بين الحضارة والمدنية
1988/02/22م
المقالات
7,541 زيارة
إعداد: عبدالله الأمين
ما بين الحضارة والمدنية فرق شاسع، وقد أدى الخلط بينهما إلى تسرب كثير من مفاهيم الكفر إلى أذهان المسلمين، لأنهم لم يميزوا بين ما كان حضارة مبنياً على وجهة النظر في الحياة، وما كان أشكالاً مدنية عالميّة لا تختص بها أمة من الأمم.
وقد انتشر القول بأن الغرب متفوق حضارياً على المسلمين، فهل هذا صحيح؟ أم أنه متفوق مدنياً فقط؟
بلبلة وتقهقر
يعود التخلف والتقهقر اللذان تعاني منهما أمّتنا الإسلامية بالدرجة الأولى إلى فقدان الصلة بينها وبين عقيدتها، واضطراب صورة المفاهيم الإسلامية في أذهان أبنائها وتشوّشها. وقد أدى ذلك إلى أن الأمّة فقدت الثقة بالإسلام، وظنت أنه سبب تخلّفها، بينما في الواقع عدم فهمها للإسلام هو الذي سبّب لها البلبلة والاضطراب، وبالتالي التقهقر والتخلّف عن ركب الأمم.
وقد كان أبرز ما تبدّى لأبناء المسلمين من تخلّفهم عن الغرب أمور الصناعة والعلوم وما شابه ذلك. لقد رأى المسلمون الفرق الشاسع بين ما عندهم من وسائل بدائية، وما ظهر في الغرب من ثورة صناعية تبهر الألباب وتأخذ بالعقول.
مفهومان مختلطان
وبسبب أن المسلمين لم يكونوا يفهمون الإسلام وما يبيح وما يحرّم بدقة، ظنوا أن الإسلام سبب تخلفهم لأنه يمنعهم من “التحضّر” والتقدم. وبسبب عدم وضوح الفرق بين ما كان حضارة وما كان أشكالاً مدنيّة عند المسلمين، لم يستطع المسلمون التمييز بين ما يجوز أخذه من الغرب وما لا يجوز. وكانت النتيجة أن تسرب الكثير من مفاهيم الكفر وأفكاره إلى عقول المسلمين فتبلبلت أفكارهم.
ودأب الكثير من مثقفينا و “المتنورين” – كما يسمونهم – على استعمال مصطلحي “الحضارة” و “المدنيّة” استعمالاً عشوائياً يضيع معه الغرض من استعمالهما، وبالتالي فإنهم خلطوا بين المدلولين. فجعلوا ما هو من الحضارة مدنيّاً، وما يعود إلى المدنية حضارياً. وتحت ستار المدنية، تسرب الكثير من المفاهيم الغربية إلى عقول أبناء المسلمين منذ قرنين حتى الآن.
حدود واضحة
فلا بد لنا من رسم حدود واضحة لكل من هذين المفهومين: “الحضارة” و “المدنيّة”، لكيلا يستمر الخلط بينهما، مع ما قد يؤدي إليه هذا الخلط من استمرار تسلل أفكار الكفر إلى عقول أبنائنا. وما دفعنا إلى هذا التفريق ثلاثة أسباب:
الأول: أننا نعترف بتفوّق الغرب في الصناعة والعلوم والمدنيّة، ولذلك فإننا كمسلمين ملتزمين بشرع الله نهتم بمعرفة ما يجوز أخذه من الأمم الأخرى وما لا يجوز أخذه. وهنا الفرق الشاسع بين مفهومي “الحضارة” و “المدنية”، لأنه فرق يتعلّق بحكم شرعي.
أما مسلمو القرن الماضي فلم يعرفوا هذا التمييز، بل أخذوا من الغرب حضارة ومدنية، أخذ تقليد لا تلقّي.
الثاني: الحرص على شخصية أمتنا الإسلامية التي تبلورت في اثني عشر قرناً من الزمان. فإذا علمنا أن الحضارة وجه الأمة – أيّة أمة، فإن مدنيّة الغرب لا يمكن أن تؤثر في حضارتنا وشخصيتنا.
الثالث: ما يدأب “المتنوّرون” على ترداده من أن الحضارة الإسلامية إنما تكوّنت بتأثير حضارات الأمم السابقة للإسلام، كاليونان والفرس والهنود الخ… والذي يدل فيما يدل على المزج بين مفهوم “الحضارة” و “المدنية”. وما يهمّنا في هذا السياق ليس الألفاظ بل المدلولات وما يتعلق بما يجوز شرعاً وما لا يجوز. وليس هناك مانع مطلقاً من الاصطلاح على أية ألفاظ أخرى ما دامت تفي بهذا الغرض.
مجموع المفاهيم
الحضارة مجموع المفاهيم عن الحياة، وغالباً ما تستعمل في الحديث عن مفاهيم أمّة وليس مفاهيم فرد. وهذه المفاهيم تكون مبنيّة على وجهة النظر إلى الحياة، أي أن الحضارة هي الأفكار والقواعد والأسس النابعة عن قاعدة أساسيّة يحدّد الإنسان بموجبها تصوّره الكلّي للحياة.
فالحضارة الغربية، مثلاً تقوم على أساس فصل الدين عن الحياة، وإنكار أن للدين أثراً في الحياة، وبالتالي فصل الدين عن الدولة. وبذلك نشأ الشعار الشهير “أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله” والذي يلخّص وجهة نظرهم أفصح تلخيص.
وهذه الحضارة غالباً ما تستعمل عند الإشارة إلى المفاهيم الكلّية عن الحياة، والتي تعتبر أساساً للأفكار الجزئية (التشريعات والقوانين). فمثلاً تصوير الحياة وغايتها وهدفها وسبل السعادة فيها تشكل جزءاً كبيراً من الحضارة. وفي الغرب، تُصوّر الحياة على أنها المنفعة الماديّة، لأنها هي مقياس الأعمال والحكم على حسنها أو قبحها. ولذلك كانت النفعية هي الأساس الذي يقوم عليه النظام، وتقوم عليه الحضارة، وكانت المفهوم البارز في النظام وفي الحضارة، لأنها تصوّر الحياة كلّها بأنها منفعة.
ولذلك كانت السعادة في الحضارة الغربية إعطاء الإنسان أكبر قسط من المنافع المادية، أي أكبر قسط من المتعة الجسدية وتوفير أسبابها له. ولهذا كانت الحضارة الغربية نفعية بحتة، لا تقيم لغير المنفعة أي وزن، ولا تعترف إلا بالمنفعة، بل وتعتبرها مقياساً للحكم على الأفعال والأشياء.
الإيمان بالله أساس الحضارة الإسلامية
أما الحضارة الإسلامية فإنها تقوم على أساس الإيمان بالله تعالى، وأنه هو الخالق والمدبر والمشرع، وأنه جعل للكون والإنسان والحياة نظاماً يسير بموجبه، وأنه أرسل سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بالإسلام ديناً: شرعة ومنهاجاً ونظاماً يسير عليه الناس. فالحضارة الإسلامية تقوم على أساس العقيدة الإسلامية، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقضاء والقدر خيرهما وشرّهما من الله تعالى.
وتصوير الحياة في الإسلام هو أن كلّ عمل فيها له غاية وله قصد. فالغاية هي الوصول إلى رضوان الله تعالى بطاعته والتزام شرعه، أما القصد من العمل فتحدّده قيمته الخلقية أو المادية أو الإنسانية. وأما السعادة فهي نيل رضوان الله تعالى، وليست إشباع جوعات الإنسان.
حضارة أسمى
ولذلك، فإن الحضارة الإسلامية تناقض الحضارة الغربية كل المناقضة، في الأساس الذي تقوم عليه، وفي تصويرها للعيش، وفي مفهوم السعادة في الحياة والغاية منها.
وواضح تمام الوضوح أن جميع مفاهيم الإنسان المسلم إنما يأخذها من الإسلام. والله تعالى أمر المسلمين بإتباع الإسلام ونهانا عن إتباع غيره. ولذلك لا يجوز بحال من الأحوال على المسلم أن يتخذ مفاهيم الكفار له أفكاراً، بل عليه رفض كل نتاج الغرب الحضاري (الفكري)، فالحضارة الغربية لا يجوز تقليدها ولا محاكاتها، ولا يجوز للمسلم أن يستورد أفكاره من الغرب أو من أي مبدأ سوى الإسلام.
ولذلك فالمسلمون هم أصحاب الحضارة الأفضل والأسمى، وبالتالي فإن حضارة الأمة الإسلامية أرقى الحضارات، ولا يمكن القول إن المسلمين متخلفون حضارياً عن الغرب، بل العكس هو الصحيح.
أشكال مادية
أما المدنية فهي الأشكال المادية للأشياء المحسوسة التي تستعمل في شؤون الحياة، وهذه الأشياء قد تكون خاصّة بحضارة معينة وتنتج عنها كالتماثيل، وقد تكون عامّة وغير مختصّة بحضارة من الحضارات، كتلك التي تنتج عن العلم وتقدّمه، والصناعة ورقيّها، فإنها أمور عالميّة ولا تختصّ بها أمة من الأمم، ولا تعكس حضارة معيّنة، ولا تنتج عن أي مفهوم عن الحياة.
فالأشكال المدنية الناجمة عن العلم والصناعة كأدوات المختبرات والآلات الطبية والصناعية والزراعية، والأثاث والطنافس وما شاكلها، كلّها أشكال مدنيّة عالميّة لا يراعى في أخذها أيّ شيء، لأنها ليست ناجمة عن الحضارة، ولا تتعلّق بوجهة النظر في الحياة. وهذه مباحة شرعاً، لأنها تندرج تحت القاعدة الشرعية “الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم“. وهذه الأشياء لم يرد فيهل دليل التحريم، ولذلك يجوز أخذها من أية أمّة من الأمم.
والعلوم والصناعات وفنونها يجوز أخذها، وتندرج تحت مفهوم حديث تأبير النخل، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين: “أنتم أدرى بشؤون دنياكم“، وبالتالي فإنه مباح للمسلمين أخذ هذه الأمور من أيّة أمة كانت، لأنها عالميّة ولا تختص بأمّة من الأمم.
وتخلّفنا نحن المسلمين في هذه المضامير ليس له أي مبرّر مطلقاً، اللهم إلا سعي الغرب لمنعنا من تحسين ظروفنا الاقتصادية والسير في طريق الصناعة والاختراع، لأننا بذلك نكتفي ذاتياً ونصبح في غنى عن استيراد هذه المصنوعات منه.
أشكال ترمز لمفاهيم
لكن هناك أشكالاً وأشياء نهانا الإسلام عن أخذها، وهي أشكال ناجمة عن مفاهيم من غير الإسلام. فكل ما كان خاصاً بالكفار ويعكس مفهوماً ليس من الإسلام يحرم على المسلمين أخذه واستعماله، ومثل هذا الملابس التي يتخذها الرهبان ليتميّزوا بها، فإنها ناتجة عن مفهوم فصل الدين عن الحياة، فضلاً عن أنها خاصّة بالكفار وتشير لطقوسهم الدينية (راجع مجلة “الوعي” – العدد الماضي – باب سؤال وجواب). ومثل هذا أيضاً التماثيل التي تشير إلى محاولة الإنسان محاكاة الخالق تعالى في خلقه للإنسان أو الحيوان، ومثل هذا أيضاً الأشكال التي ترمز إلى عقائد كفر، كالصليب والمنجل والشاكوش، الخ…
ولعلنا ألقينا الضوء على الفرق بين هذين المفهومين. وأن وضوح هذين المفهومين في أذهان المسلمين يجعل من السهل عليهم رفض كل مفاهيم الكفر التي زُرعت في أذهانهم. ومن المؤسف أننا نجد مفاهيم الغرب منتشرة بين المسلمين، كفكرة فصل الدين عن الحياة، واعتماد المنفعة مقياساً وغاية، وغير ذلك من المفاهيم الغربية. وإنما أخذ المسلمون مثل هذه الأفكار لأنهم ظنوا أنها من المدنيّة، وأنهم بأخذها يستطيعون اللحاق بركب التطوّر العلمي في الغرب.
عسى الله أن يهدينا لما يحب ويرضى، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
-
لا يمكن القول أن المسلمين متخلفون حضارياً عن الغرب، بل العكس هو الصحيح.
-
العلوم والصناعات أشكال مدنية عالمية ولا تختص بأمة من الأمم، ويجوز للمسلمين أخذها.
-
يتعلق مفهوما الحضارة والمدنية بما يجوز أخذه من الكفار وما لا يجوز أخذه.
حديث شريف
قال رسول الله e: «ما من والٍ يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاشٌ لهم إلاّ حرّم الله عليه الجنة».
رواه البخاري
قال رسول الله e: «أفضل الناس عند الله منزلة يوم القيامة: إمام عادل رقيق، وشر عباد الله عند الله يوم القيامة: إمام جائر خرق ».
رواه الطبراني في الأوسط
1988-02-22