الولادة الطبيعية لدولة الخلافة في الشام وغيره: قاعدة جماهيرية وأهل نصرة
2014/07/29م
المقالات
1,959 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
الولادة الطبيعية لدولة الخلافة في الشام وغيره:
قاعدة جماهيرية وأهل نصرة
نصير الإسلام محمود/ باكستان
ما من شك أنّ الحكم المستقر يجب أن يستند إلى قاعدة جماهيرية شعبية وقوة كافية تسنده. فالاقتصار على القوة يجعل الدولة قائمة على ملك يسهل قلقلته أو الانقلاب عليه من قبل قوة أخرى قد تبرز في الدولة أو قوة تستند إلى قوى خارجية، والاكتفاء بالقاعدة الجماهيرية دون الإمساك بمفاصل القوة يجعل الدولة عرضة للزوال والسقوط بقاعدة جماهيرية أخرى قد تتشكل في الداخل أو قوة تهدم الحكم بالحديد والنار.
فالالتحام بين القوة والقاعدة الجماهيرية هو السبيل إلى الحكم المستقر الراسخ الثابت الأركان، وإهمال أحدهما بمثابة تضحية بالحكم آجلا أم عاجلاً. والأمر نفسه يصدق على إقامة الدولة. فالحركة أو الحزب الذي يسعى إلى إقامة دولة يجب عليه أن يعمل جاهداً على صناعة القاعدة الجماهيرية اللازمة لاحتضان الحزب وفكرته عند وصوله إلى الحكم، وأن يعمل على كسب تأييد الفئة الأقوى أو فئة قوية قادرة على إيصال الحزب بفكرته إلى الحكم. لتلتحم بعدها القوة بالفكرة في الحكم فيكون مستقراً راسخاً ثابت الأركان، يستحيل على المتربصين والأعداء النيل منه أو إسقاطه.
وعند الحديث عن الدولة الإسلامية وإقامتها، نجد هذين الركنين للحكم المستقر مسطرين في الشريعة الإسلامية والسيرة النبوية الشريفة. فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد عمل على صناعة القاعدة الجماهيرية الحاضنة للفكرة واستمالة أهل القوة القادرين على إيصاله بفكرته إلى الحكم، وقد نجح في ذلك طبعاً، فأقام الدولة الإسلامية في المدينة المنورة لتمتد بعدها قروناً، وهي تسير من علي إلى أعلى وصولاً إلى الدولة الأولى في العالم بلا منازع أو منافس حقيقي.
فبناء الكتلة وتثقيفها، ومن ثم الصراع الفكري والكفاح السياسي هو ما صنع القاعدة الجماهيرية التي احتضنت رسول الله وصحابته فيما بعد إقامتها. ولما عاد مصعب بن عمير من المدينة إلى مكة أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنّه لا يوجد بيت في المدينة إلا وفيه ذكر الإسلام، وأنّ المدينة معه، وأنّ زعماء المدينة وقادتها قد جاؤوا إليه، فطمأن بذلك رسول الله على أنّ القاعدة الشعبية قد تشكلت.
وطلب النصرة كان السبيل لاستمالة أهل القوة والمنعة الذين أوصلوا رسول الله وصحابته إلى الحكم، بعد أن عاهدوه على قتال الأحمر والأسود من أجل الإسلام وحماية دولته. قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أنّ القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري أخو بني سالم بن عوف: يا معشر الخزرج هل تدرون علامَ تبايعون هذا الرجل؟ قالوا نعم، قال إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفّينا؟ قال: «الجنة» فبسط يده فبايعوه. وروى البيهقي أن عبادة بن الصامت قال: إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب مما نمنع به أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة.
وهذا العمل من رسول الله وصحبه لإقامة الدولة الإسلامية، كان عملاً بما أوجبه الله، فسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وحي من الله وتشريع، ] وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [، وكل أعمال إقامة الدولة هي شرعية وليست عقلية، رغم أنّ العقل السليم يرى فيها الطريقة العملية لإقامة الدول كما ذكرنا أعلاه، فبناء الكتلة وتثقيف أفرادها هو عمل شرعي قام به رسول الله بوحي من الله، والصراع الفكري والكفاح السياسي، هي أعمال قام بها رسول الله بوحي من الله، وطلب النصرة لاستلام الحكم أيضاً كان بوحي من الله، وهو ما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مواصلة الطريق والعمل ذاته رغم المشاق والعذاب.
وفي كل مراحل الدعوة كان توفيق الله ورعايته لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بارزة جلية، وهي ما كان يركن إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنذ البداية أمده الله بمن يشد أزره ويهون عليه مشاق الدعوة، كأم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، التي أعانت رسول الله بكل ما تملك من مال وجهد فكانت له خير صاحبة ومعينة، وأمده الله بأبي بكر الصديق الذي كان خير صاحب ومعين، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه، ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يداً يكافيه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحد قط، ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً. ألا وإن صاحبكم خليل الله»، (رواه الترمذي). وكذلك يسر الله أبا طالب الذي وفَّر لرسول الله الحماية والمنعة في البداية حيث التأسيس والبدء، ولما اشتد الأذى وقويت شوكة قريش على رسول الله ومن معه، يسَّر الله حمزة بن عبد المطلب، صياد الأسود، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فسند بذلك ظهر الصحابة ويسَّر لهم دفعة وعزيمة جديدة.
وفي قصة إسلام الأوس والخزرج القبيلتين المتناحرتين، وقصة الهجرة وغار حراء، أبلغ الصور على رعاية الله للدعوة وأحاطتها بكنفه وتوفيقه. وهو ما يعزز وجوب التوكل على الله والتكلان على توفيقه ورعايته ونصره للدعوة، بعد الاعتصام بحبل الله وأحكامه. فالتقيد بالطريق التي فرضها الله وتجشُّم المشاق في سبيل التمسك بها والإصرار عليها هو الكفيل بأن يمنَّ الله على حملة الدعوة والعاملين بالنصر والتوفيق. قال تعالى: ] وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [، وقال عزَّ وجلَّ: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد7.
والمدقق في حيثيات طلب النصرة يدرك أنّه ليس المطلوب مجرد أنّ تجد الدعوة من يوصل الفكرة إلى الحكم أو يوصل القائمين عليها، وإلا لكانت المسألة مجرد انقلاب عسكري في ليلة مظلمة، بل المسألة أبعد من ذلك، فأهل النصرة هم من يجب أن يحتضنوا الفكرة وأهلها ويتعاهدوا على حمايتهما ولو على نهكة الأموال والأولاد، وذلك بعد أن تصبح الفكرة جزءاً منهم ويسلموا قيادتهم إلى الحزب وقيادته. وهذا جاء في حديث عبادة بن الصامت حيث قال: «إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب مما نمنع به أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة».
فالعمل بين أهل القوة والمنعة هو عمل على كسب ولائهم وتأييدهم للفكرة والحزب وصولاً إلى استعدادهم للتضحية بالغالي والنفيس من أجل الفكرة وإيصالها للحكم، مع تسليمهم وانقيادهم لقيادة الحزب. فرسول الله صلى الله عليه وسلم حين لمس الاستعداد والقبول من أهل المدينة لم يكتفِ بذلك، بل أرسل مصعب بن عمير رضي الله عنه والذي أمضى عاماً كاملاً ًفي عمل دؤوب ومتواصل حتى تمكن من تحصيل النصرة المطلوبة للدعوة، فعاد بهم في العام التالي إلى رسول الله ليبايعوه بيعة العقبة الثانية التي اطمأن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاحية المدينة المنورة كنقطة ارتكاز للدعوة، وهو ما كان.
وهكذا، الآن، فليس المطلوب من أهل القوة مجرد القبول أو التعاطف، بل الانقياد للثلة السياسية المؤمنة الواعية التي حضّرت مشروعها لإقامة الخلافة واحتضانها لإيصالها إلى الحكم.
ولأنّ النصرة من قبل أهل النصرة قد يكون ثمنها الأرواح، فيجب أن يكون ما يدفع أهل النصرة للنصرة يستحق ذلك، ألا وهو مرضاة الله وجنته، وهو ما أجاب به الأنصار العباس رضي الله عنه حينما أراد أن يستوثق لابن أخيه صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية، فقالوا: «فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفّينا؟ قال: «الجنة» فبسط يده فبايعوه». فمرضاة الله سبحانه وتعالى والسعي لنيل جنته هو ما يجب أن تتعلق به قلوب أهل النصرة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجد ما يجيب به الأنصار حينما سألوه عن المقابل إلا الجنة، لأنّها هي ما يستحق كل التضحيات والمخاطرة التي قد يقع فيها أهل النصرة. لذا يجب أن يبقى هذا المقابل ماثلاً وحاضراً في أذهان أهل النصرة. فهو ما يصبرهم على الأذى ويدفعهم إلى الاستعداد للتضحية من أجل الإسلام. وإذا ما وُجد من بين أهل النصرة من يطمح إلى الحكم والسلطة كثمن لنصرته فهذا مرض وجرثومة يجب علاجها أو التخلص منها، فالصدق والإخلاص والجرأة أمور لازمة أشد اللزوم عند أهل النصرة وإلا فشلت الدعوة في الوصول إلى الحكم الرشيد. روى الطبري في تاريخه، وابن كثير في سيرته: «أتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: «الأمر إلى الله، يضعه حيث يشاء». قال فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك! فأبَوا عليه. فلما صدر الناس، رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم، قد كانت أدركته السنُّ حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش ثم أحد بني عبد المطلب يزعم أنه نبي يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا. قال: فوضع الشيخ يديه على رأسه، ثم قال: يا بني عامر، هل لها من تلاف؟! هل لذناباها من مُطَّلب؟! والذي نفس فلانٍ بيده ما تقوَّلها إسماعيليٌّ قط، وإنها لحق، فأين رأيكم كان عنكم!».
وفي أيامنا هذه، في ثورة الشام الأبية، يجب أن تنصب الجهود من قبل الثلة السياسية الواعية المؤمنة على مواصلة طريقها الشرعي نفسه والذي خطه رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أجل إحداث التغيير الذي يرضى الله عنه في الشام، أي لتحويلها إلى دولة إسلامية على منهاج النبوة.
عمل دؤوب ومتواصل من أجل توسيع القاعدة الجماهيرية الحاضنة للثلة السياسية والفكرة، وكسب للمزيد من أهل النصرة المستعدين لإيصال الفكرة إلى الحكم وقلب نظام الحكم. فتواصل الثلة الواعية المؤمنة عملها في توجيه دفة الثورة والرأي العام نحو الإسلام النقي الصافي، وحمايتهما من مكر الدول الكافرة المتربصة بالشام، والتي تعمل على حرف الثورة عن بناء دولة بشكل صحيحٍ خالٍ من التبعية والعمالة دون الخروج منهما، وذلك من خلال دوام كشف المؤامرات والخطط التي يسوقها الغرب وأدواته في المنطقة، وبيان خطورتها ومعارضتها لشرع الله. بالإضافة إلى مواصلة تبني مصالح الأمة وفق شرع الله سبحانه وتعالى.
وفي الوقت نفسه، غذُّ الخُطا في كسب المزيد من أهل القوة والنصرة، من كتائب وفرق وألوية وجيش نظامي، إلى مشروع الخلافة، ليصبحوا الحاضنة القوية والمستعدة لإيصال المخلصين إلى الحكم بكتاب الله وسنة نبيه، بعد صقل شخصياتهم وتوجيه تطلعاتهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
وأي تقصير أو توانٍ في أي من هذين العملين، القاعدة الجماهيرية وأهل النصرة، يعني الإخفاق وعدم النجاح في تحويل الشام إلى خلافة إسلامية. وفي إثناء ذلك كله يجب على المخلصين والواعين العمل وهم على ثقة ويقين تامين بنصر الله لهم، واعتماد ولجوء له وحده دون سواه.
وهذا نداء حار إلى أهل القوة في الجيوش والكتائب بأن ينصروا الله بنصرة أمتهم ومشروع أمتهم، مشروع الخلافة الذي به يعز المؤمنين ويذل الشرك والمنافقين، مشروع الخلافة الذي يقطع دابر الكافرين المستعمرين من بلاد المسلمين، ويعيد الأمة حرة أبية عابدة لله وحده لا تشرك به أحداً. مشروع الخلافة الذي به يكون التمكين، وتُحفظ فيه عورات المسلمين ودماؤهم وأموالهم، وترجع الحقوق إلى أهلها.
وياله من شرف للضباط والجيوش إن التحقوا بهذا المشروع ونصروا الله، شرف لا يضاهيه شرف، شرف كشرف السعدين رضي الله عنهما، والأنصار أحباب رسول الله. عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» رواه مسلم. شرف تذكره الأمة لهم إلى يوم الدين كما ذكرت الأمة أنصار رسول الله وأبناءهم وأبناء أبنائهم.
2014-07-29