أساس الفتوى بدخول القوانين الغربية إلى الدولة العثمانية (2)
1988/02/22م
المقالات
2,730 زيارة
الدولة العثمانية كانت هي دولة المسلمين، وكان فيها خليفة المسلمين. وفي أيامها الأخيرة دبَّ فيها الانحطاط الفكري، وتبعه الضعفُ العسكري حتى سُميَّت بالرجل المريض. وفي هذه الأثناء كانت في الغرب نهضة علمية وصناعية، فانبهر المسلمون بما عند الغرب، وفتحوا أبوابهم لحضارة الغرب دون أن يميزوا بين ما يجوز أخذه من علوم وصناعات، وما لا يجوز أخذه من قوانين وأخلاق وأفكار متعلقة بوجهة النظر الغربية، أي لم يميزوا بين ما اصطلحنا على تسميته بالعلم والمدنيَّة من جهة، والثقافة والحضارة من جهة أخرى.
وحين صار المبهورون بالغرب يحاولون إدخال القوانين الغربية إلى الدولة العثمانية كان لا بد من فتوى يصدرها شيخُ الإسلام بشرعية هذه القوانين، لأن الدولة العثمانية كانت دولة إسلامية، ولا تَسُنُّ أيَّ قانون إلا بعد أخذ الفتوى بأنه قانون يقرَّه الشرع الإسلامي.
وقد أصدر شيخ الإسلام وبعض العلماء الفتاوى بأخذ الأحكام الديمقراطية والقوانين الغربية مستندين إلى أمور أهمها ثلاثة (ناقشنا في العدد السابق أمرين، ونناقش في مقال هذا العدد الأمر الثالث. وننصح بقراءة القسم الأوَّل لمن لم يقرأه). ثالث هذه الأمور هو افتتان المسلمين بالديمقراطية الغربيّة وصدور الفتاوى بأن الديمقراطية من الإسلام. وهي فتاوى يبرأ منها الإسلام الحنيف.
ثامناً: إن الديمقراطية تتناقض مع الإسلام مناقضة تامة في الأسس والتفاصيل، وذلك من عدة وجوه:
الأول: إن الديمقراطية تجعل السيادة للشعب، وتجعل الأمر كله له، فهو المرجع الأعلى في كل شيء. والشعب حسب أحكام الديمقراطية مصدر السلطات، فهو مصدر السلطات التشريعية، وهو مصدر السلطة القضائية، وهو مصدر السلطة التنفيذية. فهو الذي يُشرّع القوانين ويُعيّن القضاة ويُقيم الحكام. بخلاف الإسلام فإنه قد جعل السيادة للشرع لا للشعب، فالأمر كله للشرع، وهو المرجع الأعلى في كل شيء. وأما السلطات فإن الإسلام جعل سلطة التشريع لله لا للناس، فالله وحده هو الذي يشرع الأحكام في كل شيء، سواء في العبادات أم المعاملات أم العقوبات أم غير ذلك، ولا يجوز لأحد من الناس أن يُشَرّع ولو حُكْماً واحداً. والشعب إنما يملك السلطان أي الحكم، فهو الذي ينتخب الحاكم وينصبه، فهو مصدر السلطة التنفيذية فحسب، يختار من يتولى السلطان والحكم. والسلطة القضائية إنما يتولاها الخليفة أو من ينيبه عنه في ذلك. فالخليفة هو الذي يعين القضاة ويعين من يعين القضاة، ولا يملك أحد من الشعب لا أفراداً ولا جماعات تعيين قاض من القضاة بل هو محصور بالخليفة ومن ينيبه.
الثاني: إن القيادة في الديمقراطية جماعية وليست فردية، والسلطة فيها جماعية وليست فردية. فالسلطان أي الحكم إنما يباشره مجلس الوزراء، ورئيس الدولة سواء أكان مَلِكاً أم رئيس جمهورية إنما يكون رئيساً شكلياً يملك ولا يحكم. والذي يحكم ويباشر السلطة إنما هو مجلس الوزراء. بخلاف الإسلام فإن القيادة فيه فردية وليست جماعية والسلطة فيه فردية وليست جماعية. فقد روي عن أبي سعيد أن رسول الله r قال: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمّروا عليهم أحدهم». وروى عبد الله بن عمر أن النبي r قال: «لا يحل لثلاثة بفلاة من الأرض إلا أمَّروا عليهم أحدهم» وكلمة (أحد) هي كلمة واحد، وهي تدل على العدد، أي واحداً ليس أكثر، ويفهم ذلك من مفهوم المخالفة لكلمة (أحدهم). ومفهوم المخالفة يعمل به، ودلالته كدلالة المنطوق من حيث الحجة. ولا يُعَطَّل مفهوم المخالفة إلا في حالة واحدة وهي إذا ورد نص يلغيه. وهنا لم يرد نص يلغيه فيعمل به. أي فليؤمروا واحداً ليس أكثر، وإلا أمّروا واحداً ليس أكثر. فمفهوم المخالفة في الحديثين يدل على أنه لا يجوز أن يُؤَمِّروا أكثر من واحد. ومن هنا كانت الإمارة لواحد، ولا يجوز أن تكون لأكثر من واحد مطلقاً. ويؤيد هذا عمل الرسول r فإنه في جميع الحوادث التي أَمَّرَ فيها أمراء كان يُؤَمِّر واحداً ليس غير، ولم يُؤَمّر أكثر من واحد في مكان واحد مطلقاً. فالسلطان أو الحكم إنما يقوم به رئيس الدولة أي أمير المؤمنين، أو الخليفة، وجميع صلاحيات الدولة محصورة به، فهو وحده صاحب الصلاحية في السلطان والحكم، ولا يشاركه في شيء منها أحد مطلقاً، بل ينفرد بها وحده، ومنها كانت القيادة في الإسلام فردية وكانت السلطة فردية.
الثالث: إن الدولة في الديمقراطية عدة مؤسسات ولست مؤسسة واحدة، فالحكومة مؤسسة وهي السلطة التنفيذية، وكل نقابة من النقابات مؤسسة تملك صلاحية الحكم والسلطان في الأمر الذي قامت عليه. فنقابة المحامين مؤسسة لها السلطان والحكم في شؤون المحامين كلها، من السماح بمزاولة مهنة المحاماة ومن منعه من مزاولتها، ومن محاكمة المحامين، وغير ذلك من جميع ما يتعلق بالمحامين من السلطان والحكم. وكذلك نقابة الأطباء، ونقابة الصيادلة، ونقابة المهندسين، وغير ذلك. فإنها تملك في الأمر الذي قامت عليه النقابة كل السلطة في هذا الأمر فهي كالوزارة سواء بسواء من حيث السلطة بالنسبة لما يتعلق بالنقابة. والوزارة نفسها لا تملك السلطة فيما هو من سلطة النقابة. بخلاف الإسلام فإن الدولة والحكومة شيء واحد، هي السلطان وهو الخليفة، وهو وحده صاحب الصلاحية ولا يملكها أحد سواه مطلقاً، قال r: «الإمامُ راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيته»، (وهو) هنا أداة حصر وهي ضمير الفصل، فقوله (وهو مسؤول) حصر للمسؤولية به. ولهذا لا يوجد أحد في الدولة أفراداً أو جماعات يملك شيئاً من السلطان والحكم من ذاته بأن يكون من صلاحياته أصالة سوى الخليفة.
الرابع: في الديمقراطية يعتبر أخذ رأي الشعب في أمور الحكم واجباً. فيجب على الحاكم أن يأخذ رأي الشعب أو رأي المجالس المنتخبة منه، ولا يحق له، أي الحاكم، أن يقوم بعمل إلا إذا فوَّضه الشعب بذلك، ولا يحق له أن يخالف رأي الشعب، فأخذ الرأي فرض في النظام الديمقراطي. بخلاف الإسلام فإن أخذ رأي الأمة وهو الشورى مندوب وليس بفرض. فيندب للخليفة أن يأخذ رأي الأمة وليس فرضاً عليه. وذلك أنه وإن كان الله قد مدح الشورى ولكنه جعلها في المباحات فحسب. فكونها إنما تكون في المباحات ولا تكون في غيرها قرينة على أنها ليست واجبة، لأن موضوعها مباح فلا تكون الاستشارة به واجبة، ومن هنا كان مندوباً للخليفة أن يأخذ رأي الأمة، لأن الله مدح الشورى، ولأنها لا تكون إلى في المباحات.
الخامس: في الديمقراطية تُلْزَم الحكومة برأي الأكثرية في كل شيء سواء كان في التشريع أم في غيره. إلاّ أنهم في بعض الأحيان يجعلون الإلزام بأكثرية النصف زائداً واحداً، وفي بعض الأحيان يشترطون أكثرية الثلثين. وعلى أي حال فإن رأي الأكثرية عندهم ملزم في كل شيء. بخلاف الإسلام فإن رأي الأكثرية لا يُرَجَّح في كل شيء ويُلزم به بل هناك تفصيل في ذلك. وتفصيله يجري على الوجه التالي:
أ – الأحكام الشرعية أي الآراء التشريعية: وهذه لا ينظر فيها لرأي الأكثرية ولا الأقلية وإنما يجب أن ينزل الجميع عند الدليل الشرعي. والدليل على هذا أن الرسول r قد أخذ في أمر معاهدة الحديبية ما نزل عليه من الوحي، وضرب برأي أبي بكر وعمر عرض الحائط، بل ضرب برأي جميع المسلمين ورفض رأيهم رفضاً قاطعاً. وألزمهم النزول عند رأيه برغم سخطهم وتذمرهم وقال لهم: «إني عبد الله ورسوله ولن أخالف أمره»، فهذا يدل على أن الذي يرجَّح ليس الأكثرية ولا الأقلية وإنما هو ما جاء به الوحي، أي الدليل الشرعي. وفي حال وجود عدة أدلة يرجح الدليل الأقوى. فيؤخذ الحكم ويرجح بناء على قوة دليله. إلا أن إلزام الناس بالحكم وجعله قانوناً إنما هو من صلاحية الخليفة وحده، لأن له وحده حق تبني الأحكام، لما وقع عليه إجماع الصحابة من أن للإمام أن يتبنى أحكاماً معينة ويأمر بالعمل بها وعلى المسلمين طاعتها وترك آرائهم. والقواعد الشرعية المشهورة هي: «أَمرُ الإمام نافذ ظاهراً وباطناً»، «أَمرُ الإمام يرفعُ الخِلاف»، «للسلطان أن يُحدث من الأقضية بقدر ما يَحدث من مشكلات». ومثل الأحكام الشرعية التعاريف الشرعية يكون المرجح فيها قوة الدليل، وللخليفة وحده حق تبنيها، فيكون رأيه هو المرجح والملزم.
ب – الرأي الذي يدل على فكر في موضوع، سواء كان مما ينتج عنه عمل واحد أو أعمال متعددة، فيبحث العمل أو الأعمال على أساس بحث الموضوع، أو بعبارة أخرى: الرأي في الأعمال التي تحتاج مواضيعها إلى تفهم وإمعان نظر، فيكون الرأي من أجل الوصول إلى فكرة معينة في الموضوع، وحينئذ يترتب عليها القيام بالعمل أو عدم القيام به، أو الكيفية التي يقام فيها بالعمل. أي ما كان من قبيل «الرأي والحرب والمكيدة». هذا الرأي الذي يدل على فكر في موضوع يرجح فيه جانب الصواب لا جانب الأكثرية. وذلك كإنهاض الأمة، هل يعمل لإنهاضها برفع مستواها الفكري أو برفع مستواها الاقتصادي؟ وكحروب الردة التي ثارت في عهد أبي بكر هل هي رفض لأحكام الشرع أم مجرد عصيان مسلح؟ وكمعالجة علي لأمر الولاة حين ولي الخلافة هل يبقيهم أو يعزلهم أو يبقي البعض ويعزل البعض الآخر؟ وكمعالجته لأمر معاوية خاصة هل يعزله عن ولاية الشام فوراً أم يبقيه حتى يستقر له السلطان في جميع أنحاء الخلافة؟ وكرفع المصاحف لعلي هل هو تحكيم للقرآن حقيقة أم هي خدعة؟ ومثل إقامة الدولة العثمانية سكة حديد استانبول بغداد هل تقيمها بواسطة مقاولين ألمان أم بواسطة مقاولين بلجيك؟ ومثل دخول إنجلترا سنة 1962 م السوق الأوروبية المشتركة هل تدخلها أو لا تدخلها أي: هل دخولها يمكنها من المحافظة على مركزها الدولي ويُبقي لها الإشراف على أوروبا أو دخولها بها خسارة اقتصادية وسياسية؟ ومثل تنمية الثروة في مصر هل يكون بإيجاد صناعة آلات أي الصناعة الثقيلة أم ببناء السد العالي؟ ومثل تسلح تركيا بالأسلحة الذرية، هل تتسلح بأسلحة ذرية من مالها وميزانيتها أم تتسلح بها عن طريق مساعدة خارجية؟ ومثل تقوية التعليم في الدولة العثمانية هل كان يجب أن يكون بزيادة عدد المدارس والجامعات أم بإعادة النظر في مناهج التعليم؟ وهكذا كل عمل يحتاج موضوعه إلى تفهم وإمعان نظر يرجح فيه جانب الصواب لا جانب الأكثرية. والدليل على ذلك «أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حين نزل ونزل معه المسلمون عند أدنى ماء من بدر لم يرض الحُباب بن المنذر بهذا المنزل، وكان عليماً بالأمكنة خبيراً بالحرب، فقال للرسول: يا رسول الله، أرأيتَ هذا المنزل أمنزلاً أنْزَلَكَهُ الله فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة: قال الرسول: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزل، ثم أشار إلى مكان، فما لبث رسول الله أن قام ومن معه واتبع رأي الحُباب» ففي هذا الحديث تَرَكَ الرسول رأيه، ولم يرجع لرأي المسلمين، بل اتبع الصواب واكتفى بأخذه من واحد في موضوع قال عنه الرسول: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة»، وقد ألزم المسلمين بهذا الرأي أي: بالصواب، مما يدل على أن كل رأي من قبيل (الرأي والحرب والمكيدة) يرجح فيه جانب الصواب لا جانب الأكثرية. والذي يعين الصواب إنما هو الخليفة، لأن الذي عين الصواب في بدر هو رئيس الدولة، أي الرسول بوصفه رئيس الدولة، لا بوصفه رسولاً.
ومثل الرأي الذي يدل على فكر في موضوع، الرأي الفني الذي يدركه أهل الاختصاص. لأنه من النوع الذي يحتاج إلى تفهم وإمعان نظر وإلى خبرة، بدليل أن رأي الحباب قُبل في موضوع استراتيجي أي فني من شخص خبير بالأمكنة خبير بالحرب. ومثل ذلك أيضاً التعاريف غير الشرعية لأنها تحتاج إلى تفهم وإمعان نظر.
جـ – الرأي الذي يرشد إلى عمل لا يحتاج إلى تفهم وإمعان نظر من الخبراء والفنيين. هذا الرأي يرجح فيه جانب الأكثرية ويُلزم به، وذلك كانتخاب خليفة. هل ينتخب فلان أم فلان، وكتحكيم حَكَمين في حادثة هل يُحكّم فلان أنم فلان، وكإقامة مشاريع عمرانية هل تقام مدارس أم مستشفيات، وكمنح مساعدات للمزارعين هل تُمنح نقداً أم آلات وبذاراً وسماداً، وهكذا. فكل عمل لا يحتاج إلى تفهم وإمعان نظر من الخبراء والفنيين يرجح فيه رأي الأكثرية وتلزم الدولة به أي يلزم به الخليفة. والدليل على ذلك أن النبي r نزل عند رأي الأكثرية في أحد، وخرج إلى خارج المدينة، مع أنه يرى خطأ هذا الرأي ويرى الصواب خلافه، وكذلك كان كبار الصحابة يرون خلاف هذا الرأي، إذ كانوا يرون رأي الرسول وهو البقاء في المدينة، مما يدل على أن رأي الأكثرية في مثل هذا العمل هو الراجح وهو الذي يلتزم به.
وقد يشتبه على البعض الفرق بين عمل يحتاج موضوعه إلى تفهم وإمعان نظر وبين العمل الذي لا يحتاج إلى ذلك، غير أنه إذا دقق في دليل كل من العملين يتبين الفرق بوضوح. فالرسول في موقعة بدر أجاب الحباب بقوله: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة» وهو يعني أن النزول في المكان من الأمور التي يرجع فيها إلى أصحاب الآراء، ومن شؤون الحرب التي تحتاج إلى تفكير وبحث، ومن المكائد التي تنصب للعدو وتحتاج إلى تبصر في نصب المكائد. أما في موقعة أحد فإن الرسول r قال للمسلمين: «فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوها علينا قاتلناهم فيها»، فقال رجال من المسلمين: «يا رسول الله أخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنّا جَبنّا وضَعُفْنا»، فقال عبد الله بن أبي بن سلول: «يا رسول الله، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوا لله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين»، فكان البحث هو الخروج وعدم الخروج، ولم يكن البحث في مكان المعركة، بمعنى هل يتحصنون بالمدينة ويحاربون منها أم يتحصنون بجبل أحد، بل كان البحث في هذا العدو القادم هل نخرج لملاقاته والدخول معه في حرب أم نبقى مكاننا إن حاربنا حاربناه وإن لم يحاربنا تركناه. ولذلك هناك فرق بين واقع الحادثتين وبين تصرف الرسول في كل منهما. ومن هذا الفرق بينهما يظهر الفرق بين العمل الذي رجع فيه إلى الصواب وبين العمل الذي نزل فيه عند رأي الأكثرية. أي بين العمل الذي يحتاج موضوعه إلى تفهم وإمعان نظر والعمل الذي لا يحتاج إلى تفهم وإمعان نظر. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن العمل الذي له موضوع ذو خطر، وله قدر، ويحتاج فهمه إلى بذل جهد هو من حيث واقعه غير العمل الذي لا موضوع له، أو له موضوع لا خطر له، أو مفهوم عند أكثر الناس. وهذه المغايرة بين العملين وإن كانت دقيقة ولكنها موجودة ويمكن إدراكها.
وعلى هذا فإن رأي الأكثرية في الإسلام إنما يؤخذ به في حالة واحدة ليس غير، ألا وهي الأعمال التي لا تحتاج إلى تفهم وإمعان نظر من الخبراء والفنيين وأما ما عداها من الأعمال فإنها لا يؤخذ فيها برأي الأكثرية. ويؤيد ذلك ما روي عن الرسول r أنه قال لأبي بكر وعمر: «لو اتفقتما في مشورة ما خالفتكما» فإنه دليل على ترجيح رأي الأكثرية. ولكنه قيد اتفاقهما بوصف مفهم فقال: «في مشورة». وإذا قرن قوله: «ما خالفتكما»بمخالفته لهما في الحديبية، وفي إلزامهما برأي الحباب بن المنذر في بدر فإنه يتبين منه أن قوله: «في مشورة»قيد لعدم المخالفة، وأن عدم مخالفتهما فيما كان مشورة وهو غير ما جاء به الوحي وغير ما هو من قبيل الرأي والحرب والمكيدة، فيستنبط منه أن الحديث يدل على أن رأي الأكثرية يرجح ويلزم به في غير الأحكام الشرعية وفي غير ما هو من قبيل الرأي والحرب والمكيدة. وبهذا يخالف الإسلام الديمقراطية.
السادس: في الديمقراطية يتمتع بعض الأفراد بحصانة تحميهم من القانون، فلا يطولهم قانون الدولة للحصانة التي يتمتعون بها، وذلك كرئيس الدولة وأعضاء البرلمان، فإن رئيس الدولة إذا ارتكب جرماً لا يحاكم ولا يخضع للقانون لأن له حصانة. وكذلك أعضاء البرلمان إذا ارتكب أي منهم جريمة أثناء دورة انعقاد البرلمان، فإنه لا يحاكم ولا يطبق عليه القانون حتى ترفع عنه الحصانة. وهذا بخلاف الإسلام، فإنه لا يوجد لأحد في الدولة ممن يحمل تابعيتها أية حصانة، فرئيس الدولة كأي شخص عادي إذا ارتكب جرماً يحاكم ويطبق عليه القانون، وكذلك أعضاء مجلس الشورى، فإن أياًّ منهم كأي شخص عادي. إلا أنه إذا كانت الجريمة المتهم بها في غير عمله الذي يقوم به في الدولة أي في غير أعمال الحكم أو الإدارة يحاكم أمام القضاء، وأما إذا كانت الجريمة المتهم بها في نفس عمله الذي يقوم به في الدولة أي في الحكم أو الإدارة فإنه يحاكم أمام محكمة المظالم. ولا توجد حصانة في الدولة الإسلامية لأحد مطلقاً سوى الرسل الذين يأتون من الخارج، أي من يسمون بالبعثات الدبلوماسية. فهؤلاء فقط لهم حصانة دبلوماسية، وما عداهم فلا توجد حصانة دبلوماسية لأحد مطلقاً.
الحريات العامة في الديمقراطية تناقض الإسلام
السابع: في النظام الديمقراطي يوجد ما يسمى بالحريات العامة: فهناك الحرية الشخصية، وحرية الملك، وحرية العقيدة، وحرية الرأي. فلكل إنسان أن يفعل ما يشاء، ولذلك لا توجد عقوبة على الزنا بل لا يجوز أن توضع عقوبة على الزنا لأن وضعها يعتبر تدخلاً في الحرية الشخصية، ولكل إنسان أن يملك بأي وسيلة أيَّ شيء يريد، فيملك بالقمار والغش والاحتكار. ولكل إنسان أن يعتنق العقيدة التي يريدها، وأن يقول الرأي الذي يراه. وهذا خلاف الإسلام. فإن الإسلام لا توجد فيه حرية بمعنى عدم التقيد بشيء عند القيام بالأعمال، بل الإسلام يقيد المسلم بالأحكام الشرعية، فكل عمل من أعمال المسلم يجب أن يتقيد به بالأحكام الشرعية، ولا يحل لمسلم أن يقوم بعمل إلا بحسب الأحكام الشرعية. وما يسمى بالحريات العامة لا وجود له في الإسلام، فلا توجد حرية شخصية، فالزانية والزاني يُجلد كل منهما أو يُرجم. ولا توجد حرية الملك، فالمال الذي يكسب بالقمار أو بالعقود الباطلة لا يملك. والمال الذي يُحرِّم الشرع أخذه كالربا لا يملك. ولا يجوز للمرء أن يملك بالتدليس والاحتكار. وكذلك لا توجد حرية عقيدة، فالمسلم إذا ارتد يُقتل إن لم يَتُب. وأما ما يسمى بحرية الرأي فإن الإسلام أباح للمسلم أن يقول الرأي الذي يراه ما لم يكن إثماً، وأوجب قول الحق في كل مكان وكل زمان، ففي حديث عبادة بن الصامت في بيعتهم للرسول r: «وأن نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم». وأوجب مجابهة الحكام بالرأي ومحاسبتهم على أعمالهم، قال r: «سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فنصحه فقتله». وهذا ليس حرية رأي بل هو تقيد بأحكام الشرع وهو إباحة قول الرأي في حالات ووجوبه في حالات. ولهذا كان الإسلام مخالفاً للديمقراطية فيما يسمى بالحريات العامة. فلا توجد حريات في الإسلام اللهم إلا الحرية بمعنى تحرير الرقيق من الرق.
ومن هذه النقاط السبع وحدها يظهر التناقض التام بين الإسلام والديمقراطية، وأن أحكام الديمقراطية شيء، وأحكام الإسلام شيء آخر، وبينهما مغايرة واضحة، وكل منهما غير الآخر بشكل بارز. فالديمقراطية غير الإسلام.
ومن هذا كله المذكور في هذه البنود الثمانية يتبين أن الفكرة التي تقول: «إن ما لا يخالف الإسلام ولم يرد نص على النهي عنه يجوز أخذه»، فكرة باطلة من أساسها. ويتضح من تدقيق الأدلة أن أخذ أي حكم من غير ما جاء به الشرع أخذ لحكم كفر، لأنه أخذ لغير ما أنزل الله. فإن الله سبحانه وتعالى نهى عن تحكيم غير الشرع، وفوق نهيه هذا الواضح في الأدلة السابقة من مثل قوله تعالى: ]فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحكِّموك فيما شَجَرَ بَيْنَهم[ وقول الرسول: «كل عمل ليس علينا أمرنا فهو رَدٌّ». فإنه جل شأنه قد نهى نهياً صريحاً عن أخذ الحكم الذي لم ينزله. فهو يقول للرسول: ]وأن احكم بينهم بما أنزلَ الله[، ويقول :]واحذّرْهم أن يَفْتنوك عن بعض ما أَنزلَ الله إليك[. ولم يكتف بذلك بل ندد بمن يحكم بغير ما أنزل الله فقال: ]ومن لم يحكم بما أنزلَ الله فأولئكَ هم الكافرون[ وجاء في آية أخرى: ]فأولئكَ هم الظالمون[ وجاء في آية ثالثة: ]فأولئكَ هم الفاسقون[ مما يدل على التشديد على التقيد بما أنزل الله وعلى حصر أخذ الحكم منه، ومنع الأخذ من غيره منعاً باتاً. وبهذا يكون أخذ القوانين الغربية والأحكام الديمقراطية ليس خطأ فحسب بل هو أخذ لحكم كفر، وهو حرام بغض النظر عما إذا وافق الشرع أم خالفه، وحتى لو أخذ نفس الحكم لا على أنه جاء به الشرع فهو كذلك حرام. ولهذا فإن ما يتعامل به المسلمون اليوم من معاملات وفق قوانين الغرب هو تعامل بأحكام كفر بغض النظر عن كونها تخالف ما جاء به الشرع أو توافقه، ما دامت أخذت لا على أساس أنها أحكام شرعية. حتى الرجل يستأجر العامل أو البيت أو السيارة إذا أجرى الإجارة حسب قوانين الغرب كانت إجراء على حكم كفر، وإذا أجراها حسب الحكم الشرعي فإنه يكون حلالاً سواء وافقت القانون أم خالفته.□
من كتاب «كيف هُدمت الخلافة لعبدالقديم زلّوم»
1988-02-22