عوامل “قوة التأثير الدولي” في صناعة الدول الكبرى
2019/08/27م
المقالات
8,052 زيارة
عوامل “قوة التأثير الدولي” في صناعة الدول الكبرى
أسعد منصور
تقاس قوة الدولة وعظمتها عالميًا بقوة تأثيرها على غيرها من الدول؛ ولهذا تصبح هناك دول تابعة لها، أو تدور في فلكها، أو صديقة، أو حليفة، أو مشاركة لها؛ وبهذا تستطيع أن تلعب دورًا فعالًا في الموقف الدولي، وربما تهيمن عليه وتصبح هي الدولة الأولى في العالم؛ من هنا ندرس عوامل التأثير في الدولة التي نريد أن تصبح دولة مؤثرة في الساحة العالمية ومن ثم دولة أولى، تعمل على نشر الخير في جنباتها، ومن ثم يمتد هذا الخير إلى العالم لينعم بالخير والأمن والعدل… فهذه العوامل تبدأ من الداخل لتمتد إلى الخارج ونحن من خلال تركيزنا على دولتنا المنتظرة، بإذن الله، دولة الخلافة، سنعرج على واقع الدول الأخرى كلما لزم الأمر لنرى أسباب قوتها.
وهذه العوامل هي:
1- يجب أن تكون الدولة صاحبة مبدأ، أو لديها رسالة تحملها للعالم؛ وإلا فسوف لا تتميز عن الدول الأخرى، ولا تستطيع التأثير على غيرها بشكل دائم، فصاحب الرسالة لديه أفكار عن الكون والإنسان والحياة، يعرضها على الناس ليتبنَّوها ويقودهم بها، ويقدم لهم الحلول والمعالجات للمشاكل، ويبين لهم أن نجاح دولته وصيرورتها دولة كبرى كان بفضل هذه الأفكار وتطبيق هذه الحلول والمعالجات؛ ولهذا جاء الإسلام برسالة عالمية لبني الإنسان. قال تعالى: ] قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا[ وقال سبحانه: ]وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ[ وقال عز وجل: ]كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ[. وهذه الرسالة هي التي تدفع معتنقيها للاندفاع إلى العالم مع دولتهم والتضحية في سبيل المبدأ مهما كلفهم من تضحيات. فذلك الذي دفع العربي الذي لم يكن يعرف سوى حدود قبيلته والدفاع عنها لأن يقاتل الأحمر والأسود ويفتح العالم؛ ولذلك كان موقف ربعي بن عامر أمام قائد الفرس رستم عندما سأله ما جاء بكم؟ فقال ربعي: «الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام؛ فأرسلَنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه. ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نُفضي إلى موعود الله» ولهذا أصبحت دولة أولى في العالم ودولة كبرى ما يقارب 13 قرنًا.
بينما أميركا الدولة الأولى في العالم حاليًا، وإن كانت صاحبة مبدأ، ولكنه مبدأ باطل، وتحمل رسالته ولكنها رسالة كاذبة وخادعة تشقي الإنسان، طريقتها الاستعمار، بل هدفها الاستعمار ومص دماء الشعوب ونهب ثرواتهم بأساليب خبيثة، وسرعان ما يكتشف الناس زيفها، فيلفظونها ويبدؤون بمقاومتها، وهم يرون غطرستها وظلمها وعدم إنصافها وانحيازها لنفسها ولو كانت على باطل، وترى نفسها فوق المحاسبة وأنها شرطي العالم الذي يفعل ما يريد ولا يجوز لأحد أن يسأله عن جرائمه! وتنقض كل العهود والعقود في سبيل مصالحها، فلا تحترم أي عهد أو عقد إذا تعارض مع مصالحها الاستعمارية، وبذلك تجعل الناس لا يثقون بها ويكرهونها، والحال معها حاليًا كذلك. وهي تنحاز لكيان يهود مهما فعل أو لأي دولة لديها مصلحة عندها، فهذا الظلم بعينه، والعالم يرى انحيازها للحكام المجرمين والطغاة التابعين لها بصورة علنية. وهي تشن الحروب العدوانية ليس لتحرير الناس وإنما للهيمنة والسيطرة والاستعمار؛ ولهذا لن تدوم سيطرتها. حتى إن شعبها عندما يرى الإسلام بصورة واضحة فإنه سيتخلى عن مبدئه الرأسمالي الباطل ورسالته العلمانية الديمقراطية الزائفة، ويتبنى مبدأ الإسلام الحق ويحمل رسالته السمحة. والدول الكبرى الأخرى ليست بأحسن حالًا منها.
2- يجب أن تكون الدولة ناجحة في الداخل، أي أن تكون دولة بمعنى الكلمة، ومعنى ذلك أن تكون الدولة ناشئة عن الفكر الذي تقبَّله شعبها؛ إذ إن الدولة هي الجهاز التنفيذي لمجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات التي تبناها الناس؛ لأن هذه المفاهيم والقناعات والمقاييس نابعة من الفكر. فتقوم الدولة وتنفذها على الناس، وتتبنى معالجات من هذا الفكر، فتصبح قوانين، فيلتزم بها الناس طواعية لإيمانهم بها؛ فترعى شؤونهم بها وتحقق مصالحهم. فتحصل ثقة لدى الناس بدولتهم، فيدافعون عنها بأغلى ما عندهم، فيعتبرونها راعيتهم، كوالدتهم الحقيقية التي تحرص وتسهر عليهم، وتشبعهم قبل أن تشبع، وتكسوهم بأحلى الثياب ولا تكسو نفسها بها من شدة حبها لأولادها، فهي أم رؤوم رؤوفة رحيمة. تتألم إذا تألم أحدهم، وتسهر بجنبه وتبحث عن العلاج حتى يشفى؛ فعندئذ يشعر كل أمرئٍ أن هذه الدولة دولته، فيكون حارسًا أمينًا لها. وهذا ما حصل في الدولة الإسلامية؛ كان المسلمون حراسها الأمناء حريصين على بقائها وازدهارها. وحكامهم لا يخونونهم ولا يسلمونهم لأعدائهم، فحاشى أن تسلم أم ولدها لعدوها. فإنهم يعلمون أن الحكم أمانة وهو يوم القيامة ندامة، وكيف لا وحكمهم يستند إلى عقيدتهم، يستند إلى إيمانهم بالله وبرسوله، وثقتهم في الحكم ترجع إلى هذا الإيمان. قال تعالى: ]إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا ٥٨ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا[.
وأما أميركا، وإن ظهر للعالم أنها ناجحة ومتقدمة ماديًا؛ إلا أنها فاشلة في توزيع الثروات وتأمين الخدمات لكل الناس وتحقيق العدل بين الناس والطمأنينة والأمان، فالهوة سحيقة بين الأغنياء والفقراء، والتمييز العنصري مهيمن على البلد، والجريمة منتشرة بكل أنواعها، فالإحصائيات تشير إلى أنها هي الأولى عالميًا في كافة أنواع الجريمة. فيشعر الناس دائمًا بالخوف على حياتهم وعلى أموالهم وأعراضهم. ولهذا كلما سمع الناس عن وضعها الداخلي المتصدع قلَّت ثقتهم فيها وقل تأثيرها عليهم وتصبح مكروهة لديهم كما أصبح الحال معها حاليًا، وهذه الحال تفترق عن الحال بعد أن خرجت إلى العالم بعد الحرب العالمية الثانية، فلم يكن الناس يعرفونها بعد، فقد كانت صورتها لامعة، أما الآن وقد عرفها العالم فأصبحت صورتها قاتمة. والدول الكبرى الأخرى ليست بأحسن حال منها، وهي على شاكلتها، وشعوبها منتفضة تبحث عن بديل، وشعوب العالم الأخرى لا تثق فيها، حيث إن لها تاريخًا طويلًا في الاستعمار والظلم.
3- يجب أن تحسن الدولة تطبيق القوانين والأنظمة النابعة من مبدئها، وذلك بتطبيقها على وجه حسن مع مراعاة ظروف الناس من شدة ورخاء، وأن تعرف متى تتسامح ومع من، ومتى تغلظ وعلى من، وأن تُنصف الناس وتَعدل بينهم بدون محاباة، فهذا سوف ينعكس على الخارج ويؤثر على الناس الآخرين عندما يرَون عدلها ونجاحها في الداخل، وثقة الناس بدولتهم وتمسكهم بها، وتماسكهم مع بعضهم بعضًا، وسيجلب احترام الآخرين وتقديرهم لها، ويعتبرونها قدوة لهم. فعندما تتحرك تجاه الشعوب الأخرى لتنقذهم ترى تجاوبًا منهم معها ومع رسالتها؛ ولهذا نرى أنه ما إن كانت الدولة الإسلامية تفتح بلدًا أو تدخله حتى يدخل أهله في الإسلام طواعية دون إكراه، والإسلام يحرم الإكراه، قال تعالى: ]لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ[؛ ولهذا انضوى أهل تلك البلاد المفتوحة في صفوف المقاتلين الفاتحين لتواصل الجيوش الإسلامية فتوحاتها للبلاد الأخرى بجنود جدد من البلد الذي فُتح آنفًا من دون أن تأتي جيوش من المركز. فما إن فتحت الشام والعراق حتى دخل أهلها الإسلام وانضموا للجيش الإسلامي ليواصلوا الفتوحات في أذربيجان وأرمينيا في عهد عثمان رضي الله عنه، وما إن فتحت بلاد شمال أفريقيا حتى شارك أهلها في فتح الأندلس وكان قائد الجيش من أهل البلاد المفتوحة حديثًا. فكل الشعوب المسلمة دخلت مختارة في الإسلام دون إكراه؛ ولهذا قال تعالى: ]إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ١ وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا…[.
ولكن انظروا إلى حروب أميركا الآن، تأتي بالجيوش من المركز، وما إن تدخل البلد حتى ينتفض أهل البلد الذي تعرض لعدوانها ضدها كارهين لها ومتصدِّين لجيوشها وقيمها؛ قيم العنجهية والغطرسة وحب الملذات والنهم الذي لا يشبَع. وتبدأ مقاومتهم لطردها. فكل شعوب العالم كرهتهم، والتي تعرضت لعدوانهم قاومتهم وعملت على طردهم. كأمثال أسلافهم المستعمرين الأوروبيين.
4- يجب أن يحرص على أن يبقى السلطان بيد الأمة، أي أن يأتي الحكام عن طريق انتخاب الناس لهم ومبايعتهم لهم بالرضا والاختيار من دون إكراه ولا لف ولا دوران. علمًا أن شرعنا يفرض أن تؤخذ البيعة بالرضا والاختيار وليس بالإجبار. وإن حدثت في تاريخ دولتنا بعض التأويلات للحفاظ على كيانها، إلا أن كيان الدولة بقي قويًا، وبقيت صاحبة التأثير الأقوى في العالم؛ لأن إيمان المسلمين بدينهم ورؤيتهم الدولة تطبق دينهم وحرصها على حمل رسالة المبدأ جعلهم يحافظون عليها، ومع ذلك قاموا للتغيير عليها طوال قرون لأنهم كانوا يدركون أنها نابعة من صلب دينهم، وهي قائمة لتطبيق شرع ربهم وحمل دعوته إلى العالم والعمل على رعاية شؤونهم.
وفي الدول الرأسمالية، وعلى رأسها أميركا، فإن السلطان ليس للأمة في الحقيقة، وإنما لأصحاب رؤوس الأموال. فهم المشرعون، وهم الذين يأتون بالحكام ويسقطونهم، وتجري انتخابات بين من رشحهم أصحاب رؤوس الأموال ليكونوا خدمًا لمصالحهم في الدرجة الأولى، وقد بدأ الناس يكتشفون ذلك؛ فبدأ الناس في أميركا يدركون أن الدولة بيد أصحاب رؤوس الأموال فقامت جموع منهم بالاحتجاج عام 2011م على وول ستريت مركز أصحاب الهيمنة والسلطان من أصحاب رؤوس المال. فقامت الدولة وقمعت احتجاجاتهم بالقوة. وهكذا اهتزت ثقة الأميركيين بدولتهم وبنظام انتخاباتهم، وقد حامت الشبهات حول انتخاب ترامب، وما زالت محل جدل وأخذ ورد، فأثر ذلك على مكانة أميركا وتأثيرها الدولي. ويحدث مثل ذلك في الدول الرأسمالية الأخرى كبريطانيا وفرنسا وروسيا، حتى وإن اختلفت مظاهرها بين دولة وأخرى.
5- تمكين أفراد الأمة جميعًا من إبداء الرأي والمحاسبة والشكوى والانتقاد وإنشاء تكتلات وتنظيمات فكرية وسياسية حسب المفاهيم والقناعات والمقاييس التي تبنتها الأمة. وهذه أحكام شرعية وليست إجراءات ظرفية كما تفعل كثير من الدول. قال تعالى: ]لۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ[، فذلك يجعل الشعوب والأمم تنظر إلى هذا الواقع الرائع، فتتأثر به وتريد أن تحذو حذوه وترى الدولة الإسلامية مخلّصة لهم. وهكذا تصبح الدولة مؤثرة على تلك الشعوب والدول، فيسهل نشر الدعوة فيها وحمل الرسالة إليها. فإن إيجاد أجواء المحاسبة للحكام والنقاش الفكري في كافة المجالات وفق أحكام الشرع، والسماح للناس بإبداء آرائهم والسماح لهم بتأسيس التكتلات والتنظيمات المبنية على فكر الأمة لهو أصدق دليل على أن هذه الدولة عادلة راعية، وليست مستبدة ولا جائرة، ولا مُكمِّمة للأفواه، فهي دولة صادقة يؤمَن جانبها عندما تأتي إليهم حاملة تلك المفاهيم. فهذه الأجواء تجعل الناس في الداخل يثقون بدولتهم، وتؤثر على الخارج بحيث يرى الآخرون أن الناس أحرار في هذا البلد، والنظام ليس استبداديًا أو دكتاتوريًا؛ لأن الناس إذا رأوا أن الدولة مُكمِّمة للأفواه تحكمهم بالحديد والنار فإنهم سيعملون ضدها سرًا، وستكون فرصة للأعداء ليعملوا دعاية ضدها، وسوف لا يثق بها الآخرون؛ فلا يقبلونها ولا يُقبلون عليها ولا يريدون التعاطي معها وقبول فكرها؛ فيتوجسون منها ويبتعدون عنها، فيقل تأثيرها عليهم. ولهذا كانت الدولة الإسلامية مثالًا حيًا لجميع الأمم في عدلها وحسن رعايتها… وأميركا كانت إلى زمن معين ذات ثقة لدى شعوب العالم عندما كانت تخفي حقيقتها، ويرونها حاملة مشعل الحرية حيث الاستبداد في الجانب الآخر. ولكن عندما تكشفت لهم حقيقتها وأسقطت القناع عن وجهها، فأظهرت غطرستها وعنجهيتها وتعاليها بجانب تصرفاتها الاستعمارية وعدوانها بغير حق فظهرت أنها قاتلة مجرمة مستبدة، صارت أكثر دولة مكروهة في العالم، والكل يهتف ضدها ويرفضها ويتمنى زوالها، فظهرت أنها دولة مستعمرة من الطراز الأول لا تختلف عن قريناتها الدول الغربية بل ربما تتفوق عليها في نواح عديدة.
6- يجب أن يكون هناك وسط سياسي عريض وحاشد ممن يتمتعون بصفات رجل الدولة، وساسة يتمتعون بأرقى أوصاف القيادة من وعي وإدراك ودهاء وتميز، فيكون منهم القيادات المبدعة، ومنهم القيادات الملهَمة، ومنهم القيادات الذكية، بجانب وجود حشد كبير من المفكرين والمبدعين في كافة المجالات. فعندما يوجد مثل ذلك فإنه يدل على حيوية الأمة وأن تربتها خصبة تنبت مثل هؤلاء الرجال، فتظهر الدولة قوية متينة لا تستطيع أيدي الأعداء أن تصلها، فمهما قضى منهم نحبه من رجال فإن هناك كثرة وافرة تسد الفراغ، ورغم ذلك فهم في تزايد وليس في نقصان. وهذا يجعل هؤلاء مؤثرين في السياسة الدولية كونهم أجزاء في دولة، فيبدأ العالم يتناقل أقوالهم ومقالاتهم ويستشهد بها كأدلة. فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم هذا الحشد السياسي المفكر المبدع، فوصفهم قائدهم صلى الله عليه وسلم بقوله: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ، بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ». ويكفي مدح القرآن لهم في العديد من الآيات ورضي الله عنهم ورضوا عنه. فتصبح الدولة مؤثرة بهم عالميًا.
وقد حصل في أميركا بأن صار لديها حشد سياسي ومفكر ولكن بأفكار باطلة ونظريات فاسدة، لا يأتي للبشرية بخير بل بشرٍّ، مثل نظريات العولمة واقتصاد السوق، ونهاية التاريخ، وأفكار الحرية والديمقراطية التي تشقي الإنسان. ثم ازداد الأمر سوءًا عندهم حيث ظهر بينهم مفكرون لديهم نظريات وأفكار جديدة لم تلبث أن بدأت في الاضمحلال والضمور مما يدل على وصولهم إلى طريق مسدود… وذلك يدل على انحدار أميركا. ومثل ذلك كان في بريطانيا وفرنسا ولكن اضمحل وضمر. وكذلك كان عند الشيوعيين ولكن انتهى إلى الأبد.
7- التقدم المادي في البلد، والذي يستند إلى التقدم العلمي والصناعي والتكنولوجي. فمن المعلوم أن هذا التقدم عندما يحصل سيؤثر على كافة المجالات ويحدث فيها انقلابًا، سواء في المجالات العسكرية أم المدنية. فتقدم البلد ذاتيًا يدل على وجود نهضة في البلد، ويؤثر على الآخرين بحيث يظهر نجاح الفكر الذي تقوم عليه هذه الدولة فيوجد قوة تأثير للدولة في الساحة العالمية. فتصبح مدارسها ومعاهدها وجامعاتها قبلة لطلاب العالم. فتجذب الطلاب من كل أصقاع الأرض، وهؤلاء يتعلمون لغة البلد المستضيف لهم كما يتعلمون ثقافته وأفكاره وطراز حياته، فيتأثر الكثير منهم بذلك ويعودون لبلادهم وهم يحملون انطباعًا جيدًا عن هذه الدولة وعن شعبها وطراز حياتها ومبدئها. فمنهم من يقتنع بذلك ويصبح حامل دعوة؛ ولهذا كانت الدولة الإسلامية منارة العلم للعالم كله، وجامعاتها قبلة طلاب العالم، وكانت مشهورة شهرة تغني عن التعريف. وذلك ليس طارئًا وإنما هو نابع من صلب العقيدة، وقد مدح الله ورسوله العلم في كثير من الآيات والأحاديث: فقال تعالى:
] يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ َامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ[ وقال رسوله صلى الله عليه وسلم: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ».
وقد حض على التفكير في كل المخلوقات ليستدل بها الإنسان على وحدانية الله، ومنها يستكشف أشياء كثيرة تخصه في حياته، فيدرك طبيعة الأشياء وقوانينها فيطوعها له. فقال تعالى: ] وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ َمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مِّنۡهُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ [، فعندئذ يقوم الإنسان بالبحث في السماوات والأرض ليسخرها وينتفع بها. وهذا هو الذي حقق التقدم العلمي والمادي عند المسلمين في العصور الأولى.
ونرى الآن أميركا أكثر دولة متقدمة صناعيًا وتكنولوجيًا وعلميًا، فهي أكثر دولة جذابة ومؤثرة في هذه الناحية، وطلاب العالم كلهم يقصدونها من كل أصقاع الأرض، فيعودون إلى بلادهم متأثرين بالمفاهيم والقيم الأميركية، ومنهم من يرتبط بأميركا فيسهل لها ذلك بسط نفوذها على تلك البلاد التي أتى منها الطلاب وتأثروا بها، وخاصة إذا أصبحوا في مركز من يتخذ القرار. إلا أن هؤلاء لا يستطيعون التأثير على الشعوب بسبب أنها اكتشفت حقيقة أميركا، فيُنظر لهم كعملاء لأميركا والشعوب تسبّهم وتلعنهم. ولكن الوضع يختلف مع الدولة الإسلامية، فالطلاب الذين سيعودون منها يرَون عدل الإسلام ورفعة قيمه وعظمة أفكاره ورقي حضارته، فذلك يجعلهم يحملون الدعوة إلى شعوبهم فتصبح الدولة مؤثرة على شعوبهم، أو يصبحون وسيلة تأثير لها على شعوبهم.
8- وجود القوة العسكرية لدى الدولة التي ترهب الآخرين، فهذه القوة توجد تأثيرًا للدولة على الدول الأخرى ويزداد تأثيرها كلما ازدادت قوتها العسكرية واستعدادها لاستخدامها، بل تقوم باستخدامها بين الفينة والأخرى، فذلك يُمكِّن الدولة من التأثير في الآخرين والوقوف في وجه الدول الطاغية التي تريد أن تتحداها، ومن ثم يسهل عليها نشر أفكارها بالعدل وحسن الرعاية في الساحة العالمية… وفي الوقت نفسه تحول القوة العسكرية دون حدوث التمردات الداخلية؛ حيث هناك متربصون في الداخل من الكفار والمنافقين ومن هو مستعد أن يتعاون مع الدول الخارجية من أجل مصالحه الشخصية والطائفية، أو يعمل لهدم الدولة وتدمير المجتمع من مرضى النفوس الذين لم يدخل الإيمان قلوبهم، فهؤلاء ترهبهم قوة الدولة العسكرية وتردعهم عن التحرك ضد الدولة؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: ]وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ[.
9- قوة وسائل الإعلام والنشر والدعاية المكثفة والقوية وتنوعها، فبكثرتها وقوتها وتنوعها تحدث دويًا عالميًا قويًا للدولة ولمبدئها فتستطيع أن تصل إلى الناس لتؤثر فيهم وتؤثر في دولهم. فتكون وسائل الإعلام مرئية وسمعية وصحفية وإلكترونية وسائل تأثير للدولة ولحمل الرسالة والدعاية لها، وخاصة أن هذه الوسائل في الإسلام هي لبيان الحق والحقيقة ما يعزز ثقة الناس بالدولة في الإسلام ويمهد لها سبيل الفتح، فاستعمال وسائل الإعلام بإحسان وإتقان هو عامل مهم في جعل الطريق سالكًا أمام الجيوش للوصول إلى أهدافها، بل إنها في بعض الحالات تغني عن الجيوش الجرَّارة في تحقيق الهدف.
هكذا هي وسائل الإعلام في دولة الإسلام (الخلافة الراشدة) فتكون نصرة للحق والحقيقة وليس للتضليل كما تفعل الدول الكبرى هذه الأيام، فأميركا وغيرها من الدول الكبرى تستعمل وسائل الإعلام بكل ما أوتيت من قوة في التضليل وإخفاء الحقائق ونشر الأفكار الباطلة والزائفة ونشر الرذيلة بين الناس لإفساد الأجواء وتمييع المجتمعات والشباب، وتقوم بمحاربة الإسلام بكل الأساليب الخبيثة وتعمل على تشويه صورة هذا الدين الحنيف لتنفِّر الناس منه ومن حملته ظنًا منها أنها بذلك تحول دون عودة الإسلام إلى الحكم وإقامة دولته العظمى…
10- حمل المبدأ كرسالة عالمية والقيام بالدعاية له وبالنشاط الثقافي على كل المستويات العالمية. فحامل المبدأ بقوة يتحدى الآخرين ويهاجم أفكارهم، كما يشرح أفكاره فيصبح صاحب تأثير وتتكسر أمامه الحواجز ليصل إلى عامة الناس وخاصتهم؛ فتقوم الدولة بنشر الدعوة وحمل الرسالة بشتى الطرق والوسائل والأساليب عن طريق وسائل الإعلام، وعن طريق الكتب ووسائل النشر الأخرى، سمعية أو مرئية أو ورقية أو إلكترونية وغير ذلك، وبكافة اللغات وخاصة اللغات الرئيسية منها، وكذلك عن طريق إرسال حمَلَة الدعوة، وجعل أبناء الأمة الذاهبين إلى الخارج من طلاب أو تجار أو سائحين أو غير ذلك حمَلَة دعوة. وعقد المؤتمرات والندوات الفكرية على نطاق العالم ودعوة كل المفكرين للنقاش. بجانب عقد الاتفاقيات الثقافية مع الدول الأخرى على أن لا تخالف الأحكام الشرعية، وأن تتضمن فتح المراكز الثقافية في الخارج لنشر الإسلام… وتعزيز التجارة خاصة مع الدول التي يُمكن أن تُفتح عن طريق التجارة. وكذلك عبر السفارات والقنصليات في الدول التي أقمنا معها علاقات دبلوماسية. والقرآن طلب من الرسول B أن يدعو الناس للنقاش وأن يتحداهم في الفكر والمناظرة. قال تعالى: ]قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ[.
11- تكوين الرأي العام عن كل قضية عالمية لصالحها. فالرأي العام له قوة تأثير عظمى. فتقوم الدولة وتوجد رأيًا عامًا عندما تريد أن تجابه أية دولة أو أية فكرة أو أن تنفذ سياسة أو تضع حلًا لمشكلة، وبذلك يتقبل الناس تلك السياسة فيأخذون بالحل ويطبقونه. حتى إنها قبل أن تعد العُدة للفتح في جهة ما توجد رأيًا عامًا ضد تلك الدولة المقصودة وتبين فسادها وفساد أفكارها ونظمها وظلمها وضرورة إنقاذ الشعوب من جورها. فالرسول B أوجد رأيًا عامًا حتى يتمكن من عقد صلح الحديبية، وأوجد رأيًا عامًا ضد سياسات قريش من اضطهادها للمسلمين وفتنتهم عن دينهم وإخراجهم من ديارهم. ونزلت آية تعلم المسلمين ذلك، فقال تعالى: ]يَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ قِتَالٖ فِيهِۖ قُلۡ قِتَالٞ فِيهِ كَبِيرٞۚ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفۡرُۢ بِهِۦ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَإِخۡرَاجُ أَهۡلِهِۦ مِنۡهُ أَكۡبَرُ عِندَ ٱللَّهِۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰعُواْۚ وَمَن
يَرۡتَدِدۡ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَيَمُتۡ وَهُوَ كَافِرٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ [.
وأميركا تعمل على تضليل الرأي العام، فتوجد رأيًا عامًا لتبرر عدوانها ضد أية دولة تقصدها، وتمارس الكذب والتضليل وكل الأساليب المنحطة، فهي تؤمن بالمقولة الفاسدة بأن الغاية تبرر الوسيلة. فحديثها عن القيم وعن الحرية وتحرير الشعوب والسلام والأمن… أساليب للتغطية على وحشيتها والوصول إلى أهدافها الاستعمارية، كما فعلت مع العراق بكذبة أسلحة الدمار الشامل؛ ولهذا اكتشف العالم كذبها وتضليلها، فلم يعد يصدقها، فما إن تبادر بنشر دعاية ضد دولة حتى يتبادر إلى أذهان الناس أن هناك كذبة ولعبة تريد أن تلعبها، وهي تستهدف ثروات تلك البلاد المقصودة والهيمنة عليها. فوجد رأي عام لدى شعوب العالم عن حقيقة أميركا الزائفة، ولم تستطع أن تصححه على عهد أوباما. وجاء ترامب ليؤكده ويزيد الطين بلة.
ولكن دولة الخلافة لا تشن حروبًا استعمارية تكون المستعمرات خدمًا للدول المستعمرة، تأمرها وتنهاها، تنهب ثرواتها وتستولي على خيراتها…إلخ، بل دولة الخلافة خلال الفتح تحمل الرسالة السمحة والرحمة لإنقاذ الشعوب من جور الأديان وظلم الحكام، ومن سيطرة أصحاب رؤوس الأموال على ثروات البلاد… هكذا هي الدولة في الإسلام تعيد الثروة لأهلها وتكون بأيدي أصحابها، فتصبح البلاد المفتوحة والفاتحون سواسية في الخير والعدل الذي ينشره الإسلام.
12- قوة العمل السياسي والدبلوماسي النشط، ومنه فرض الحلول والمعالجات للقضايا العالمية، وفضح الدول الاستعمارية، وكشف خططها ومؤامراتها، وضرب مخططاتها، وذلك بالاتصال السريع والدؤوب بالدول الأخرى لتوعيتها وكسبها، ولئلا تقبل بحلول تلك الدول الاستعمارية ومشاريعها وترفض تدخلها وتتصدى له، كما تقوم الدولة بالمناورة السياسية لهزيمة أعدائها. والآيات الكريمة وأعمال الرسول B كلها تركز أولًا على العمل الفكري والسياسي وتحرص على أن يتم الأمر بدون قتال ولا إراقة دماء… ولذلك عند الفتح فإن القتال يكون آخر خيار وقبله الدعوة للإسلام، فإن أسلموا فيُكف عنهم ويصبحون إخواننا، فالمسلم أخو المسلم، وإن لم يُسلم أهل الكتاب يبقون على دينهم ويعيشون بين المسلمين في ذمتهم، تُرعى شؤونهم كما تُرعى شؤون المسلمين وفق الأحكام الشرعية، فإن لم يقبلوا بهذا ولا ذاك عندها يكون القتال، أي هو الخيار الأخير، وهذا واضح في وصايا رسول الله B للجيش عند الفتح، وكذلك وصايا الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. أخرج مسلم في صحيحه عن سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ B إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَمْثُلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ… فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ…»، هكذا هو الإسلام في سلمه وحربه، فقلَّما تجد أمة من الأمم تعطي خيارًا لأعدائها… ولكن الإسلام هو الحق الذي ما بعده حق، وهو العدل الذي ما بعده عدل، والحمد لله رب العالمين.
13- احترام المواثيق والاتفاقات والمعاهدات التي تعقدها مع الدول الأخرى. ولا تنقضها البتة إذا لم ينقضها الطرف الآخر. فهذا يزيد من الثقة بهذه الدولة، مما يجعلها مؤثرة دوليًا، ويقبل الناس عليها وعلى مبدئها، بل يلجؤون إليها للتحاكم. وقد طلب الله الوفاء بالعهود. قال تعالى: ]يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ[، وقال: ] وَأَوۡفُواْ بِٱلۡعَهۡدِۖ إِنَّ ٱلۡعَهۡدَ كَانَ مَسُۡٔولٗا [، وكانت الدولة الإسلامية مثالًا على ذلك منذ عهد الرسول B.
أما الدول التي تنقض مواثيقها واتفاقاتها ومعاهداتها كما تفعل أميركا، فعمرها قصير مهما طال. فالآن لا ترى مزاحمًا لها على مركزها كدولة أولى فتفعل كما يحلو لها مستهترة بالدول الكبرى الأخرى وبكل دول العالم، وترى دول العالم كلها أقل منها بكثير ولا تقوى على تحديها وتفرض عليها ما تشاء، فأصابها الغرور وعدم الاكتراث بما يقوله الناس. وبهذا ستفقد كل شيء مع الزمن. وإذا ما أقيمت دولة الخلافة فسيكون من السهل إسقاطها من مركزها وطردها من مناطق نفوذها. ونرى كيف يسخط العالم عليها وهي تنقض معاهداتها واتفاقاتها التي وقعتها، وهي تتوهم أنها تحسن صنعًا، ولا تفكر إلا في مصالح آنية لها، مما يؤكد أن وضعها يتهاوى، ولم تعد موثوقة. وهذه من علامات السقوط الكبرى.
14- قدرة الدولة على تجميع الدول الأخرى حولها وجذبها نحوها وتأمين سيرها وراءها أو تحت رايتها، فذلك يدل على قوة تأثيرها. ولهذا سوف تعمل دولة الخلافة على ذلك لتكون مؤثرة، وتتمكن من هدم المؤسسات الدولية الجائرة التي تستخدمها الدول الكبرى وخاصة أميركا، كالأمم المتحدة ومشتقاتها كلها، وتقدم البدائل عنها وتجلب دول العالم نحو ما تقدمه، فتقيم منظمة أو منتدى مبنيًا على العرف العام. وتعقد المؤتمرات والندوات والنقاشات الدولية في كل مجال لتعالج كافة المشاكل الدولية. وتبني مؤسسات عالمية تقودها في كافة المجالات موافقة لأحكام الإسلام وتقود الدولة دول العالم ضد الدول الاستعمارية المعتدية وتنصر المظلومين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الفضول: «لَوْ دُعِيْتُ بِهِ فِي الإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ».
15- القوة الاقتصادية، فبها توجد الدولة تأثيرًا على الدول الأخرى. فنجاح الدولة اقتصاديًا يظهر تقدمها وتقدم الأفكار؛ حيث يرى العالم أن التقدم الاقتصادي كان بفضل الأفكار التي تتبناها وتطبقها الدولة الناجحة اقتصاديًا. وخاصة إذا هي قد عالجت مشاكلها في الداخل وتمكنت من القضاء على مظاهر الفقر والحرمان والتخلف، سواء في البنية التحتية أو الفوقية، وأوجدت وفرة مالية وغنى في البلد، فتظهر للناس قوتها الاقتصادية. مما يجعل الدولة نموذجًا في النجاح يتطلع إليها الناس فتصبح مؤثرة. وأكثر معاناة الدول حاليًا هو في الناحية الاقتصادية حيث إن المال هو عصب الحياة. فإذا لم تعالج مشاكلها الاقتصادية فإن ذلك يكون أحد الأسباب الدافعة لحدوث الاضطرابات أو التمردات والعصيان. وقد حرصت الدولة الإسلامية على معالجة هذه المسألة وأشبعت حاجات الناس ووفرت لهم الأموال وتقدمت اقتصاديًا وأصبحت أقوى دولة في العالم اقتصاديًا. وكل ذلك بفضل تطبيق أحكام الإسلام. فهذا النجاح يكون محل جذب للدول والشعوب في العالم نحو الإسلام وتقبله. وهناك آيات عديدة تتحدث عن هذه المعالجات من إيجاد التوازن الاقتصادي في المجتمع وتوزيع الثروات على الناس ومعالجة الفقر ومساعدة العاجزين وتأمين فرص العمل للقضاء على البطالة وتوفير ما يحتاجه الناس بأسعار قادرين على دفعها وزيادة، وتقوم الدولة بتوفير الإمكانيات للناس وتتيح الفرص لهم حتى يحصلوا على الكماليات بكل أريحية، وكل ذلك وفق أحكام الإسلام التي يسير عليها المجتمع.
16- القوة التجارية، وهذا يجعل الدولة مؤثرة عالميًا؛ حيث تقوم الدولة ببناء علاقات تجارية قوية مع أكثر دول العالم، فتعمل على فتح أسواقها أمام تجارتنا، كما نفتح أسواقنا لها بحيث يصبحون معتمدين علينا في التجارة. وهذا يوجد تأثيرًا على هذه الدول ويجعلها محتاجة لتصدير بضائعها وتلقي بضائع منا حديثة ليست لديها. وبواسطة التبادل التجاري نستطيع أن نؤثر عليهم لتأييد سياستنا أو الوقوف بجانبنا، وكذلك لجذبهم إلى الإسلام، فيتأثرون بحسن المعاملة في التجارة فيجلبهم ذلك إلى مبدأ الدولة، ولهذا دخلت شعوب كثيرة في الإسلام في الماضي عن طريق التجارة.
وقد عملت أميركا على التأثير على كثير من الدول عن طريق التجارة لاحتوائها أو لجعلها تحت تأثيرها أو لاستعمارها، وكذلك لنشر قيمها وأفكارها الفاسدة، وربطت كثيرًا من الدول بها تجاريًا. ولكن غطرستها وعنجهيتها وشنها الحروب العدوانية لم يجعل شعوب العالم تتقبلها وتتقبل فكرها. فرأت أن العالم يستفيد منها وهي في أزمة اقتصادية ومالية لا تستطيع الخروج منها، فأعلنت الحرب التجارية على العدو والصديق ابتداء من العام الماضي، وذلك لتعدل من العجز التجاري بينها وبين الدول الأخرى، وهذا يدل على ضعفها وبدء انحدارها؛ لأنها لم تستطع أن تواصل العلاقات التجارية كما تتطلب هذه العلاقات؛ فلجأت إلى أساليب فرض الضرائب لتنفر الناس منها ويقل تأثيرها على الشعوب.
هذه هي أهم عوامل التأثير الدولي، ويبقى إعداد وتأهيل أبناء الأمة للقيام بهذه المهمات الثقيلة، وهذه وظيفة الدولة عند قيامها، في المدارس والجامعات ووسائل الإعلام، وهي الآن وظيفة الأحزاب السياسية والجماعات الإسلامية وهي تحمل الدعوة لإقامة هذه الدولة العظمى، وتعمل على إيجاد رأي عام لدى الأمة حتى يقبل أبناؤها على القيام بها كل حسب قدرته وميوله. وبذلك تصبح دولة الخلافة القائمة قريبًا بإذن الله هي الدولة المؤثرة عالميًا والدول الأخرى دونها، بل ربما تكون تلك الدول قد مسحت عن خارطة التأثير وأصبحت متأثرة تترقب وصول الإسلام إليها، وتكتفي بالدفاع أو تؤثر السلامة فتخضع لدولة الخلافة. ]وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِۦ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ[.
2019-08-27