مخطّطات الغرب لتحريف الإسلام: «الإسلام الأميركي» و«الإسلام الفرنسي» نموذجًا (2)
الأستاذ بسّام فرحات
الإسلام الفرنسي
المشروع الثاني والمنسوب إلى فرنسا هو مشروع فكري نظري أكثر منه سياسي عمَلي، أمّا ثماره فليست آنيّة بل هي بعيدة المدى، فهو مشروع تأسيسي يستهدف الإسلام قبل المسلمين عبر وضع اليد على نصوصه ومصادره وآليّات فهْمِهِ واستنباط أحكامه؛ لِمَسخِه وتحريفِه وقولبته ونسخ تشاريعه وتطويعها لخدمة أغراض الكافر المستعمر الدّنيئة ومشاريعه المسمومة في تمييع المسلمين وتكريس انحطاطهم وتبعيّتهم واستبعاد نهضتهم، وهو بذلك يكون قد أسّسَ لتقاليد جديدة وخطِرة في التّعامل مع النّصوص الشّرعيّة – حدًّا وفهمًا واجتهادًا واستنباطًا وتفسيرًا وتأويلًا – تقطع كُليًّا مع المنظومة الفقهيّة الاجتهاديّة الإسلاميّة، استنطقت تلك النّصوص بما يتناقض كليًّا مع الشّرع الحنيف، ورامت بكلّ وقاحة وصفاقة إلى سحب – لا البساط فحسب – بل الإسلام برُمّته من بين أيدي المسلمين… وقد تولّت رسم ملامح هذا الإسلام المختلَق والمــُدَّعى والمتوهَّم المدرسةُ اليعقوبيّة اليساريّة الفرنسيّة التي تنكر الدّين وتفصله عن الحياة، وتُقصيه بالكليّة عن أنظمة المجتمع، وتقصُرُه على الطّقوس التعبّدية، وتزجّ به في غياهب المعابد والمقابر… ومن أبرز أعلام ومنظّري هذه المدرسة – المتطرّفة حتّى بالمفاهيم العلمانيّة – نذكر المستشرق الفرنسي ذا الأصول اليهوديّة مكسيم رودنسن وتلامذته من أمثال أوريانا فاوتشي وبرنار لويس وأندريه قلوكسمان وبرنار هنري ليفي وروبار مينار والطّاهر بن جلّون، هذه الجوقة الصّهيونيّة المكشوفة التي احترفت الطّعن في الإسلام والتّشكيك في ثوابته، وأوقفت عليه نفسها وتكوينها وإنتاجها الفكري، واتّخذت من ذلك هدفًا وعقيدةً ومنهج حياة، هالها في العقيدة الإسلاميّة أمران أوّلًا: وحدة الإسلام والنّاحية الأمميّة فيه، وثانيًا: وضوح الإسلام ومصداقيّة النّاحية التّشريعيّة فيه… فخطاب الشّارع موجّه للبشريّة جمعاء على قدم المساواة، والشّريعة تعالج مشاكل جنس الإنسان بما يوافق الفطرة ويقنع العقل ويملأ القلب طمأنينةً، والنّصوص الشّرعية بيّنة بليغة فصيحة مُزوّدة بآليّات عمليّة مضبوطة دقيقة لفهمها وتفعيلها واستنباط أحكامها، ممّا جعل من العقيدة الإسلامية بمثابة الإسمنت المسلّح الذي شدّ وما زال لبِنات العالم الإسلامي، والبوتقة التي انصهرت فيها تلك الفسيفساء من الأعراق والإثنيّات واللّغات… وأمام استحالة انتزاع تلك العقيدة الفطريّة الجبليّة من قلوب المسلمين، فلا أقلّ من تحويلها من عامل قوّة وتوحيد ونهضة ورقيّ إلى عامل ضعف وتفرقة وتفكُّك وانحطاط وتخلّف، وذلك بفرقعتها من الدّاخل إلى إسلامات (إقليميّة – وطنيّة – عرقيّة – مذهبيّة – طُرُقيّة…) متباينة عقيدةً وشريعةً وطقوسًا ومقدّسات ومواصفات، متناحرة متقاتلة فيما بينها، وهو مطلب عسير المنال ما دام القرآن (النصّ المرجعي المؤسّس للدّيانة) موحّدًا واضحًا بيّنًا في أذهان المسلمين مفعّلًا منزّلًا على الوقائع الجارية… فلا مفرّ إذن من المبادرة بضرب وحدته ووضوحه وتكريس عقمه التّشريعي وضبابيّة أحكامه وميوعتها بما يُفضي إلى خلق تعدّدية مرجعيّة تؤدّي بدورها إلى شكل من التعدّدية الدّينيّة ثمّ السياسيّة من خلال اعتماد قرآن وإسلام وشريعة وأحكام خاصّة بكلّ وطن وشعب وعرق ومذهب… وقد عبّر الرّئيس الفرنسي السّابق ساركوزي عن هذا المنزع في (التعدّدية الإسلاميّة) بقوله: (نحن ضدّ إسلام في فرنسا مع إسلام فرنسي).
المدارس الفقهيّة الحداثيّة
ولتوجد لنفسها سوقًا رائجةً بين المسلمين، عمدت مدرسة الإسلام الفرنسي إلى التقنّع بصنائعها وأذنابها والمضبوعين بثقافتها ممّن ينتسبون إلى الإسلام بمسقط الرّأس، واتّخذتهم ستارةً وأبواقًا محليّةً لتمرير أفكارها الهدّامة في دسم الآيات والأحاديث وتسهيل هضمها على العامّة… وقد تولّى اليسار الفرنسي مهمّة الاستقطاب والنّشر وتأسيس الخلايا، لا سيما في الدّول الفرنكوفونيّة والمستعمرات السّابقة؛ حيث أُنشئت (مدارس فقهيّة حداثيّة) على يدي جيل من الروّاد رَضع العلمانيّة والعداء للإسلام مباشرةً من ثدي الاستشراق الكولونيالي… أولى لبِنَات التأسيس تمثّلت في امتهان العلوم الشّرعية وتعويمها وإزالة الحواجز بينها وبين سائر الاختصاصات: فقد حوّل هؤلاء الروّاد وجهة البحوث والدّراسات الشّرعيّة إلى أقسام التّاريخ والحضارة والأدب، وأوكلوا بها أساتذة يساريّين وعلمانيّين وملاحدة، كما سمّموا مناهج مؤسّسات التّعليم الشّرعي نفسها بأباطيل علم اللاهوت وعلم الأديان المقارن (جامعة الزّيتونة تونس نموذجًا)… أمّا البصمة الوراثيّة لهذه المدارس الفقهيّة والمحور الذي تدور حوله سائر أفكارها ومباحثها فيتمثّل أساسًا في معالجة القضايا الشّرعيّة بخلفيّة غربيّة علمانيّة ثقافةً وآليّاتٍ، ونبذ تقديس الموروث الفقهي، وبيان انفتاح النّصوص الشّرعية على (قراءات) شتّى، ونحت ملامح إسلام متعدّد فضفاض مائع نسبي غامض لا مكان فيه للمقدّس والمحرّم والقطعي والثّابت والكامل واليقينيّ… من هذا المنطلق انخرط تلامذة هذه المدارس ومريدوها في الصّيد في المياه العكرة: فرفعوا شعار (الإسلام واحدًا ومتعدِّدًا) وانبرَوا يؤسّسون لتلك الإسلامات المختلفة بتكلُّف وتمَحُّلٍ ظاهرَيْن (الإسلام السُنّي – الإسلام الشّيعي – الإسلام الطُّرُقي – الإسلام الصّوفي – الإسلام الأفريقي – الإسلام الآسيوي – الإسلام الأوروبي…) وعمدوا إلى انتقاء بعض المسائل الحسّاسة من بطون الكتب الصّفراء والخوض فيها والتّرويج لها ومعالجتها بتعسُّف ومسخ خدمةً لمشاريع الاستعمار، منها ما هو من قبيل المسلّمات التي بان وَجْهُ الحقّ فيها للسّلف قبل الخلف (الميراث – التّعصيب – الحجب – الكَلَالة – المهر – العدّة…) ومنها ما يندرج في سياق النّضال النّسوي (زواج المتعة – ختان البنات – تزويج القاصرات – تعدّد الزّوجات – بيت الطّاعة…) ومنها ما هو من قبيل الفقه الشّبقي الأبقوري الإباحي (المثليّة – الازدواج الجنسي – نكح اليد – غلمان الجنّة – الزّنا – تعدّد الأزواج…) وهي في مجملها قضايا من ورق وحسب الطّلب خدمة لمشاريع الاستعمار ولإملاءات صندوق النّقد الدّولي (المثليّة – المساواة في الميراث… )
لقد أطلق (شيوخ الإسلام الحداثي) في معالجتها العنان لمخيّلاتهم الجدباء ترتع في النّصوص الشّرعيّة وتستنطقها بما يحرّم ما أحلّ الله ويُحلّل الكبائر، ولم يحصد المتلقّي من ورائها إلاّ التّذبْذُب والشكّ والاستخفاف بالإسلام والاستهانة به وبأحكامه وشرائعه، وذلك هو المراد وبيت القصيد… ولئن كانت مدرسة الإسلام الأميركي تستهدف المسلمين بدراسة الحركات الإسلاميّة وتوظيفها، فإنّ مدرسة الإسلام الفرنسي تستهدف الإسلام بدراسة الثّقافة الإسلامية والعلوم الشّرعيّة لفهم العقليّة التّشريعيّة الإسلاميّة وكيف تعمل الماكنة التّشريعيّة الإسلامية بغيةَ إعطاب آليّاتها الأساسيّة واستبدال أخرى بها تنسف الشّريعة من الدّاخل… وليتسنّى لها ذلك عمدت إلى استهداف أهم عناصر العمليّة التّشريعيّة: مصادر التّشريع، وآليّات التّشريع، والعقليّة التّشريعيّة، عَساها تتمكّن من التحكّم في الشّريعة الإسلاميّة وصياغتها وفق أهوائها ومصالحها ومآربها الخسيسة…
مصادر التّشريع
إنّ أقصر طريق لاستهداف عقيدةٍ ما وتقويض أركانها هو استهداف مصادر تشريعها ونصوصها التّأسيسيّة؛ فتفقد خصوصيّتها وتميُّزها ومبدئيّتها وطاقتها التّشريعيّة، ويُؤتى بنيانها من القواعد… من هذا المنطلق شنّ مُنظّرو المدرسة الفقهيّة الحداثيّة حربًا شعواء على الكتاب والسنّة وما أرشدا إليه من إجماعٍ وقياس، وتفنّنوا في القدح فيها ونسج الشّبهات حولها مراوحين بين إنكارها جملة أو ضرب مصداقيّتها وحُجيّتها أو جرّها عنوةً لشهادة زور دافعها أيديولوجي سياسي لا عقديّ تعبُّدي…
1- القرآن الكريم: عَمَدوا إلى الطّعن في حجيّته بوصفه مصدرًا أساسيًا للتشريع، مُتصنّعين التّجرُّد والموضوعيّة العلميّة والبحث العلمي النّزيه، وبنَوا طعنهم ذاك على فريةٍ مفادُها أنّ جمع مادّة القرآن الكريم وتنظيمها وتدوينها عمليّة متأخّرة عدّة عقود عن العصر النّبوي، محفوفة بالمزالق متأثّرة بأخطاء الرّواة خاضعة لنزوات السّاسة وللنّوازع المذهبيّة لا يمكن الاطمئنان إلى مصادرها علميًّا: فالحفّاظ قُتل أغلبهم في المغازي، والكتابة وسائلها بدائيّة عُرضة للتّلف والضّياع عصيّة على التّنظيم والتّبويب (عظام – جريد – جلود – حجارة – رقاع…) ممّا أحدث اضطرابًا كبيرًا في النصّ النّهائي للقرآن، فلم يخْلُ – شأنَه شأن أيّ نصّ بشري عادي – من التّحريف والتّبديل والزّيادة والنّقصان والإسقاط والتّصحيف والتّشويش… وبالتّالي فإن لم تكن هذه (الحقائق) مطعَنًا فيه إجمالًا فلا أقلّ من أن تنفي عنه تلك الهالة المبالغ فيها من القداسة، وذاك الالتزام الدّقيق والحرفي بما جاء فيه، والاكتفاء باعتباره مجرّد خطّ عريض ومرجعيّة يُهتدى بها وليس نصًّا يُلتزَمُ به ظاهرًا وباطنًا منطوقًا ومفهومًا… ولم يكتفوا بذلك بل حاكوا ضدّ كتاب الله جملةً من المشاريع المسمومة بمنتهى الخبث والدّهاء والمكر من قبيل:
أ: الصّنصرة والتّحريف: فقد أُخضع كما المسلمين إلى الدّمقرطة ومحاربة (الإرهاب) عن طريق المطالبة بتنقيته من آيات السّيف والجهاد والآيات (اللاّساميّة) التي تهاجم يهود وتفضح إجرامهم، وصولًا إلى ترويج مصاحف منقّحة فيها (سور جديدة) كما حدث في العراق (قرآن فاطمة وسورة الولاية)…
ب: التصرّف في بنيته: بتشويش نظام المصاحف العثمانيّة وإعادة ترتيب الآيات والسّور زمنيًّا حسب خطيّة نزول الوحي، أي كتابة مقاربة جديدة للقرآن الكريم انطلاقًا من التّسلسل الزّمني الذي نزلت وَفْقَهُ الآيات، بما يُفضي إلى نصّ جديد بمضمون مخالف للقرآن الأصلي، وهذا نسخٌ لأحكام الله…
ج: الفصل عن السنّة: وقد نادى به (القرآنيّون) الذين ينكرون السنّة ويفصلون بينها وبين الكتاب، وهي محاولة وقحة لتجميد القرآن وعزله عن طريقة تفجير الطّاقة الكامنة فيه… فأيّ محاولة لفكّ التّرابط والتّلازم بين القرآن والسنّة هي بمثابة الإعدام لكتاب الله بوصفه مصدر تشريع؛ لأنّ السنّة قاضية على القرآن تفصيلًا وتقييدًا وتخصيصًا وتنزيلًا على الوقائع الجارية وتفريعًا وتزويدًا بأصول تشريعيّة…
د: التّرجمات المغرضة: وقد غطّت كافّة لغات العالم الحيّة منها وشبه الميتة، ولم تستثنِ حتّى اللّهجات المحليّة والقبليّة، وهي ترجمات تتّسم بالتّحريف الشّديد والمغالطات الفظيعة المتعمّدة… ومكمن الخطر في ذلك أنّ اللّغة العربيّة جزء لا يتجزّأ من القرآن الكريم، وبدونها لا يُسمّى قرآنًا ويفقد إعجازه وقداسته ومرجعيّته التّشريعيّة؛ لأنّ هذه الأخيرة متولّدة عن اتّحاد معنى الوحي مع اللّفظ والتّركيب والأسلوب والحرف والرّسم العربي واقترانهما بشكل يُفضي إلى النّظم المعجز… فالتّرجمة هي عمليّة سحب للقرآن من بين أيدي المسلمين الأعاجم، وتحريف لمعانيه، وطمس لتشاريعه، وحيلولةٌ دون فهمه وتفعيله، هذا فضْلًا عن تكريس الضّبابيّة والغموض وتعدّد الرّوايات المفضي إلى تعدّد المصاحف. فالمذاهب ثمّ الدّيانات وصولًا إلى تكريس مسوّغ ديني جديد لمزيد من تفتيت المسلمين وتمزيقهم ينضاف إلى المسوّغين العرقي واللّغوي…
2- السُنّة: إنّ اللاّفت للانتباه أن أعلام (المدرسة الفقهيّة الحداثيّة) ومريديهم على وعي تامّ بمكانة السنّة المشرّفة من الإسلام والقرآن – فهْمًا وتشريعًا وتنزيلًا على الوقائع الجارية – لذلك استماتوا في استهدافها والنّيل منها، سواء في كُليّتها بوصفها مصدر تشريع، أم في جزئيّاتها وتفاصيلها – كمًّا ورواةً وسَنَدًا ومتْنًا وتصنيفًا وأقسامًا – فعُوملت باستهانة واستخفاف، وطُعِن في حُجيّتها لإبطال الاستدلال بها، وانتهى بهم الأمر إلى إنكارها وفصلها عن القرآن الكريم كما مرّ بنا… كما لُبّس مفهومها وأضحى مرادفًا للاقتباس: فالرّسول في المدينة اجتهد وعالج الوضعيّات بما أملاه عليه الواقع والمحيط، وبما هو متوفّر ومتاح في الجزيرة العربيّة من أنظمة وإداريّات ووسائل وأساليب، فالأخذ بالسنّة إذًا هو الاقتباس من الواقع في كلّ عصر ومصر كما فعل عمر مع الدّواوين، وليس استنساخ (التّجربة المحمّدية في المدينة)… وإذا كان القرآن الكريم – في ضبطه ودقّته وتواتُره وإعجازه الأسلوبي وحِفظه من الله تعالى – لم يسلم جَمعُه وتدوينه في شرع هؤلاء من المزالق والأخطاء، فإنّ السنّة النّبوية ليست إلاّ مجرّد (أدب إسلامي) بكلّ ما توحي إليه كلمة أدب من خيال وتأليف ووضع وتصرُّف وتكسُّب وكذب: فلكلّ فرقة أحاديثها ورواتها وتصنيفاتها، ومعظم الأحاديث موضوعة لإثبات موقف مذهبي، أو دفع رأي مخالف، أو الانتصار لفئة أو طائفة، أو لمجرّد التقرّب من الحكّام أو استدرار عطائهم تمامًا كالشّعراء… ودونك الكمّ الهائل لمدوّنة الأحاديث، فهل يُعقل أن يروي أبو هريرة وحده ستّة آلاف حديث، ولو لم ينهَهُ عمر بن الخطّاب لواصل الرّواية..؟؟ كما أنّ السنّة عندهم كلّها أخبار آحاد، وحتّى ما صُنِّف منها متواترًا فهو لا يفيد اليقين؛ لأنّ التّواتر لا ينفي إمكانيّة التّواطؤ على الكذب… وعلى هذا الأساس اقترحوا وضع قواعد جديدة لفهم الحديث وقبوله أو ردّه، مهملين السّند مركّزين على نقد المتن فقط، مفسحين المجال للعقل العلماني كي يُصنصرَ الأحاديث النّبويّة وفق مقاييس الكافر المستعمر…
3- الإجماع والقياس: وهما الحلقة الأضعف في الأدلّة الشّرعية، ورغم ذلك فإنّ سوء النيّة والصّيد في الماء العكر أدّى بمشائخ الإسلام الحداثي إلى التّعامل معهما بكيفيّتين مختلفتين: أمّا الإجماع وهو عُمدةٌ لا سيّما في الاستدلال على أجهزة دولة الخلافة وتفصيلاتها الدّقيقة التي تبلوَرت زمن الخلفاء الرّاشدين، فإنّهم نسفوه على مراحل، فأثاروا الشّكوك حولهُ – حدًّا وحجيّةً وواقعًا ومجالًا وصلاحيّات – هل هو إجماع (الصّحابة – العلماء – الأمّة – العترة – أهل المدينة – أهل الحلّ والعقد…؟) وهل هو رأي الصّحابي أم اجتهاده؟ وهل يُنشئ شرعًا أم يُخبرُ بشرع؟ وهل هو وحي أم لا؟… وقد وصل بهم (تحليلهم العلمي المنطقي الموضوعي) إلى نسفِهِ ونفيِهِ كدليلٍ شرعي: فلم يحصل في تاريخ المسلمين إجماع بين الصّحابة حول مسائل معيّنة، وإنّما هو استغلال لمنصب الخلافة من أجل إلزام الصّحابة وسائر المسلمين باجتهادات وآراء شخصيّة… فما سُمّي إجماعًا هو عبارة عن إجراءات انفرد بها الخلفاء الرّاشدون أضافوا من خلالها تشاريع جديدة أو خالفوا أحكامًا شرعيّة، وهي تصرّفات بشريّة لا علاقة لها بوحي… وقد برّروا موقفهم هذا بجملة من المغالطات لعلّ أفظعها أنّ عمر أبطل الحدود (عدم القطع في المجاعة) وخالف الرّسول في توزيع الفيء والغنائم (سواد العراق) بل وأضاف في العبادات (صلاة التّراويح) وفي كلّ ذلك ما فيه من مبرّر لهم للنّسج على منواله… وأمّا القياس فرغم أنّه بابٌ مشرّعٌ على المطاعن من حيث واقعه ودليله، حتّى إنّ معظم المذاهب والفرق لا تعترف به دليلًا شرعيًّا، إلاّ أنّهم استثنوه من حملتهم الشّعواء على مصادر التّشريع واتّخذوه مطيّةً ذَلولًا لتغليف سمومهم برداء شرعي شفّاف… فالقياس – حدًّا وممارسة – يتّسم بشيء من الميوعة والضّبابيّة، وهي أجواء تبيض فيها عقولهم الجدباء وتُفرّخ وتتيح لهم مهمّة المراوغة والمخاتلة والالتفاف ودس السمّ في الدّسم، لذلك فقد تحوّل القياس على أيديهم من (ردّ فرع على أصل لاشتراكهما في العلّة) إلى (ردّ فكرة غريبة على الإسلام لغاية دنيئة في نفس الكافر المستعمر) بحيث إنّه أصبح قياسًا عقليًّا قائمًا على علّةٍ عقليّة منطقيّة لشرعنة فرية استعماريّة…
آليّات التّشريع
بعد استهداف مصادر التّشريع انتقلت المدرسة الفقهيّة الحداثيّة إلى استهداف آليّات التّشريع أي الاجتهاد وما يتعلّق به… ذلك أنّ أباطيل الاستشراق الكولونيالي التي كُلّفت تلك المدرسة بترويجها اصطدمت بجملة من العقبات، أولاها: جهاز اصطلاحي فقهي دقيق ومضبوط، ثانيتها: موروث فقهي تشريعي ثريّ، ثالثتها: نصوص شرعيّة قطعيّة لا مجال للاجتهاد فيها… وللالتفاف على هذه العقبات سعت تلك المدرسة إلى تنقيح الجهاز الاصطلاحي الفقهي والقطع مع الموروث الاجتهادي الإسلامي ثم نسف مقولة الدّلالة القطعيّة… من هذا المنطلق سعت هذه المدرسة إلى إشاعة أجواء من الضّبابيّة والميوعة والتّلبيس طالت بالإفراغ أو التّحوير أو التّضييق أو التوسعة جملة من المصطلحات الفقهيّة من قبيل (اجتهاد – تفسير – تأويل – قطعي – ظنّي – نصّ…) وقد أفضى بها هذا التمشّي المغرض إلى استنتاجات ما أنزل الله بها من سلطان على غرار (التشريع وليد عصره – وجوب الملاءمة بين النّص الجامد والواقع المتحرّك – ليس هناك قطعي في القرآن – التّقسيم قطعي/ظنّي مقاربة بشريّة – الفقهاء اجتهدوا في أحكام قطعيّة)… كما عمدوا إلى المــُماهاة بين التّفسير والتأويل وبين الظنّي والنّسبي لتنسيب الاجتهادات الشّرعيّة وتحويل نصوص الكتاب والسنّة إلى طَلاَسِم لا يعلم حقيقتها إلاّ الله… وحرصوا على عزل الأمّة عن ثروتها الفقهيّة التّشريعيّة العظيمة عبر ذمّ التّقليد واعتباره تجميدًا للنّصوص وعبادةً للفقهاء لا لله… أمّا مصطلح (اجتهاد) فقد شهد كمًّا هائلًا من التّلبيس والتّمييع والضّبابيّة أضحى معها مُرادفًا للانزياح عن مقصود الشّريعة، وإعمال العقل المجرّد، إمّا في النّصوص القطعيّة أو في اجتهادات السّلف، واحتيال على النّصوص وتحميلها ما لم تقصد واستنطاقها بما لم تنطق و(قراءة شخصيّة) لنصّ شرعي متسلّحة بآليّات متنافرة مع المنظومة الفقهيّة الإسلاميّة لتبرير الأخذ بالثّقافة الغربيّة… وقد عبّر أحد مشائخ الفقه الحداثي عن هذا المعنى الهلامي للاجتهاد بقوله: إنّ القرآن (شأن أي قول لغوي قابل لتفاسير شتّى) وإنّ معناه (لا يعلمه إلاّ الله) وحقيقته (لا يمتلكها إلاّ الله) وبالتّالي فإنّ (كلّ قارئ يمكن أن يجد في النصّ ما يرغب أن يجد فيه) لذلك يجب الفصل (بين معنى القرآن الأصلي الذي لا يعرفه أحد من جهة وتأويلات الفقهاء والمفسّرين من جهة ثانية) لأنّ القرآن وحده (هو الصّالح لكلّ زمان ومكان، أمّا قراءاته البشريّة فنسبيّة) وهذه النّسبيّة البشريّة (هي التي تجعل كلّ قراءة للقرآن مغامرة دائمة شوقًا إلى المعنى الحقيقي الذي لا يعلمه إلاّ الله تعالى)…
العقليّة التّشريعيّة
إنّ الأحكام الشرعيّة الإسلاميّة تركّز في المسلم عقليّةً تشريعيّة، أي عقليّة الالتزام بالأحكام الشرعيّة – أخذًا وتقليدًا واستنباطًا واحتكامًا وتنزيلًا على الوقائع – وإنّ الاقتصار على ضرب آليّة التّشريع، أي الاجتهاد وتوابعه، لا يكفي لإعطاب الشّرع ونسخه وتزييفه؛ لأنّ العقليّة التشريعيّة الصّافية السّليمة سرعان ما تدفع لاستعادة الآليّة الحقيقيّة، والقيام بالعمليّة الاجتهاديّة الصّحيحة نُشدانًا للحكم الشّرعي والتزامًا به… فالمسلم مطالبٌ شرعًا بأن يسيّر أفعاله بالأحكام الشرعيّة، وقبل أن يُقدم على فعلٍ ما يجب أن يعرف حكم الله فيه، أهو مباح أم حرام أم فرض أم مكروه أم مندوب؛ لأنّ مقياس الأعمال عند المسلم هو الحلال والحرام وأوامر الله ونواهيه… والشّريعة لم تهمل شيئًا من أفعال العباد، جلّ أو حَقُرَ، إلاّ أعطت حكم الله فيه ]مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ[… والأشياء والأفعال لا يجوز أن تعطى حكمًا إلاّ إذا كان هناك دليل شرعيّ على هذا الحكم، أي حجّة على أنّ المبحوث عنه حكمٌ شرعيّ… والمسلم إمّا أن يأخذ الحكم بمفرده فيسير حسب اجتهاده، وإن لم يستطع ذلك فهو مطالبٌ شرعًا بأن يقلّد مجتهدًا ويلتزم باجتهاداته… هذه هي العقلية التشريعيّة التي يركّزها الإسلام في المسلم والتي تجعل من تحرّي الحكم الشّرعي والحرص على الالتزام به هاجس المسلمين المؤرّق… وكان من الطّبيعي أن يستهدف الكافر المستعمر هذه العقليّة ليستتبّ الأمر له ولثقافته ولمصالحه في بلاد الإسلام: فقد عمل الإسلام الفرنسي على صياغة عقليّة تشريعيّة بمقاييس غربيّة علمانيّة، فحرص على إخضاع دراسة النّصوص الإسلاميّة لطريقة التّفكير الرّأسماليّة التي تجعل من الواقع مصدرًا للحكم لا موضعًا له، وتجعل المقياس في أخذ الحكم أو تركه هو النّفعيّة لا الحلال والحرام؛ ممّا نتج عنه تمييع أحكام الإسلام وعدم التّمييز بين الدّخيل والأصيل، وما هو كفر وما هو إسلام… فانقلبت الموازين بحيث صار الرّبا فائدة، والاستشهاد انتحارًا، والالتزام بالحكم الشّرعي تشدّدًا وتزمُّتًا، والتّنكّب عنه تيسيرًا، لا سيما وأنهم قد توسّلوا لتضليل المسلمين ببعض (القواعد الفقهيّة الحداثيّة) من قبيل (فقه الواقع – فقه الموازنات – فقه الضّرورات…) بحيث إن العقليّة التشريعية للمسلمين تميّعت وتعلمنت وانصبّ اهتمامها في البحث عن مخارج من ثقل التّكاليف الشّرعية بشبه الدّليل، والبحث عن مداخل للثقافة الغربيّة وعمّا يُجيز الأخذ بها وعمّا يبرّر الواقع والهوى والمصلحة والمنفعة الدّنيويّة، والبحث عن كيفيّة الالتفاف على الأحكام الشرعيّة واستنباط الحيل والمخارج الشّرعية… وبذلك فقد استحالت عقليّةً تشريعيّة براغماتيّة نفعيّة واقعيّة مصلحيّة لا تختلف عن نظيرتها الرّأسماليّة إلاّ في المبرّرات الشّرعيّة المعتمدة…
خاتمة
لئن كان الإسلام الأميركي فاشلًا مستكينًا بلا مخالب ولا أظافر، فإنّ الإسلام الفرنسي مُدنّس وعلماني وهُلامي، نصوصه مفتوحة على شتّى الاحتمالات، تفسح المجال للعقل المضبوع بالثقافة الغربيّة كي يصول فيها ويجول بالقراءات والتّخريجات التي رأت في الإسلام مناطق فراغ، ونسبت إليه الدّيمقراطيّة والحرّيات، ونفت عنه أنظمة الحياة، ومكّنت مُسوخ اليسار من تحليل البغاء والخمر والشّذوذ الجنسي، وهذا هو تحديدًا مراد الطّغمة اليعقوبيّة الفرنسيّة: ركوب الإسلام واختراقه لتخريبه من الدّاخل، وضرب الشّريعة بآليّات (شرعيّة) وتمييع أحكامها، وتمرير التّشاريع الغربيّة عبر إلباسها جبّة الإسلام الحداثي دون إثارة المسلمين أو تأليب الرّأي العامّ الإسلامي… أي في نهاية الأمر تطويع الإسلام وترويض المسلمين وأسلمة التّشاريع الغربيّة وتحليل الفسق والفجور وسائر الموبقات لتأبيد انحطاط المسلمين وتبعيّتهم وارتهانهم، وهي مطالب عزيزة المنال عصيّة على التحقّق مجتمعةً لولا بوّابة (اجتهادات مشائخ الإسلام الحداثي)… إنّ الغرب الاستعماري الذي ينوء تحت وقع جرائمه ضدّ الإنسانيّة يعيش اليوم هاجسين: هاجس سقوط مبدئه، وهاجس عودة الإسلام لقيادة البشريّة؛ ممّا جعله يمرّ بحالة متقدّمة من (الإسلاموفوبيا) مفادها أنّ الإسلام السياسي قادرٌ اليوم إن لم يتداركه الغرب على (تأسيس دولة من إسبانيا إلى ماليزيا) – كما قال بوش الابن وقبله بوتين – يمكن لها أن تمثّل خطرًا فعليًّا على حضارة الغرب وقيمه ومُثُله ورخائه الاقتصادي بل على وجوده أصلًا… وقد لخّص وزير الدّفاع الأميركي الأسبق رامسفيلد هذه المخاوف أثناء تبريره لاحتلال العراق بقوله: «إنّ العراق سوف يُستخدَم كقاعدة لخلافة إسلاميّة تتمدّد في الشرق الأوسط، ويمكنها تهديد الحكومات الشّرعيّة في آسيا وأفريقيا… لقد قالوا ذلك وسوف نخطئ كثيرًا إذا لم نعِ الدّرس».