بسم الله الرحمن الرحيم
(أَلم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)
صدق الله العظيم
فسّر ابن كثير رحمه الله هذه الآية بقوله:
وقوله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) استفهام إنكار ومعناه أن الله سبحانه وتعالى لا بدّ أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان كما جاء في الحديث الصحيح: «أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء». وهذه الآية كقوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)، ومثلها في سورة براءة. وقال في البقرة: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) ولهذا قال ههنا: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) أي الذين صدقوا في دعوى الإيمان ممن هو كاذب في قوله ودعواه، والله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون. وهذا مجمع عليه عند أئمة السنة والجماعة وبهذا يقول ابن عباس وغيره في مثل قوله: (إِلَّا لِنَعْلَمَ) إلاَّ لنرى وذلك لأن الرؤية إنما تتعلق بالوجود والعلم أعم من الرؤية فإنه يتعلق بالمعدوم والموجود.
لذلك اخوة الإيمان، فلا ييأس حَمَلة الدعوة والمجاهدين ولا يركنوا للذين ظلموا فتمسّهم النار. وليعلموا أن ما الأساليب في تعذيبهم وسجنهم والتضييق عليهم في رزقهم إلاَّ فتنة لهم وابتلاء من الله لعبادة المؤمنين المجاهدين في سبيله. فالصبر الصبر واسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فعن خبَّاب بن الأرت قال: قال يا رسول الله ألا تستنصرُ لنا ألا تدعو الله لنا. فقال: «إنَّ من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشارُ على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ويُمشَّط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه».
ولقد اعتاد الظالمون من الحكام، أن يضطهدوا الذين يخالفونهم في سلوكهم المنحرف، ويناهضونهم في أفكارهم الباطلة، ولا يسايرونهم في أهوائهم، وينزلوا بهم أنواع المحن، بعد أن اعرضوا عن أشكال المنح التي قدمها الحكام إليهم، في ذلة وصغار، ولكن أنّى للنفوس الكريمة، ذات المعدن الطيب أن تغرى بمال، أو يسيل لعابها على فتات الدنيا، أو تستمال بعرض زائل من الحياة.
أما المحن فقد استعدوا لها. وتحملوا نارها بصبر وجلد، وصابروا شدة بأسها بعزم واحتساب لأنهم فقهوا قول الله تعالى: (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) وآمنوا بقول الخالق العظيم: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ).
وفقهوا أحاديث الحبيب المصطفى حين يقول: «أفضل الناس مؤمنُ يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله» وقوله: «سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى حاكم جائر فنهاه فقتله».