السلطة السياسية في الفكر السياسي الغربي والإسلامي (2)
1989/09/23م
المقالات
2,801 زيارة
تمهيد:
موضوع السلطة السياسية موضوع طويل الذيول، متشعب الأنحاء، ولا سيما إذا أديرت مسائله حول المقارنة بين الفكر السياسي والغَرْبي، والفكر السياسي الإسلامي.. ولَمَّا كان المطلوب إنما هو بحث صغير في حدود عشرين صفحة فقط، لإعطاء صورة موجزة عن هذا الموضوع، تعكس بالتالي صورة عن كتاب هذا البحث في مدى قدرته على الخوص في خِضَم مسائله، والغَوْص في مراجعه ومصادره.. لذلك، سألتزم حدود المطلوب وسأقتصر على معالجة ست نقاط فقط من هذا الموضوع الكبير.. أراها وافية بالغرض إن شاء الله تعالى.
ولن تكون معالجتي لهذه النقاط الست معالجة تامة وشاملة لأنني لو قصدت إلى التمام والشمول في هذا البحث لكانت نقطةٌ واحدةٌ منها تحتاج إلى عشراتِ الصفحاتِ وربما كتابٍ كاملٍ برأسه ويكون ذلك خروجاً عن المطلوب.
(ملاحظة: لقد أثبت الكاتب جميع المراجع التي اعتمد عليها ولكن «الوعي» حذفتها لضيق المكان).
رابعاً – طبيعة السلطة السياسية.
ويقصد في هذه النقطة إثارة موضوع (السلطة الدينية أو الروحية) و (السلطة الدنيوية).. وهل هما مندمجتان، أم مستقلتان، أم تخضع إحداهما لأخرى … وما كنا لنثير هذه النقطة لولا أن التاريخ العربي المسيحي قد وجد فيه الموضوع، ولولا أنه وجد في الفكر السياسي الإسلامي عند الشيعة ما يشبه ذلك.
وخلاصة ذلك في التاريخ المسيحي
إن السلطة السياسية قبل المسيح عليه السلام كانت تجمع بين الأغراض الدينية والدنيوية، وتتركز في يد واحدة، ولما جاء المسيح عليه السلام حدث مفهوم جديد في السياسة، وهو التفرقة بين (السلطة الروحية) التي ترعى شئون الدين والأخلاق، وعلاقة الإنسان بالخالق، وما وراء الطبيعة وبين (السلطة الزمنية) التي ترعى شئون الأمور الدنيوية، وقد فهمت هذه التفرقة من قول المسيح عليه السلام “أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله” كما نسب إليه…
وعلى مر التاريخ المسيحي إلى مطلع العصر الحديث كان يدور الصراع بين السلطتين كل منهما تريد إخضاع الأخرى تحت سيطرتها… فقد مرت فترات من تاريخ المسيحية كان فيها (البابا) يجمع بين السلطتين الزمنية والروحية وفي فترات أخرى كانت السلطة الزمنية فيها خاضعة للسلطة الروحية، وإن استقلت عنها عضوياً، فكان البابا هو الذي يتوج الملوك أصحاب السلطة السياسية وهم سجد بين يديه، وظل آباء الكنيسة حتى القرن13/م يعتبرون السلطة الزمنية وكأنها فرع من السلطة الروحية تنتقل إلى الملوك بالوكالة فالملوك والأباطرة يستمدون سلطانهم من سيد الكنيسة من البابا مثلما يستمد القمر ضياءه من الشمس… وحدث بعد ذلك أن تمرد الملك (فيليب الجميل) ملك فرنسا في القرن14/م على السلطة الروحية الكنسية حين هدده البابا بخلعه عن العرش، فقال الملك (إننا جميعاً نخضع لإرادة الله، ولا نهاب تهديد البشر، فقبل أن توجد الكنيسة كانت الملكية في فرنسا، وكانت سيادتها المطلقة، فكل ما يتعلق بالسلطة الزمنية إنما هو من شئون الملك وحده، وليس للإنسان حق منازعته فيه).. وانتصر (الملك فيليب) حين دعا 1302م إلى اجتماع جرى فيه تقرير «أن الملك وأسلافه إنما تلقوا السلطان من الله وحده».
… ثم جاء أصحاب الفكر السياسي الغربي الحديث ودعوا لإخضاع السلطة الروحية للسلطة الزمنية يقول هوبز «أعطي لقيصر ما يؤمر به القيصر، وأعط الله ما يأمر به القيصر أيضاً!.».
هذه خلاصة سريعة عن السلطة المزدوجة في تاريخ الغرب المسيحي، وما نشب بين السلطتين الروحية والزمنية من صراع، وخضوع إحداهما للأخرى فهل في الفكر الإسلامي ما يمت بصلة إلى ازدواج في السلطة أي وجود سلطة دينية وسلطة دنيوية.. وحدوث صراع بينهما على الإنفراد بالسلطة.. أو بإخضاع إحداهما للأخرى..؟
إن معالجة هذه النقطة عند المسلمين تكون في جانبين:
– الجانب الفكري أو الفقهي.. – والجانب التاريخي.
أما في الجانب الفكري أو الفقهي، فإنه لا وجود لسلطة ذات طبيعة دينية فقط، أو ذات طبيعة دنيوية فقط. كما لا وجود لسلطتين مستقلتين، إحداهما للدين، والأخرى للدنيا، سواء أكانتا مستقلتـين إحداهمـا عن الأخرى، أو كانت إحداهما خاضعة للأخرى.. بل جاء الإسلام بسلطة سيـاسـية واحـدة ترعى شئـون الدين والـدنيا معـاً. كما سبق في تعـريف الخلافـة للماوردي بأنها: مـوضوعـة لخلافـة النبوة في حـراسـة الـدين وسياسة الـدنيا، وكمـا في تعريف الجـويني« الإمامة: رياسة تامة في مهمات الدين والدنيا».
فهذه السلطة ـ سلطة الإمامة ـ رياسة تامة ـ أي: لا ناقصة – لأنها لو كانت في شئون الدين فقط أو شئون الدنيا فقط لكانت سلطةً ورياسةً ناقصة ولكنها تامة في مهمات الدين والدنيا.
هذا ما يتعلق في الجانب الفقهي الفكري.
أما في الواقع التاريخي:
فإنه حصل في العصر العباسي على عهد الخليفة الراضي (322 – 329هـ) أن أحدث هذا الخليفة منصب أو سلطة ( إمرة الأمراء) وهذا المنصب هو «تفويض أمور الخلافة كلها إلى أمير الأمراء».
ولم يبق للخليفة إلا المظاهر الدينية فقط، وبهذا نرى وجود شبه سلطتين ـ سلطة دينية بقيت للخليفة، وسلطة دنيوية يتولاها «أمير الأمراء» ثم جاءت عهود سمي فيها «أمير الأمراء» بـ «السلطان» وكان هذا المنصب يتولاه صاحبه إما بتعيين الخليفة، أو بالاغتصاب، ثم يأتي التقليد من الخليفة على رغمه.. ثم جاء عهد العثمانيين فعادت الأمور إلى نصابها في وحدة السلطة الدينية والدنيوية.. وفي أواخر عهد الدولة العثمانية عهد (مصطفى كمال أتاتورك) عمد أولاً إلى فصل «السلطنة» عن «الخلافة» وعلى إثر ذلك هرب الخليفة «وحيد الدين» من استانبول وعين ابن أخيه «عبد المجيد» خليفة للمسلمين.. مجرداً من كل سلطان. وبذلك وجد في التاريخ الإسلامي ـ سلطة دينية يمثلها الخليفة ولا سلطان له على الناس.. وسلطه دنيوية أو (دولة) يتحكم فيها/ مصطفى كمال/.
هذا والجدير بالذكر أن ما صنعه (مصطفى كمال) اجتمعت لأجله «لجنة الشئون الخارجية» في الدولة العثمانية، وكانت مؤلفة من عدد من المحامين والعلماء، فقضت ساعات طويلة في بحث مسألة «فصل السلطنة عن الخلافة»واستشهد أعضائها في بحثهم في بنصوص القرآن والسنة ومئات الأمثلة من تاريخ الخلفاء، سواء في بغداد أو القاهرة، وكان قرار اللجنة بالإجماع ضد ما أراد (مصطفى كمال) أن يسير فيه..
ولكن الأمور سارت بعد ذلك من سيء إلى أسوء حتى ألغيت الخلافة سنة 1924م.. وأخفقت محاولات علماء مصر وعلماء الهند الذين توافدوا على تركيا في ثني (مصطفى كمال) عن قراره في إلغاء الخلافة.
هذا، وقبل أن نختم الكلام عن هذه النقطة نحب أن نورد ملاحظتين:
1- أن مفهوم السلطة الدينية أو الروحية، له في المسيحية مدلول خاص لا نظير له في الفكر الإسلامي.. حتى على الرأي الذي يقول بوجود «سلطة دينية» منفصلة عن السلطة الدنيوية في بعض فترات التاريخ الإسلامي.. وذلك أن مفهوم «السلطة الدينية أو الروحية» في المسيحية يعني:
إن البابا رأس الكنيسة الكاثوليكية: هو شخص مقدس ويملك:
– غفران الذنوب.
– وطرد المذنبين من الملكوت.
– ويتلقى اعتراف المذنبين.
– ويمنح البركات.
فهذه الاختصاصات الروحية لصاحب السلطة، لا وجود لها في التاريخ الإسلامي كله، بل هي أمور يختص بها الله وحده – كما هو مقرر في العقائد الإسلامية –
2- نعم، يوجد عند الشيعة فكرة تقديس الإمام، وأنه معصوم، كما سبق تقريره، وأنه تبقى له على المسلمين سلطة دينية، وإن كان مبعداً عن السلطة السياسية – كما يقرر الشيعة – وهكذا كانت الحال على عهد الخلفاء إلى آخر إمام اختفى في السرداب كما يقولون، وكما يفهم من القول السابق «.. إن الدنيا كلها للإمام على جهة الملك، وأنه أولا بها من الذين في أيديهم.
خامساً – ما دور السلطة السياسية في التشريع، وسن القوانين.. في الفكر السياسي الغربي، ثم الفكر السياسي الإسلامي؟
لقد مضت حقبة في التاريخ الغربي كانت فيها سلطة التشريع محصورة بيد الملوك، باعتبارهم أصحاب السيادة أو أصحاب حقٍ إلهي في الملك.
يقول لويس 15 (ملك فرنسا) «… فسلطة عمل القوانين هي من اختصاصنا وحدنا، لا يشاركنا في ذلك أحد ولا نخضع في عملنا لأحد».
وفي بداية عصر النهضة الأوربية بدأت فكرة (الحق الإلهي) تتلاشي تحت معاول الفكر السياسي الجديد، وانتقلت السيادة إلى الشعوب. ثم كان من الفلاسفة من قال بإعطاء الشعوب هذه السيادة إلى الملك بشكل مطلق كما هو رأي (هوبز) ومنهم من قال بإعطاء الشعوب هذه السيادة إلى الملك ولكن بشكل مُقيِّد كما هو رأي (لوك) ومنهم من قال ببقاء السيادة في يد الشعوب، وليس من طبيعة السيادة التنازل عنها كما هو رأي (روسو).
ولما كانت (السلطة التشريعية) هي من حق صاحب السيادة لقد صار التشريع من حق الملك عند (هوبز) كما قال «للملك حقُّ الطاعة المطلقة، فتوكلُ له القوة التشريعية، وله أن يسن القوانين التي يراها ضرورية لتنظيم المجتمع».
– وأما (لوك) فإنه قال بالسلطات الثلاث:
1- السلطة التشريعية. 2- السلطة التنفيذية. 3- السلطة الفيدرالية). (أي سلطة إتمام المعاهدات). ثم رجع، وقال بأن (السلطة الفيدرالية) لا داعي لفصلها عن السلطة التنفيذية لكن يجعل فصل (التشريعية) عن (التنفيذية) و (السلطة التشريعية) تعقد انعقاداً مؤقتاً بحيث تضع القوانين، ثم يَنْفَضُ انعقادها. أما (السلطة التنفيذية)، فإنها يجب أن تكون دائمة الانعقاد وتعمل على تنفيذ القوانين، ويجب فصْل هاتين السلطتين بعضهما عن بعض بحيث يكون لكل منهما أشخاص مختلفون، وإذا حدث أن انحرفت السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية، فإن للشعب حق المقاومة وتقويم الانحراف.
.. ثم جاء (مونتسكير).. ففصَّل الحديث عن السلطات الثلاث وقسمها إلى: تشريعية، وتنفيذية، وقضائية، وأوجب الفصل بينها.
– وأما بالنسبة لـ/روسو/ فإن السيادة عنده للشعب، ولا تقبل السيادة التنازل عنها، ولذلك فالشعب كله هو الذي يضع القوانين.. ولهذا صَنَّفَه علماء السياسة بأنه من القائلين بالديمقراطية المباشرة، كما كان الحال في (أثينا) قديماً، وكما هي الحال في بعض الولايات الصغيرة في سويسرا في العصر الحديث، وأما (السلطة التنفيذية) عند/روسو/ فإنها للشعب أيضاً، ولكن لَمَّا لم يكن من الممكن لكل الشعب أن يقوم بالتنفيذ .. لذلك فإنه يُعَيَّن حكومة تقوم بهذه المهمة وهي بمثابة موظفين أو خدمٍ لدى الشعب يُغَيِّرُهم متى أراد.
هذا باختصار ما عند الغَرْب.
فماذا عند المسلمين؟.
لقد كان الرسول r يجمع بيده السلطات.
1 – السلطة “تشريعية باعتباره مُبَلَّغا عن الله. فالمُشَرِّع الحقيقي هو الله تعالى.
2 – السلطة التنفيذية. 3 – السلطة القضائية.
ولكنه كان يبعث إلى الأقطار الإسلامية بمهمة الحكم أو القضاء، فقد بعث معاذاً إلى اليمن كما في الحديث المشهور «كيف تحكم إذا عرض لك قضاء؟ قلت: أحكم بكتاب الله .. الخ».
.. والذي أراه في تصوير العلاقة بين (السلطة التشريعية) و (السلطة التنفيذية) و (القضائية) أن (السلطة التشريعية) في قواعدها العامة التي لا تخضع للاجتهاد، هي مفصولةٌ فصلاً تاماً عن السلطة التنفيذية والقضائية.. فلا تَمْلِك هذه السلطة أن تُغَيِّر في تلك القواعد العامة، ولا تُبَدِّل فيها، لأن التشريع إنما هو لله عز وجل وحده.
أما الأمور الاجتهادية.. فباعتبار الخليفة – وهو رئيس السلطة التنفيذية – هو الراعي المسؤول عن رعيته، وهو ولي الأمر الذي أوجب الله طاعته، فإنه وحده هو صاحب الصلاحية في تبني الأحكام حين يحصل الاختلاف في الاجتهاد. وأمر الإمام يرفع الخلاف. نعم هو يستشير أهل العلم ويتداول الأمور الفقهية الخلافية معهم، ولكن في النهاية هو الذي يحدد.
وأما ما يتعلق بالفصل بين (السلطة التنفيذية) و (السلطة القضائية) فإن الإسلام لا يجعل السلطة القضائية منفصلةً عن السلطة التنفيذية، فكثيراً ما كان القاضي يجمع إلى سلطته في القضاء وظائف أخرى تنفيذية، كقيادة الجيش مثلاً.. وعلى كل حال فإنني أرى أن فصل السلطة التنفيذية عن السلطة القضائية هو من الأمور التي ترك أمر البَتِّ فيها لصاحب السلطة، فإن رأى الفَصْل بينهما هو الطريق لضمان سلامة القضاء فَصَل.. وإن رأى أنَّ جَمْعَهُما في هيئة واحدة أسرع في تنفيذ الأحكام جَمَع..
ومن المعروف أن (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه أولُ مَنْ فصل مهمة القضاء عن غيرها من المهام والوظائف، فجعل أبا الدرداء قاضياً في المدينة، وشريحا لقضاء الكوفة، وأبا موسى لقضاء البصرة، وعثمان بن قيس لقضاء مصر، ولم يجمع لهم إلى القضاء مهمة أخرى وربطهم بنفسه مباشرة، ولم يجعل للولاة أي سلطة عليهم، فالسلطة القضائية قد تستقل عن الولاة ولكنها لا تستقل ولا تنفصل عن الخليفة الذي هو رأس السلطة التنفيذية.
سادساً: واجبات السلطة السياسية، وما الموقف إذا أخلت السلطة السياسية بواجباتها؟
ولنستعرض واجبات الدولة عند كل من (هوبز) و (لوك) و (روسو).. وهم أبرز أعلام الفكر السياسي الغربي والذين اقتصرنا على آرائهم تقريباً. في المقارنة بين الفكر السياسي الغربي والفكر السياسي الإسلامي، في هذا البث الموجز القصير.
– هوبز وواجبات الدولة أو السلطة السياسية منها:
انطلاقا من تصور (هوبز) للعقد الاجتماعي بأنه عقد تم بين الناس بعضهم مع بعض على التنازل عن حقوقهم كاملة، وإسناد السلطة لشخص من أجل تخليصهم من حياة الخوف والاعتداء في (المرحلة الطبيعية) كما سبق شرحه.. فإن الواجبات المترتبة على السلطة السياسية تنحصر في كونها واجبات سلبية، فالناس لا ينتظرون من السلطة أن تمنعهم شيئاً إيجابياً وهو السعادة، وإنما ينتظرون تحقيق أمر سلبي هو السلم.
وما دام هو واجب السلطة السياسية، فإنه تقريباً على ذلك يجب على السلطة أن تترك للأفراد الحرية التي لا تتعارض مع السلام، ولذلك فعلى صاحب السلطة أن يمتنع عن إصدار القوانين غير الضرورية لحفظ السلام، لأن القانون إنما هو تقييد للحرية.
وبناءً على ذلك:
إذا ضعف (السيد الحاكم) أو عجز عن مواصلة عمله الرئيسي وهو كفالة الحياة والأمن لرعاياه، كان للناس أن يتحرروا من طاعته، ذلك لأن حق الناس الطبيعي في حماية أنفسهم هو الدفاع عن وجودهم عندما لا يوجد من يحميهم، وهو حق لا يمكن التنازل عنه بأي تعهد.
ولما كان حق الدفاع عن حياة المرء، والمحافظة على أعضائه لا يمكن التنازل عنه، لأنه حق أساسي، ولا يمكن للمرء أن يكون له وجود إذا تخلف عنه، «وكل شيء لا يستطيع الإنسان أن يعيش بدونه فهو حق غير قابل للتحويل أو التنازل» فإن ذلك يعني أن للإنسان الحق في الدفاع عن نفسه ضد أوامر (السيد الحاكم) لأنني لا أستطيع التنازل عن هذا الحق مهما تكن الظروف.
و «إذا ما أمر (السيد الحاكم) إنساناً بأن يقتل نفسه، أو يجرح نفسه، أو ألا يقاوم أولئك الذين يعتدون عليه، أو أن يمتنع عن تناول الطعام أو استنشاق الهواء، أو تناول الدواء، أو أي شيء آخر لا يستطيع أن يعيش بدونه، فإن لهذا الإنسان الحق في عصيانه، أو هو حر في التمرد عليه».
– لوك: وواجبات السلطة السياسية:
.. وانطلاقا من تصور (لوك) للعقد الاجتماعي بأنه عقد تم بين الناس والحاكم على التنازل – لا عن جميع حقوقهم.. بل عن جزء من هذه الحقوق بالقدر الذي يكفي للحفاظ على الحياة وعلى الملكيات الفردية، ومعاقبة المعتدي على النفس أو الملكيات، ولذا فواجب السلطة السياسية هو الحفاظ على الحياة وعلى الملكيات الفردية ومعاقبة المعتدين.
وبناء على ذلك: إذا قصرت السلطة السياسية في واجباتها؟
«حيث أن أساس الحكم هو التعاقد، فالمفروض أنه إذا أخل أي طرفٍ من أطرافه به فإنه يصبح لاغياً، وعلى ذلك إذا أخل الملك أو أخلت الحكومة بتعهداتها للشعب أو أهملت في مسئولياتها نحوه، أو تخطت سلطاتها التي خولها لها الأفراد، وجب عزلُها أو عزلُه».
– روسو: وواجبات السلطة السياسية:
.. وانطلاقاً من تصور (روسو) للعقد الاجتماعي بأنه عقد تم بين الناس بعضهم مع بعض للتخلي التام عن كامل حقوقهم الخاصة ومنحها للمجموع، مشكلين بذلك ما يسمى (الإرادة العامة) التي تعمل للتوفيق بين المصالح الفردية والمصالح العامة والتي تمثلها القوانين التي يضعها الشعب لنفسه.
لذلك: فإن واجب الهيئات التي يقيمها الشعب لتنفيذ الإرادة العامة أن تقوم بهذا التنفيذ بأمانة تامة، وبذلك يتحقق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، لأن الشعب لن يسن إلا القوانين التي تعمل على رفاهيته وسعادته وعلى هذا، فإذا انحرفت السلطة الموكلة بهذا التنفيذ كان من حق الشعب إزاحتها، والإتيان ببديل عنها.
هذه خلاصة سريعة عن واجبات السلطة السياسية في الفكر السياسي الغربي….
فماذا في الفكر السياسي الإسلامي؟
لقد تحدث الماوردي عن واجبات السلطة السياسية (الخليفة) فحصرها في عشر مسائل، ولكنه لم يفرق بين الواجبات ذات الطبيعة الدينية، عن الواجبات غير الدينية .. وذلك تبعاً للمفهوم الإسلامي في عدم التمييز بين الأمور الدينية والدنيوية .. في الرعاية والتدبير .. وسنحاول هنا تلخيص هذه الواجبات مميزين بين الواجبات الدينية وغير الدينية بقصد التوضيح فقط.
أ – الواجبات الدينية للخليفة باعتباره صاحب السلطة السياسية.
1 – حفظ الدين بنشر العلم، ومحاربة البدع.
2 – الجهاد في سبيل الله.
3 – جباية الفيء والصدقات.
4 – القيام على شعائر الدين كالصلاة والصيام والحج.
ب – الواجبات السياسية للخليفة باعتباره صاحب السلطة السياسية.
1 – الإشراف على إقامة العدل بين الناس، وذلك بتنفيذ الأحكام بين المتنازعين، وإقامة الحدود.
2 – المحافظة على الأمن والنظام العام في الدولة.
3 – الدفاع عن الدولة في مواجهة الأعداء الخارجيين.
4 – الإدارة المالية للدولة.
5 – تعيين الموظفين من ذوي القوة والكفاية والأمانة.
6 – إشراف الخليفة بنفسه على الأمور العامة، ولا يعول على التفويض (تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين، ويغش الناصح)
هذا، وقد استدرك (الشيخ محمد رشيد رضا) على الماوردي بأنه أغفل واجب (الشورى) على الحاكم قال: (وأهم ما يجب على الإمام المشاورة في كل ما لا نص فيه على الله ورسوله، ولا إجماع صحيحاً يحتج به …).
ولكن الواقع أن «الماوردي» وإن لم يذكر (الشورى) في كتابه الأحكام السلطانية ضمن واجبات الخليفة، ولكنه ذكر هذا الواجب في كتبه الأخرى.. يقول الماوردي: (إن على الملك (الحاكم) مشاورة أهل الرأي، والفضل، والعلم، والعقل، والدين، والأمانة، والعفة، والتجربة.. يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه] وشاورهم في الأمر[ ومدح أقواماً بذلك فقال ]وأمرهم شورى بينهم[…
«أعلم أن من الحزم لكل ذي لب ألا يبرم أمراً إلا بمشورة ذي الرأي الناصح… وروي عن النبي r أنه قال: «المشورة حسن الندامة، وأمان من الملامة».. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الرجال ثلاثة: رجل تردُ إليه الأمور فيسددها برأيه، ورجل يشاور فيما أشكل عليه، وينزل حيث أمره أهل الرأي، ورجل حائر بائر لا يأتمر رشداً، ولا يطيع مرشداً).
هذا …
وإذا انحرف صاحب السلطة السياسية (الخليفة) عن هذه الواجبات فما هو الموقف الإسلامي على هذا الموضوع؟.
إننا نستطيع تلخيص الجواب عن هذا السؤال ببيان نقطتين:
أ – وجوب عزل الخليفة إذا اختل شرط من شروط انعقاد الخلافة له، كأن ارتد، أو فسق فسقاً ظاهراً، أو جُنَّ.. أو عجز عن أعباء الدولة، أو استبد به أناس يتصرفون في الدولة رغماً عنه.
ب – مسألة (السيف أو المنابذة بالسيف) أي: استخدام القوة المسلحة طريقةً لعزل الحاكم الفاسق أو الجائر… وفي هذه المسألة مواقف كل من:
1- المعتزلة، والزيدية، والخوارج.
2- والشيعة غير الزيدية.
3- وأهل السنة وأصحاب الحديث.
أما بالنسبة لمسائل النقطة الأولى:
– فالارتداد: موجب للعزل لأن المرتد صار كافراً.. والله يقول ] ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا[.
– والفسق الظاهر: إخلال بالعدالة، والعدالة شرط في قبول شهادة الشاهد، واشتراطها في (الحاكم) من باب أولى.
– والجنون: لأن المجنون صار غير مكلف، ولا يملك أن يدير شئون نفسه، فكيف يدير شئون غيره.
– والعجز عن إدارة شئون الدولة: لأن العاجز فاقد للشرط الذي بني (عقد الخلافة) عل أساسه وهو: رعاية شئون الدولة بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله r.
والاستبداد الواقع على الخليفة يتصرف المستبد رغماً عنه,
.. هذا ومن المعروف أن مسئولية العزل عن السلطة تقع على عاتق الهيئة التي أعطت هذه السلطة.. وهي هيئة (أهل الحل والعقد – أو أهل الاختيار – أو أهل الشورى).
ومن المعروف كذلك أن في بعض هذه المسائل اجتهادات مختلفة ليس في هذا البحث القصير مجال لعرضها ومناقشاتها..
أما بالنسبة للنقطة الثانية وهي (مسألة المنابذة بالسيف).
1 – المعتزلة: أوجبوا الخروج على أئمة الجور، واستخدام السيف في عزل الإمام والثورة عليه، واشترط أبو بكر الأصم أن بكون مع أمام عادل قد عقد الثوار له البيعة لكي يقودهم إلى الخروج.
– والزيدية: قالوا بمثل قول المعتزلة، واشترطوا في الثوار أن يبلغ عددهم عدد أهل بدر ثلاثمائة وبضعة عشر ثائراً.
– والخوارج: يرون كذلك «إزالة أئمة الجور، ومنعهم أن يكونوا أئمة بأي شيء قدروا عليه بالسيف أو بغير بالسيف».
هذا ومستند القائلين باستخدام السيف هو عموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ومن قتل دون ماله أو دينه، أو مظلمته فهو شهيد.
2 – وأما الشيعة غير الزيدية:
فإنهم يرفضون استخدام السيف، بل والخروج أصلاً إلا مع إمامهم الغائب المنتظر عندما يظهر..
وأما ثورة (إيران) المعاصرة، واستخدام (السيف) فيها.. فهي إحياء لفكرة (ولاية الفقيه) التي يقول بها بعض علماء الشيعة وتعني هذه الفكرة أنه في زمن غيبة الإمام المنتظر فإن الذي يلي شئون الناس هو أعلمهم، وقد جاء في وصفه «أنه فاضل، عالم بالأحكام والقوانين، وعادل في إنفاذها، لا تأخذه في الله لومة لائم، ويجب على الناس أن يسمعوا له، ويطيعوا، والولاية تعني: حكومة الناس وإدارة الدولة، وتنفيذ أحكام الشرع».
… هذا، ويبدوا أن القوى المتصرفة في العالم الإسلامي من وراء ستار.. أو بدون ستار.. لها أثر فعال في التغييرات التي نراها على الساحة الإسلامية.
3 – وأما أهل السنة وأصحاب الحديث فقد أنكروا الخروج بالسيف على أئمة الجَوْر ما لم يظهر الكفر البواح كما ورد في الحديث «… وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهاناً».
جاء في (الروضة الندية) لصديق بن حسن القنوجي البخاري:
«وقد ذهب إلى ما ذكرناه – أي عدم جواز الخروج على الأئمة بالسيف إلا في حال الكفر البواح – جمهور أهل العلم، وذهب بعض أهل العلم إلى جواز الخروج على الظلمة، أو وجوبه تمسكاً بأحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي أعم مطلقاً من أحاديث الباب، ولا تعارض بين عام وخاص، ويحمل ما وقع من جماعة من أفاضل السلف على اجتهاد منهم… ».
خاتمة البحث:
هذه خلاصةُ جِدُّ مختصرة حول مسائل محدودة من موضوع:
(السلطة السياسية)
وقد كان الكلام عنها أشبه باستعراض الآراء بل بعض الآراء – منه بالمناقشة والتحليل والابتكار.. نظراً لضيق مجال القول في بحث طلب فيه أن يكون قصيراً.. على أننا – إن شاء الله – سوف نوفي كل مسائل الموضوع حقها من التقصي واستقراء ما قيل سواء في الفكر الإسلامي أو الفكر الغربي، ثم نتبع كل مسألة من المسائل بالتحليل والترجيح والاقتراح …□
انتهى
1989-09-23