حاجة المؤمن للتثبيت
8 ساعات مضت
المقالات
38 زيارة
خليفة محمد- الأردن
قال تعالى:
(يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ٢٧ ) (سورة إبراهيم/ 27).
تضمّنت الآية الكريمة ثلاث جمل، ومن المعلوم في اللغة العربية أنّ الجملة هي الحدّ من الكلمات الذي يتضمّن معنى، ويُعبّر بها عن معنى، أي يُعبّر بها عن فكرة، والفكرة حكمٌ على واقع، وتصبح الفكرة مفهوماً عند الإنسان إذا أدرك واقع الفكرة وصدّقه، فالآية فيها ثلاثة مفاهيم مطلوب من المسلم أن يتبنّاها، هي: تثبيت الله سبحانه وتعالى للمؤمنين بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وإضلال الله سبحانه للظالمين، وأنّ الله عزّ وجل يفعل ما يشاء.
وعن المفهوم الأول في الجملة الأولى يقول ابن عاشور: «وَالْقَوْلُ: الْكَلَامُ. وَالثَّابِتُ الصَّادِقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ. وَالْمُرَادُ بِهِ أَقْوَالُ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا صَادِقَةُ الْمَعَانِي وَاضِحَةُ الدَّلِيلِ، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلِ لِاسْتِغْرَاقِ الْأَقْوَالِ الثَّابِتَةِ. وَالْبَاءُ فِي بِالْقَوْلِ لِلسَّبَبِيَّةِ. وَمَعْنَى تَثْبِيتِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهَا أَنَّ الله يسر لَهُم فيهم الْأَقْوَالِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى وَجْهِهَا وَإِدْرَاكَ دَلَائِلِهَا حَتَّى اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهَا قُلُوبُهُمْ وَلَمْ يُخَامِرْهُمْ فِيهَا شَكٌّ فَأَصْبَحُوا ثَابِتِينَ فِي إِيمَانِهِمْ غير مزعزعين وعاملين بِهَا غَيْرَ مُتَرَدِّدِينَ. وَذَلِكَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَبِإِلْفَائِهِمُ الْأَحْوَالَ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا عَلِمُوهُ فِي الدُّنْيَا، فَلَمْ تَعْتَرِهِمْ نَدَامَةٌ وَلَا لَهَفٌ»، ولا تخفى على كلّ ذي بصيرة ضرورةُ الثبات للمؤمن في الدنيا وفي القبر وفي يوم الحساب، وحاجته إلى تثبيت الله تعالى إياه، ذلك أنّ الدنيا دار ابتلاء وفتنة، يقول الحق سبحانه وتعالى: (وَنَبۡلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلۡخَيۡرِ فِتۡنَةٗۖ وَإِلَيۡنَا تُرۡجَعُونَ) (سورة الأنبياء/35)، ويقول سبحانه: (أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ٢) (سورة الروم/2)، وكل مؤمن مُعرَّض للفتنة بين الحين والآخر، وبمختلف أنواع الفتن، يؤكد ذلك الحديثُ الذي ورد في صحيح الجامع ورواه حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تُعرَضُ الفِتَنُ على القُلوبِ عَرْضَ الحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قلبٍ أُشْرِبَها نُكِتَتْ فيه نُكتةٌ سَوداءُ، وأيُّ قلبٍ أنْكَرَها نُكِتَتْ فيه نُكتةٌ بيضاءُ، حتى يصِيرَ القلبُ أبيضَ مثلَ الصَّفا، لا تَضُرُّه فِتنةٌ ما دامَتِ السمواتُ والأرضُ، والآخَرُ أسودَ مُربَدًّا كالكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعرِفُ مَعروفًا، ولا يُنكِرُ مُنكَرًا، إلا ما أُشْرِبَ من هَواه»، حتى إنّه سبحانه وتعالى يمنّ على رسوله صلى الله عليه وسلم بأنّه قد ثبّته حتى لا يركَن إلى الكفار، فقال سبحانه: (وَلَوۡلَآ أَن ثَبَّتۡنَٰكَ لَقَدۡ كِدتَّ تَرۡكَنُ إِلَيۡهِمۡ شَيۡٔٗا قَلِيلًا ٧٤) (سورة الإسراء/74).
والقول الثابت يشمل كلمة التوحيد )لا إله إلا الله) كما قال ابن عباس، ويشمل أقوال القرآن كما قال ابن عاشور، ويشمل كلّ ما انبثق من العقيدة الإسلامية وكلّ ما بُنيَ عليها، لأنها مقياس المسلم لكلّ قول ولكلّ فعل. ووصف القول بالثابت فيه دلالة على الرسوخ، وفيه دلالة على الاستمرار على ذلك القول؛ ليُنتِجَ الاستقامةَ التي أمرَ الله سبحانه وتعالى رسولَه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بقوله تعالى:(فَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ) (سورة هود/112). والتثبيت من الله سبحانه وتعالى للذين آمنوا واقعٌ في الحياة الدنيا، وواقع في الآخرة.
أما المفهوم الثاني في الآية – وهو إضلال الله الظالمين – فيقول عنه ابن عاشور: «وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ، أَيِ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ يَجْعَلُهُمْ فِي حَيْرَةٍ وَعِمَايَةٍ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ. وَالضَّلَالُ: اضْطِرَابٌ وَارْتِبَاكٌ، وَالظَّالِمُونَ: الْمُشْرِكُونَ، قَالَ تَعَالَى:(إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيمٞ)(سُورَة لُقْمَان: 13)»، والإضلال الذي يُنسَبُ إلى الله تعالى إنّما هو المدّ والتهيئة والاستدراج، وليس الإجبار، لأن الله سبحانه وتعالى يحاسبُ الناس على أعمالهم التي يعملونها ضمن الدائرة التي يسيطرون عليها، إنْ خيراً فخير، وإنْ شرّاً فشرّ، يدل على ذلك قوله تعالى:(فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ٧وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ٨) (سورة الزلزلة/7-8)، وغيرها من الآيات، وما يؤكّد أنّ إضلال الله سبحانه وتعالى للظالمين إنّما هو مدٌّ وتهيئةٌ واستدراجٌ قولُه عزّ وجل:(قُلۡ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلَٰلَةِ فَلۡيَمۡدُدۡ لَهُ ٱلرَّحۡمَٰنُ مَدًّاۚ) (سورة مريم/75)، وهذا الإضلال من الله سبحانه وتعالى خاص بمن اتصف بصفة الظلم، وقد دلّ على ذلك تعليقُ الحكمِ بالمشتقّ، وهو اسم الفاعل (الظالمين)، وفي الأصول أنّ تعليق الحكم بالمشتقّ يؤذِنُ بعلّية مصدر الاشتقاق، وهو الظلم هنا، فما دام العبد ظالماً استحق الإضلال حتى يعود عن ظلمه، ويتوب إلى الله سبحانه وتعالى.
والأَولى حمل الظلم على عمومه ليشمل الشرك والكفر ويشمل ظلم النفس والمعاصي، لعدم وجود مخصِّص يخصّص الظلم بالشرك، أمّا قوله تعالى:(إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيمٞ) (سورة لقمان/13) فهو يدلّ على وصف الشرك بأنّه ظلم، وأنّه ظلم عظيم، ولا يدل على تخصيص الظلم بالشرك ؛ وهذا ما تقتضيه قواعد النحو، وعليه فكلّ من اتصف بصفة من صفات الظلم فإنّه مستحقٌّ للإضلال والمدّ في هذه الصفة حتى يتوب عنها، سواء أكانت شركاً وكفراً، أم كانت عملاً سيئاً أو ظلماً للنفس، يقول الحقّ سبحانه وتعالى:(قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِن يَنتَهُواْ يُغۡفَرۡ لَهُم مَّا قَدۡ سَلَفَ) (سورة الأنفال/38)، ويقول عزّ وجل:(وَمَن يَعۡمَلۡ سُوٓءًا أَوۡ يَظۡلِمۡ نَفۡسَهُۥ ثُمَّ يَسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا١١٠) (سورة النساء/110).
أما المفهوم الثالث في الآية الكريمة فهو أنّ الله يفعل ما يشاء، ذلك أنّه سبحانه القادر على كل شيء، لا يمنعه مانع، ولا معقّب لحكمه، ولا رادّ لأمره، فهو سبحانه يفعلُ في خلقه ما يشاء، وجاء هذا المفهوم تأكيداً لما سبقه، فالله تعالى يثبّت إذا أراد التثبيت، ويُضِلُّ إذا أراد الإضلال، فهو سبحانه لا يُسأل عمّا يفعلُ وهم يُسألون.
وتضمّنت الآية نكتةً بلاغيةً تمثّلت في إظهار الفاعل في الجمل الثلاث، وهو لفظ الجلالة: يثبّتُ اللهُ، ويُضِلُّ اللهُ، ويفعلُ اللهُ، يقول عنها ابن عاشور: «وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشاءُ لِقَصْدِ أَنْ تَكُونَ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنَ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ مُسْتَقِلَّةً بِدَلَالَتِهَا حَتَّى تَسِيرَ مسير الْمثل»، إضافة إلى التأكيد على أهمّية الفاعل عزّ وجلّ وقدرته على ما يريد.
ونشيرُ أخيراً إلى أنّ بعض المفسرين -منهم الطبري والقرطبي وغيرهم- ذكروا في سبب نزول الآية أنّها نزلت في سؤال الملَكَين للميت في قبره، ولكنّ هذا لا يقتضي التخصيص؛ لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرّر في الأصول، فتثبيت الله سبحانه وتعالى للمؤمنين واقعٌ في الدنيا والآخرة، وإضلال الله سبحانه واقعٌ للظالمين ما داموا متّصفين بظلمهم، والله يفعل كلّ ما يشاء؛ بدلالة عموم «ما» الموصولية.
نسأل الله سبحانه وتعالى هدايتنا وهداية المسلمين إلى الحق، وأن يثبّتنا وإياهم على الحقّ حتى نلقاه سبحانه وتعالى وهو عنا راضٍ.
1447-01-06