خبَّابُ بنُ الأَرَتِّ
رحم الله خبَّابًا،فقد أسلم راغبًا،
وهاجر طائعًا، وعاش مجاهدًا.
[علي بن أبي طالب]
مضت أمُّ أنمارٍ الخُزَاعِيَّةُ إلى سوقِ النخَّاسين (النخاسون: بائعو العبيد، والمفرد نخاس) في مكَّةَ. فقد كانت تُريدُ أَن تَبتَاع لنفسِهَا غلامًا تنتفعُ بِخِدمتَه، وتَستَثمِرُ عملَ يده.وطفِقَت تتفرَّسُ في وجوهِ العبيدِ المعروضين للبيعِ، فوقع اختيارُها على صَبيّ لم يَبلُغِ الحُلُمَ؛ رأت في صِحَّةِ جَسَدِهِ، ومَخايِلِ النَّجَابةِ الباديَةِ على وجهه، ما أغراها بِشرائِه، فدَفَعَت ثمنَه وانطلقَت به. وفيما هما في بَعضِ الطريقِ، التَفَتت أُمُّ أنمارٍ إلى الصَّبِّي وقالت: ما اسمُك يا غلام؟ قال: خَبّاب. فقالت: وما اسمُ أبيك؟ قال: الأَرَتُّ. فقالت: ومن أين أنت؟ قال: من نجد. فقالت: إذن أنت عربي!! قال: من بني تميم. قالت: وما الذي أوصَلَكَ إلى أيدِي النخاسين في مكة ؟!!! قال: أغارَت على حَيِّنا قبيلةٌ من قبائِلِ العَرَبِ، فاستاقَتِ الأنعامَ وسَبَتِ النِّساءَ، وأخذتِ الذراريَ، وكنتُ فيمن أُخِذَ من الغِلمانِ، ثم ما زالَت تَتَداولُنِي الأيدي حَتّى جيءَ بي إلى مكةَ، وصِرتُ في يَدِك. دفعت أم أنمارٍ غلامَها إلى قَيِّنٍ من قُيونِ مكَّةَ لِيُعلِّمَه صناعةَ السُّيوف، فما أسرَع أن حَذقَ الغُلامُ الصنعة وَتَمكَّنَ منها أحَسنَ تَمَكُّنٍ. ولَمّا اشتدَّ ساعِدُ خَبّاب وصَلُبَ عودُه، استأجرت له أمُّ أنمارٍ دكَّانًا، واشتَرَت له عُدَّةً، وجَعَلت تَستَثمِرُ مهارَتَه في صُنعِ السيوف. ثم لم يمضِ غيرُ قليل على خبابٍ حتى شُهِر في مَكَّةَ، وجَعَلَ الناسُ يُقبلون على شراءِ سُيوفِه لِما كان يَتَحلّى به من الأمَانَةِ والصدقِ وإتقانِ الصًّنعَةِ.
وقد كان خبّابٌ على الرُّغمِ من فَتَائه يَتَحلّى بعقل الكَمَلَةِ وحِكمةِ الشيوخ، وكان إذا ما فَزَعَ من عَمَلِه وخَلا إلى نَفسِه كَثيرًا ما يُفَكِّرُ في هذا المجتَمَعِ الجاهِليِّ الذي غَرِقَ في الفَسادِ من أَخمَصِ قدميه إلى قِمةِ رأسه، ويهولُه ما رانَ على حياةِ العربِ من جَهالةً جَهلاءَ، وضلالَةٍ عَميَاءَ، كَانَ هو نفسُه أحَدَ ضَحايَاها، وكان يقول: لا بُدَّ لهذا الليلِ من آخر، وكان يَتَمنّى أنْ تمتدَّ بِه الحياةُ لِيرَى بعينيه مَصْرَعَ الظلامِ ومَولِدَ النورِ. لم يَطُل انتظارُ خَبَّابٍ كثيرًا، فقد تَرامَى إليه خيطًا من نورٍ قد تألَّق من فمِ فتىً من فِتيانِ بني هاشم يدعَى محمدَ بنَ عبدِ اللهِ، فَمَضى إليه، وسَمِعَ منه، فَبَهرهُ لأْلاؤه، وغَمرَه سناه، فَبَسَطَ يَدَه إليه، وشَهِدَ أنْ لا الهَ إلّا الله وأن مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه، فكان سادِسَ سِتَّةٍ أسلموا على ظهرِ الأرضِ حَتّى قيل: مَضى على خَبّابٍ وقتُ، وهو سُدُسُ الإسلامِ.
لم يكتُم خبّابٌ إسلامَه عن أحدٍ، فما لَبِثَ أن بلغَ خَبَرُهُ أمَّ أَنمارٍ، فاستَشاطَت غَضَبًا وغيظًا، وَصَحبت أخاها سباعَ بنَ عبدِ العُزَّى، ولَحِقَ بهما جماعَةٌ من فِتيانِ خُزاعَةَ، ومضَوا جميعًا إلى خَبّابٍ فوجده مُنهَمكًا في عَملِهِ، فأَقبَل عليهِ سِباعٌ وقال: لقد بَلَغَنَا عنك نَبآٌ لم نُصَدّقه. قال خبابٌ: وما هو؟ فقال سِباعٌ: يُشاعُ أَنَّك صَبأتَ وتَبِعت غُلامَ بني هاشم. فقال خبابُ (في هدوء): ما صَبَأتُ، وإنّما آمنتُ باللهِ وحدَه لا شريك له، وَنَبذتُ أصنامكم وشَهِدتُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه… فما إنْ لامَسَت كلماتُ خَبابٍ مَسامِعَ سِبَاعٍ ومن مَعَه حتّى انهالوا عليه، وجَعَلوا يضربونَه بأيديهم، ويَركُلونَه بأقدامهم ويَقذِفونَه بما يَصِلون إليه من المطارِق وقطع الحديد؛ حتى هَوى إلى الأرضِ فاقِدَ الوعي، والدِّماءُ تنزِفُ منه.
سَرى في مَكَّةَ خبرُ ما جَرى بينَ خَبّابٍ وسَيدتِه سريانَ النار في الهَشِيمِ، وذَهَلَ الناسُ من جَراءة خَبابٍ إذ لم يكونوا قد سَمِعُوا من قبلُ أنَّ أحَدًا اتَّبَعَ محمدًا ووقف بينَ الناس يُعلِن إسلامَه بمثل هذه الصّراحَةِ والتحِدّي، واهتَزَّ شيوخُ قريشٍ لأمر خَبابٍ فما كان يخطر على بالِهم أن قِينًا كقين أمِّ أنمارٍ، لا عَشيرَةَ له تَحميه ولا عَصبِيَّة تَمنعُه وتُؤويه، تَصِل به الجُرأة إلى أَن يَخرُج على سُلطانِها ويَجهرَ بِسَبِّ آلِهتِها ويُسِفه دينَ آبائها وأجدادها، فأَيقنت أن هذا يِومٌ له ما بَعدَه … ولم تَكن قريشٌ على خطأ فيما تَوقَّعتهُ، فلقد أَغرَت جُرأةُ خبّاٍب كثيرًا من أصحابهِ بأن يُعلِنوا إسلامَهم، فطَفِقوا يَصدَعون بكلمةِ الحقِّ واحدًا بعد آخَر…
اِجتمع سادَةُ قريش عند الكعبةِ، وعلى رأسِهم أبو سفيانَ بنُ حربٍ، والوليدُ بنُ المغيرَةَ، وأبو جهل بنُ هشامٍ وتذاكروا في شأنِ محمدٍ، فرأَوا أن أمرَه أخَذَ يزداد ويَتفاقَمُ يومًا بعد يومٍ، وساعَةً إثرَ ساعةٍ؛ فعزموا على أن يَحسِموا الداء قبل اسِتفحالِهِ، وقرروا أن تثِبَ كُلُّ قبيلةٍ على من فيها من أتباعِه، وأن تنكِّل بهم حتّى يَرتدّوا عن دينهم أو يموتوا، وقد وَقعَ على سباعِ بنِ عبدِ العُزَّى وقومِه عِبءُ تَعذيبِ خبَّاب. فكانوا إذا اشتدَّت الهاجِرةُ، وغَدت أَشِعَّةُ الشمسِ تُلهِبُ الأرض إلهابًا، أخرجوه إلى بَطحاءِ مكَّة، ونَزعوا عنه ثيابَه، وألبَسُوه دروعَ الحديدِ، ومنعوا عنه الماءَ حتى إذا بَلغَ منه الجُهدُ كُلَّ مَبلغٍ أقبلوا عليه وقالوا: ما تقول في محمدٍ؟ فيقول: عبدُ الله ورسولهُ، جاءَنا بدين الهُدى والحقِّ ليُخرجنَا من الظُّلماتِ إلى النور؛ فيوسعونه ضَربًا ولكمًا، ثم يقولون له: وما تقولُ في اللَّات والعُزَّى؟! فيقول: صنمان أصَمَّان أبكَمان لا يَضُران ولا ينفعان؛ فيأتون بالحِجارة المحمِيَّةِ ويُلصقونها بِظهره ويُبقونها عليه حتى يسيلَ دُهنُ كتفيه…
ولم تكن أمُّ أنْمارٍ أقلَّ قسوةً على خبَّابٍ من أخيها سباعٍ، فقد رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَمرُّ بدُكانِه، ويُكلمُه فجُنَّ جنونُها لما رأتْ، وأخَذت تجيء إلى خَبًّاب يومًا بعد يومٍ فتأخذ حديدةً محمِيةً من كِيرِه وتضعُها على رَأسه حتى يدخِّن رأسه ويُغمى عليه، وهو يدعو عليها وعلى أخيها سباعٍ. ولما أَذِنَ الرسولُ صلوات الله عليه لأصحابه بالهجرة إلى المدينة تَهيَّأ خبابٌ للخروجِ. غير أنًّه لم يُبارح مكًّةَ إلا بعد أن استجابَ الله دعاءَه على أمِّ أنمارٍ؛ فقد أُصيبت بِصُداعٍ لم يُسمع بمثلِ آلامِهِ قطُّ، فكانت تعوِي من شدَّة الوجَعِ كما تّعوي الكلابُ. وقام أبناؤها يستطبون لها في كلِّ مكان، فقيل لهم: إنه لا شفاءَ لها من أوجاعها إلا إذا دَأبَتْ على كَيِّ رأسِها بالنار، فجعلت تَكوي رأسها بالحديدِ المَحميِّ ؛ فتَلقى من أوجاعِ الكيِّ ما يُنسيها آلامَ الصُّداع…
ذاقَ خبَّاب في كَنفِ الأنصارِ في المدينةِ طَعمَ الراحةِ التي حُرِم منها دهرًا طويلًا، وقرَّت عينُه بِقُرب نبيِّه صلواتُ الله وسلامُه عليه دونَ أن يكدِّرَه مكدِّرٌ أو يُعكِّرَ صفوَه مُعكرٌ، وشهِدَ مع النبي الكريم بدرًا، وقاتل تحت رايتِه، وخرجَ معه إلى أُحد، فأقَرَّ الله عينه برؤية سِباعِ بن عبدِ العُزَّى أخي أمِّ أنمارٍ وهو يلقَى مصرَعَه على يَدِ أسَدِ الله حَمزة بن عبد المطَلب، وامتدَّت به الحياةُ حتى أدرَك خلفاءَ رسولِ الله الراشدين الأربعة. وعاش في رِعايتهم جليلَ القدرِ نَبِيه الذِّكرِ.
ودَخلَ ذات يوم على عمرَ بن الخطابِ في خِلافته، فأعلَى عمرُ مَجلِسَه، وبالَغَ في تَقريبه وقال له: ما أَحدٌ أحقَّ منك بهذا المجلس غير بلالٍ، ثم سألَه عن أشدِّ ما لقِي من أذى المشركين، فاستحيا أنْ يجيبَه. فلمَّا ألحَّ عليه أزاحَ رداءهُ عن ظهرِه، فَجفِلَ عمرُ مما رأى، وقال: كَيف صار ذلك؟! فقالَ خبَّاب: أوقَدَ المشركون لي حطبًا حتى أصبحَ جمرًا، ثم نزعوا عنِّي ثيابي، وجعلوا يجُرونني عليه، حتى سقَطَ لحمي عن عظامِ ظَهري، ولم يُطفئ النَّار إلا الماءُ الذي نَزَّ من جَسدي.
اِغَتنى خبَّابٌ في الشّطر الأخيرِ من حياته بعد فقرٍ، وملك ما لم يمكن يَحلُم به من الذّهب والفضة، غير أنهُ تصَرفَ في مالِه على وجهٍ لا يَخطُرُ ببال أحدٍ؛ فقد وَضعَ دراهِمه ودنانيره في موضعٍ من بيته يعرفُه ذوو الحاجات من الفقراء والمساكين. ولم يَشدُدْ عليه رِباطًا ولم يخبئه، ولم يُحكِم عليه قفلًا، فكانوا يأتون داره ويأخذون منه ما يشاؤون دونَ سؤالٍ أو استئذانٍ … ومع ذلك فقد كان يخشى أن يُحاسب على ذلك المالِ، وأن يعذب بسببه.
حَدّثْ جمَاعةٌ من أصحابِه قالوا: دخلنا على خبابٍ في مرَضِ موته فقال: إن في هذا المكان ثمانين ألفَ درهمٍ، والله ما شددتُ عليها رباطًا قطُّ، ولا مَنَعتُ منها سائلًا قطُّ، ثم بَكى، فقالوا: ما يُبكيكَ ؟!! فقال: أبكي لأنَّ أصحابي مضَوا ولم ينالوا من أجورِهم في هذه الدنيا شيئًا، وأنني بقيتُ فنِلت من هذا المالِ ما أخافُ أن يكونَ ثوابًا لتلك الأعمال…
ولما لحق خَبابٌ بجوار ربِّه وقف أميرُ المؤمنين عليُّ بنُ أبي طالب رَضيَ الله عنه على قبره وقال: رَحِمَ الله خبابًا، فلقد أسلَمَ راغبًا، وهاجَرَ طائِعاَ، وعاش مجاهدًا… ولَن يُضيعَ اللهُ أجرَ من أحسَنَ عملًا.