شهر رمضان شهر شحذ الهمم
2021/04/14م
المقالات
1,419 زيارة
يـوســـف أبـو إســـلام
الأرض المباركة فلسطين
يُعَدّ شهر رمضان من أفضل شهور السنة عند الله؛ فهو شهر الصيام والقيام، وهو شهر عظيم للتزوُّد فيه من الخير، وهو الشهر الذي أنزل الله فيه القُرآن؛ لقوله تعالى: (شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ)، وهو شهر يفرح المسلمون بقدومه فيستقبلونه وملؤهم استعداد لعبادة الله فيه، والتقرب إليه بالصيام، والقيام، والدعاء، وقراءة القرآن، والذكر … فشهر رمضان شهر يجدد فيه المسلم إيمانه، ويقوي صلته بربه، فيصير خلقاً آخر، لايميل إلى الإخلاد إلى الأرض، ويرفرف إلى آفاق الملائكة.ويُعَدّ الصيام من أركان الإسلام الخمس؛ فلا يكتمل إسلام العبد إلّا به؛ لقول النبيّ محمد صلّى الله عليه وسلّم: (بُنِيَ الإسْلامُ علَى خَمْسٍ: شَهادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسولُهُ، وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، وحَجِّ البَيْتِ، وصَوْمِ رَمَضانَ).
ولقد كان السلف الصالح رحمهم الله، يجعلون من شهر رمضان دورة إيمانية ومعهدًا خاصًّا للتربية النفسية، فأما نهارهم فصيام ودعوة وذكر، وأما ليلهم فقيام وتلاوة وفكر، وأما نظرهم وخواطرهم فعبرة وعظة وإلهام.. حديثهم قرآن وخُلُقهم قرآن. وقد سُئلت أم المؤمنين عَائِشَة رضي الله عنها عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ».
فالتقوى ثمرة من أهم ثمرات الصيام، قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ١٨٣) وما أمرنا الله بما تعبّدنا إلا من أجل التقوى، فقد قال سبحانه: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ٢١) بل إن ما فرضه الله من القصاص جعل غايته التقوى: (وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ١٧٩).فالتقوى هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، والمتَّقون هم الذين يراهم الله حيث أمرهم ولا يقدمون على ما نهاهم عنه… والمتَّقون هم الذين يعترفون بالحق ويعرفونه ويؤدونه، وينكرون الباطل ويجتنبونه، ويخافون الرب الجليل الذي لا تخفى عليه خافية… والمتَّقون هم الذين يعملون بكتاب الله فيحرِّمون ما حرّمه ويحلّون ما أحلّه، فهم لا يخونون في أمانة، ولا يرضون بالذل والإهانة، ولا يعقّون ولا يقطعون، ولا يؤذون جيرانهم، بل هم يصلون من قطعهم، ويعطون من حرمهم، ويعفون عمن ظلمهم، الخير عندهم مأمول، والشر من جانبهم مأمون، لا يغتابون، ولا يكذبون، ولا ينافقون، ولا ينمُّون، ولا يحسدون، ولا يراؤون، ولا يرابون، ولا يقذفون، ولا يأمرون بمنكر ولا ينهَون عن معروف، بل يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، تلك صفات المتقين حقًّا الذين يخشَون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون. ومما أثر عن السلف: «إن من علامة التقوى أنك ترى لها قوة في دين، وحزمًا في لين، وإيمانًا في يقين، وحرصًا في علم، وعلمًا في حلم، وقصدًا في غنًى، وخشوعًا في عبادة، وتحملًا في فاقة، وصبرًا في شدة، وطلبًا في حلال، ونشاطًا في هدى، وتحرجًا عن طمع».
والتقوى درجات: أعلاها فعل الواجبات والمستحبات، وترك فضول المباحات، وتجنُّب المحرمات والشبهات والمكروهات، والورع عما تخشى عذابه في الآخرة. وأدناها فعل الواجبات، وترك المحرمات مع ترك المستحبات وفعل المكروهات، والتوسع في فضول المباحات وقلة الورع.
ومن علامة التقوى: عدم الغفلة وعدم الاستخفاف بالمنكر من الأقوال والأفعال، والضيق بالمنكر إذا حصل، والتأذي منه إذا وقع، والفزع إلى الله طالبًا الخلاص، هذا من صفات المتقين… فالتقيُّ إذا وقع في المعصية لا يمكن أن يستريح حتى يعود إلى الله طالبًا الصفح والمغفرة مما ألمّ به، يقول الله عز وجل: (إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ إِذَا مَسَّهُمۡ طَٰٓئِفٞ مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ٢٠١)، فلا يمكن أن يجدوا أمنًا ولا طمأنينة إلا بالخروج من تلك الحال؛ وذلك بالاستغفار والتوبة إلى الله.
ومن علامة التقوى: تحرِّي الصدق في الأقوال والأعمال، سواء مع الله أم مع الناس، قال تعالى: (وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدۡقِ وَصَدَّقَ بِهِۦٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ٣٣)فالصدق مع الناس يكون في تعاملاته وفي بيعه وشرائه وفي شأنه كله، ومع الله في الثبات على الحق وقت الشدائد، وفي اجتناب المحرمات في الخلوات وغيرها من المواقف.
ومن علامة التقوى: تعظيم شعائر الله ( ذَٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّمۡ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقۡوَى ٱلۡقُلُوبِ٣٢) وشعائر الله هي: معالم الدين الظاهرة، كالصلاة والزكاة والحج والحكم بما أنزل الله في دولة لها سلطان وكيان. فما معنى تعظيم شعائر الله؟ تعظيم شعائر الله يعني عدم التهاون في تطبيقها، والإنكار على من يتهاون فيها، فالحكم بالإسلام شعيرة عظيمة من شعائر الله، ويلزم للحكم بالإسلام وجود دولة وخليفة ذي سلطان، فلا يتحقَّق تعظيم هذه الشعيرة إلا بالعمل الجاد المخلص لإيجاد هذه الدولة التي تطبِّق الإسلام وتُظهر شعائره وتعظِّمها.
فالصيام من شأنه أن يحقق التقوى، والتقوى من معالمها تعظيم الشعائر وخاصة شعيرة الحكم بالإسلام؛ ولذلك لا يصح من الصائم أن يعظِّم سنَّة صلاة التراويح، وفي الوقت نفسه يتكاسل عن تعظيم شعيرة العمل الجاد والمخلص لإيجاد الخلافة التي تعظِّم شعيرة الحكم بما أنزل الله؛ ولذلك واجب على المسلمين، وهم يعبدون الله بالصيام، أن يحقِّقوا مراد الله من الصيام، ألا وهو التقوى. وواجب على المسلمين، وهم يحققون ثمرة التقوى من صيامهم، أن تدفعهم هذه التقوى إلى تعظيم شعائر الله كلها، وعلى رأس هذه الشعائر شعيرة العمل لإيجاد الخلافة لأنها هي تاج الفروض.
ومن علامة التقوى: الورع عن المحرمات وعن أي شيء قريب منها، قال عليه الصلاة والسلام: «دَع ما يريبُكَ إلى ما لا يريبُكَ» وقال أيضًا: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتَّقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا لما به بأس» رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
والورع يجب أن يكون ورعًا صحيحًا، فبعض الناس يفعلون الكبائر ثم يتورَّعون عن الأشياء اليسيرة، وبعض الناس يتورَّع عن التقصير في فعل النافلة كصلاة الضحى أو التراويح أو قيام الليل، ولا يرى غضاضة في القعود عن أعظم فرض بل عن تاج الفروض وهو الخلافة. وللتوضيح نسوق هذين الأثرين:
الأول: لما سُئِل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل يشتري البقل ويشترط الخوصة، أنه يخشى أن تكون هذه التي تربط بها حزمة البقل غير داخلة في البيع فيشترط على البائع ذلك، قال: ما هذه المسائل؟!، قالوا: فلان يفعل ذلك، إبراهيم بن أبي نعيم قال: هذا نعما.. هذا رجل يليق بحاله.. رجل متقي جدًا.
والثاني: سُئِل أحمد رحمه الله عن رجل له زوجة وأمه تأمره بطلاقها، فقال: «إن كان برّ أمه في كل شيء حتى لم يبقَ إلا طلاق زوجته؛ يفعل؛ ولكن إن كان يبرها بطلاق زوجته ثم يقوم إلى أمه بعد ذلك فيضربها فلا يفعل».
فلنتقِّ الله عز وجل، ولنغتنم هذا الشهر الكريم بالتوبة الصادقة، والعمل الجاد المخلص لإعزاز دين الله، فشهر رمضان مضمار لمن يريد أن يسابق إلى الله، والسابق كما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في حجة حجها عند دفع الناس من عرفة قال: «ليس السابق اليوم من سبق به بعيره، إنما السابق من غفر له».
فلنسابق إلى الله في فعل الطاعات، ولنشحذ همم المسلمين في السعي الجاد لإعادة الحكم بما أنزل الله، فهذا الشهر تضاعف فيه الأجور، وتنتشر فيه نفحات الرحمن على عباد الله، فيا سعادة من تعرَّض لنفحة من نفحات الله.
أخرج الطبراني بإسناد حسن عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «افعلوا الخير دهركم، وتعرَّضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله عز وجل نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله عز وجل أن يستر عوراتكم وأن يؤمن روعاتكم».
أيها المسلمون: أقبل عليكم رمضان يحمل إليكم نفحات من الرحمن، نفحات من بدر وعين جالوت، نفحات تستنهض عزائمكم للوقوف في وجه الظالمين وحكام الطاغوت وأولياء الشيطان الذين عطَّلوا الدين وفرَّقوا جماعة المسلمين، فأشغلوا المسلمين بحروب وهمية وأعداء افتراضيين صنعهم الغرب على عين بصيرة، فقسَّم الغرب وعملاؤه المسلمين إلى (سنة وشيعة) و(متطرفين ومعتدلين) و(إرهابيين ومسالمين)، وأوقع بينهم العداوة والبغضاء؛ وكل ذلك حتى يبقى المسلمون في فرقة وعذاب، وحتى لا تصفو أذهانهم فيدركوا خصمهم وسبب مصابهم.
أيها المسلمون: أنتم على موعد مع الخلافة على منهاج النبوة، فلا يهولنَّكم ما يعصف بالمسلمين، ولا يرهبنَّكم ما عند الغرب من سلاح وعتاد، فالإسلام قد شقَّ طريقه إلى الناس كافة ليخرجهم من ظلمات الرأسمالية والكفر والضلال إلى نور الإسلام وعدله وطمأنينته، وليؤلِّفن الله، برجمته ومنِّه، بين قلوب المسلمين كما ألَّف بين الأوس والخزرج، وليبلغنَّ أمر هذا الدين ما بلغ الليل والنهار. روى أحمد في مسنده عن تميم الداري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليل، عزًّا يعِز الله به الإسلام وذلًّا يذِل الله به الكفر».
أيها المسلمون: ثقوا بالله القوي العزيز، ووثِّقوا صلتكم به، واجعلوا شهر رمضان هذا شهرًا تستنصرون به الحق سبحانه بإخلاص خالص، ضارعين إليه أن يشرح صدور المسلمين لنصرة دينه وإقامة شرعه ومبايعة خليفة للمسلمين يقيم فينا الدين كما أقامه رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون… (وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَۖ قُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَكُونَ قَرِيبٗا).
اللهمَّ أعِنَّا والمسلمين على صيام شهر رمضان، واجعلنا ممن يتعرضون لنفحاته، وأعِنَّا على تعظيم شعائر دينك، وأورثنا تقوى تدفعنا إلى كل خير فيه مرضاتك، يا رب العالمين.
2021-04-14