الحثيثة لوضع الغالبية الساحقة من الأحكام في يد «المحاكم النظامية» التي تحكم بالقوانين الوضعية، وحصر للقضاء الشرعي في دائرة الأحوال الشخصية، وينتج من ذلك حتمية لجوء المسلمين إلى المحاكم النظامية التي تستند إلى القوانين الوضعية في حل نزاعاتهم، ويمنعهم من حلها على أساس الإسلام، الأمر الذي يكرس سيادة القانون الوضعي في البلاد الإسلامية، وفيه أيضا إهدار لأصل عَقَدي جوهري يوجب التحاكم إلى شرع الله ويرفض التحاكم إلى الطاغوت. والإقرار بسلطة المحاكم الوضعية الفاصلة في الخصومات هو إقرار بشرعيتها الفوقية في تنظيم حياة المسلمين.
وهذا أصلٌ عظيمٌ في أنَّ التنازلاتِ العقديةَ أو التشريعيةَ لا تجوزُ بحالٍ، ولو ترتبَ على رفضِها تأخرُ قيامِ الدولةِ أو مشقةُ الطريقِ إليها. وقد روّجت بعضُ الحركاتِ الإسلاميةِ شعارَ التدرجِ منذ أكثرَ من خمسينَ سنة، وما رأينا إلا تدرجًا نحوَ قبولِ الجاهليةِ وأحكامِها، وانسلاخًا من الإسلامِ وأحكامِه بذرائع الواقعِ الصعبِ، والحكمةِ والتروي، ولم نرَ أيَّ خطوةٍ بالاتجاهِ المقابلِ تُثمرُ أيَّ ثمرةٍ باتجاهِ تحكيمِ الشريعةِ.
المفهومُ الثالث: طريقةُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم في التغييرِ فريضةٌ لا خيارٌ
عقب إسقاط النظام في مصر، وجدنا افتقار جماعة الإخوان لدعائم تظهر جاهزيتها لتحكيم الشريعة، ما اضطرها إلى الوقوع في مأزق ضغط إعلامي يطالبها بالتأكيد على أنها لا تريد أن تحكم بالشريعة، وكذلك رأينا منحى حركة النهضة في تونس، إذ فصلت الإسلام السياسي عن الدعوي، بحسب تعبيرهم، وركزوا -إذ شاركوا في الحكم- على دولة وطنية ديمقراطية، ورفضوا أي توجه نحو الخلافة أو تطبيق الشريعة، وهذه المحطات المفصلية في التاريخ المعاصر تبين لنا أن القفز عن منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في التغيير يضع الحركات في مهب ريح عاصف يحرفها عن أن تكون ولادة الدولة ونشأتها طبيعية حتمية، لها امتدادها وثقلها المجتمعي.
إنَّ المنهجَ النبويَّ في التغييرِ – الذي يبدأُ بالتثقيفِ وبناءِ الكتلةِ الطليعية التغيرية، ثم بالصراعِ الفكريِّ والكفاحِ السياسيِّ، لإيجادِ رأيٍ عامٍّ للإسلامِ في المجتمعِ، ولا بد من أن يسري تغير الرأي العام على ما يكفي من مكامنِ السلطةِ في المجتمع لتتولى نصرة المشروع السياسي الإسلامي لإقامةِ الدولةِ. وهذه خطوات ضرورية في التغيير يمكنُ استنباطُها مباشرةً من القرآنِ والسنةِ، ليس مجردَ خيارٍ تكتيكيٍّ، بل هي فرائض شرعيةٌ تُستقى من نصوصِ القرآنِ الكريمِ التي أحاطت بتفاصيلِ أعمالِ التغييرِ بدقةٍ متناهيةٍ، فذكرت تفاصيلَ الصراعِ الفكريِّ، وغذته بمحكمِ التنزيلِ، وهي تديرُ دفةَ الصراعِ بين الحقِّ والباطلِ في مكةَ وتوجهه، ونزلت بآياتٍ عظامٍ كانت مادةَ الصراع الفكري والكفاحِ السياسيِّ، وأمرت الرسولَ صلى الله عليه وسلم بطلبِ السلطانِ النصيرِ، وبيانَ قولِ اللهِ تعالى واصفًا طريقةَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم (سبيله) بأنها على بصيرةٍ واضحةٍ، لا يحيدُ عنها، هو ومَنْ اتبعه، ]قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٠٨[ [يوسف 108]، فهذه الآيةُ تفيدُ بدلالةِ الإشارةِ عدمَ جوازِ مخالفةِ طريقتِه صلى الله عليه وسلم في الدعوةِ ] هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ[]أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ[. وبالتالي فإننا إن لم نتبعْ طريقتَه صلى الله عليه وسلم في دعوتِه وإيجادِ دولتِه نكون قد خالفناها وتعدَّيناها إلى غيرِها. وتُستقى أحكامُ الطريقةِ أيضًا من السنةِ التي يجلي استنباطُ أحكامِها أصوليًّا منعَ تجاوزِ هذه الأعمالِ، ومن السيرةِ التي نقلت لنا إصرارَ الرسولِ صلى الله عليه وسلمعلى تلك الأعمالِ بعينِها ورفضَ بدائلِها رغم المشقةِ. واتباع هذا المنهج ضمين بقيام الدولة على قاعدة شعبيةٍ واعيةٍ، لا تكون عرضةً للاختراقِ أو الانهيارِ عند أولِ أزمةٍ. وقد كان لاعتماد حزب التحرير منهج التغيير هذا أثر كبير في إيجاد الرأي العام التواق إلى الدولة الإسلامية في العالم الإسلامي، ولا سيما في بلاد الشام، علاوة على الإيمان الطبيعي لدى المسلمين في الشام بضرورة تطبيق الشريعة، فالأصل البناء على ذلك كله، واستثمار وجود قاعدة شعبية لتطبيق الشريعة، لا أن يقام حكم علماني جديد بعد سقوط نظام الكفر والبعث، بزعم أن الرأي العام في سوريا وغيرها ليس مُهَيَّأً للحكم بالإسلام.
المفهومُ الرابع: ضرورةُ الإعدادِ الماديِّ والسياسيِّ لمواجهةِ الحصارِ والهيمنةِ
لقد أثبتَ الواقع المعاصر أن القوى الاستعماريةَ تحاصرُ أيَّ كيانٍ مستقلٍّ اقتصاديًّا وسياسيًّا منذ لحظةِ نشأتِه، حتى تُرغمه على الدخولِ في منظومتِها. وأيُّ دولةٍ إسلاميةٍ ناشئةٍ لا تمتلك خططًا واضحةً لتأمينِ مواردِها، وحمايةِ بنيتِها التحتيةِ، والسيطرةِ على مواردِ الطاقةِ والنقلِ، ستقعُ فريسةً للقروضِ المشروطةِ، والاتفاقياتِ المقيِّدةِ، والتبعيةِ الثقافيةِ والتعليميةِ.
المفهومُ الخامس: إسقاطُ النظامِ لا يكفي دونَ بديلٍ مكتملٍ
إسقاطُ الحاكمِ أو النظامِ لا يُعدُّ نصرًا حقيقيًّا إن لم يكن هناك بديلٌ شرعيٌّ متكاملٌ جاهزٌ للتطبيقِ من اليومِ الأولِ، بدستورٍ وأنظمةِ حكمٍ واقتصادٍ وسياسةٍ مبنيةٍ على الشريعةِ. وإلا فإن الفراغَ سيملؤه إما نظامٌ استبداديٌّ جديدٌ، أو وصايةٌ دوليةٌ، أو إعادةُ إنتاجٍ للنظامِ السابقِ بوجوهٍ جديدةٍ. وقد أثبتَ النظامُ العلمانيُّ الرأسماليُّ القديمُ فشلَه في رعايةِ شؤونِ الأمةِ، وأورثَها ضنكَ العيشِ، وفشلَ أنظمتِه الاقتصاديةِ والقضائيةِ والعقوباتِ وغيرها، وأثبتَ ارتباطَه بالمنظومةِ الاستعماريةِ العالميةِ، وبالتالي فإن اجترارَه بوجوهٍ جديدةٍ لن يغيرَ من الواقعِ إلا لمساتٍ شكليةً لا أثرَ لها على الحقيقةِ، ولا يقربَها من تطبيقِ الشريعةِ قيدَ أنملةٍ.
المفهومُ السادس: «الاستطاعةُ الناقصةُ» وأثرُها في تكريسِ الخطأِ
حين تصلُ حركةٌ إسلاميةٌ إلى الحكمِ دون أن تمتلكَ القدرةَ الكاملةَ على تطبيقِ الشريعةِ – لغيابِ الإعدادِ أو الخططِ الإستراتيجية المتعلقةِ بمواجهةِ محاولاتِ الإحباطِ، أو عدم الاهتمام بتفعيل الرأيِ العامِّ المساندِ لضمانةِ التلاحمِ بين القيادةِ وبين الأمةِ، أو إهمال تحضيرِ الامتدادِ الطبيعيِّ في الأمةِ كلها عبر القيامِ بأعمالِ الدعوةِ والتغييرِ في كل البلادِ الإسلاميةِ، وتهيئةِ الرأيِ العامِّ فيها لنصرةِ الخلافةِ حين قيامِها، وإيجادِ خطةٍ عمليةٍ سليمةٍ لتفعيلِ ذلك التأييدِ بما يضغطُ على الدولِ الاستعماريةِ التي تحاول إحباطَ قيامِ الدولةِ ضغطًا يخضعُها – فإنها تقعُ في فخِّ «الاستطاعةِ الناقصةِ» التي تبررُ الاستمرارَ في الحكمِ بالعلمانيةِ بحجةِ الضرورةِ أو التدرجِ، وهو في الحقيقةِ نقلٌ للأمةِ من خطأٍ إلى خطأٍ أكبرَ، وتأجيلٌ غيرُ مبررٍ لإقامةِ حكمِ الله، ويتحملُ القائمونَ عليه مسؤوليةَ الكوارثِ التي تنتجُ عن عدمِ تطبيقِ الإسلامِ في الحياةِ وإفرازاتِها على المجتمعِ، بوصفِهم السلطةَ الحاكمةَ. وإن عدمَ حكمِهم بالإسلامِ يقتضي بالضرورةِ قيامَهم بتشريعِ دستورٍ وأنظمةٍ علمانيةٍ في الدولةِ، وهذا بالضرورةِ يعني أنهم اتخذوا أنفسَهم أو من شرّعوا هذه القوانين أربابًا من دونِ الله، فشاركوه في خاصيةِ الحاكميةِ.
ولا يجوزُ شرعًا التذرعُ بأوضاعٍ محليةٍ أو دوليةٍ أو بالاضطرارِ أو بعدمِ القدرةِ لتبريرِ الدعوةِ إلى الكفرِ أو تطبيقِ الكفرِ وأنظمتِه. فهذا من أعظمِ المحرماتِ، وأعظمُ منه حرمةً الافتراءُ على الإسلامِ بزعمِ وجودِ رخصةٍ بتطبيقِ الكفرِ بسببِ الاضطرارِ أو عدمِ القدرةِ. فأيُّ اضطرارٍ هنا؟ كيف نفهمُ اضطرارَ مَنْ «استطاع» إنهاءَ حكمٍ استبداديٍّ استمرَّ عقودًا، بقدراتٍ وطاقاتٍ هزمَ بها جيشَ ذلك النظامِ، وفصائلَ وقواتِ قبائلَ بمئاتِ الآلافِ، بعد أن كان خارجَ النظامِ، وإذْ به يصلُ لسدةِ الحكمِ، فيتفاجأُ بأنه غيرُ قادرٍ، وعاجزٌ عن تطبيقِ الإسلامِ، ويعلنُ أنه «مضطرٌّ لتطبيقِ الكفرِ» ويسنُّ التشريعاتِ بناءً عليه، ويكونُ مخرجُه من وضعِ «العجزِ» إلى وضعِ «التمكينِ» أن يستعينَ بأعداءِ الأمةِ لينالَ منهم شهادةَ حسنِ سلوكٍ يرضونَ بها عنه، ويقبلونه!
معنى «الاضطرار»: قال ابنُ عابدين في «حاشيته» (5/45): «المرادُ بالاضطرارِ: أن يخافَ هلاكَ نفسِه أو عضوٍ منه إذا لم يرتكبِ المحظورَ». وأيضًا اشتراطُ «عدمِ المخرجِ»: قال القرافي في «أنوار البروق» (4/200): «لا يجوزُ ارتكابُ أخفِّ الضررينِ إلا إذا تعذرَ الخروجُ من الضررِ بالكليةِ، فلو أمكنَ الخلاصُ من الضررينِ معًا، لم يجزْ ارتكابُ شيءٍ منهما». وقد قررَ جمهورُ الفقهاءِ أن الضررَ لا يُزالُ بضررٍ مثلِه أو أشدَّ منه. وأيُّ ضررٍ أشدُّ من إلباسِ الحكمِ بالكفرِ ثوبَ المشروعيةِ، ونقلِه من «فرضٍ خارجي» مفروضٍ بالقوةِ على المجتمعِ، إلى «خيارٍ داخلي» بعد إلباسِه ثوبَ الشرعيةِ، وتزيينِه للناسِ الذين خرجوا لحربِه قبلَ ذلك!
ولا يكونُ الاضطرارُ الشرعي «مجتمعيًّا» بل هو اضطرارٌ فرديٌّ كأكلِ الميتةِ. قال الإمامُ الشاطبي: «الضروراتُ لا تبيحُ المحظوراتِ إلا بقدرِها»، وقال: «ولا يجوزُ أن تتحولَ الرخصةُ إلى أصلٍ دائمٍ”.
المفهومُ السابع: الرأيُ العامُّ الواعي ضمانةُ استقرارِ الدولةِ الإسلاميةِ
الدولةُ التي تنشأُ على قاعدةٍ من الحماسِ الشعبيِّ المؤقتِ، دون ترسيخِ الأفكارِ والمفاهيمِ الإسلاميةِ في الأمةِ، ستفقدُ شرعيتَها السياسيةَ والدينيةَ بسرعةٍ، وستعتمدُ على الأجهزةِ القسريةِ بدلًا من التفاعلِ الواعي بين القيادةِ والأمةِ. أي إنها ستعتمدُ على القوانينِ لفرضِ التغييرِ، وهذا يُضعفُ تماسكَها الداخليَّ ويجعلُها أكثرَ عرضةً للاختراقِ، إذ إن منهجَ الإسلامِ يقومُ على تغييرِ القناعاتِ أصلًا، ليكونَ منبعُ التغييرِ من الأمةِ.
المفهومُ الثامن: إعادةُ إنتاجِ الاستعمارِ من داخلِ القيادةِ الجديدةِ
حين تفتقرُ القيادةُ الجديدةُ للرؤيةِ والخطةِ، تستدرجُها القوى الكبرى للدخولِ في منظومتِها الدوليةِ، فتوقعُها في اتفاقياتٍ وقروضٍ ملغومةٍ، وتربطُ اقتصادَها وبنيتَها التحتيةَ بمصالحِ الغربِ، وتفرضُ عليها سياساتٍ أمنيةً وثقافيةً متعارضةً مع الإسلامِ، فيتحولُ «النصرُ» الظاهريُّ إلى سلسلةِ تنازلاتٍ إستراتيجية تُفرغُ التغييرَ من مضمونهِ.
الخاتمة: إن أيَّ مشروعٍ لإقامةِ الدولةِ الإسلاميةِ لا يُبنى على فهمِ هذه المفاهيمِ والتسليمِ بلزومِها الشرعيِّ والسَنني، سيظلُّ مشروعًا هشّا مهما بدا قويًّا في لحظةِ اندفاعِه الأولى. وإن التمسكَ بطريقةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، والتزامَ التحضيرِ الفكريِّ والمجتمعيِّ والماديِّ، ورفضَ أيِّ مساومةٍ على الحكمِ بالشريعةِ، هي الضماناتُ الوحيدةُ لقيامِ دولةٍ راسخةِ الأركانِ، عصيةٍ على الهيمنةِ، قادرةٍ على حملِ رسالتِها في العالمِ.
1447-03-09