يومُ بُعاث، كان يومًا قدّمه اللّهُ لرسوله ﷺ،
فهل نعيش مثله، وننتظر ما بعده؟!
هي حربٌ من الحروب الأهليّة التي دامت، بين أبناء العمّ من الأوس والخزرج، كما قيل مئة وعشرين عامًا. وكان من عوامل دوام هذه الحرب الأهليّة بقاءُ الكبار فيها من الطّرفين على قيد الحياة، ينفخون في نيرانها بما انتفخت به صدورهم من تاريخ طويل من الثّارات، وبدافع من الحرص على الزّعامات التي تتعارضُ مع وقف تلك الحروب والرّكون إلى السّلام؛ إلّا أنّ من توفيق اللّه عزّ وجلّ في حرب بُعاث، هذه أنّه قُتِل فيها مُعظم الكبار والأشراف من الطّرفين من ذوي المصلحة في استمرارها؛ فنشأ على إثر ذلك نشءٌ قد اكتوى بنارها، من غير أن يحمل في صدره ذلك الرّصيد الشّعوريّ الذي ينهزهُ للمُضيّ فيها، وقد خلت سَاحةُ الحرب من الكبار، الذين يحملون السّياط، يُلهبون بها ظهور الصّغار ليدفعوهم دفعًا في طريق الهلاك والدّمار، إشباعًا لنزواتهم المسعورة، وثاراتهم المجنونة... وهكذا راحَ أولئك النّشء من الشّباب، من قبيلتي الأوس والخزرج، يُلملِمُ جراحه، ويبحث عن طريق الخلاص، وكان اللّقاء مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في هذا الطّريق، فوجدوا في رسول اللّه ضالّتهم، كما وجد فيهم رسول اللّه ضالّته...
هذا المعنى هو الذي أدركتهُ عائشة رضي اللّه عنها كما ورد في صحيح البخاريّ، قالت: «كان يومُ بُعاث، يومًا قدّمه اللّهُ لرسوله صلى اللّه عليه وسلم، فقدِم رسول اللّه، وقد افترق ملؤهم، وقُتِلت سَرَواتُهم وجُرّحوا، فقدّمه اللّهُ لرسوله صلى اللّه عليه وسلم في دخولهم في الإسلام»، قدمه الله سبحانه لرسوله الكريم في ساعةٍ من الحرج في الدعوة قاسيةٍ، قدَّمه له قبيل اللحظة الحاسمة التي يتحقق فيها وعد الله، قدمه له في صورة السنَّة التي سنها الله في نصرة رسله، تلك السنة التي لا تتخلف ولا تحيد… إنّها صورة رهيبة، ترسم مبلغ الشّدة والكرب والضّيق في حياة الرّسل، وهم يواجهون الشّرك والعمى والإصرار والجحود؛ حيث تمرّ الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا قليل، وتكرّ الأعوام والباطل في قوته وكثرة أهله، والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة… إنها ساعات حرجة، ينتفش فيها الباطل ويبطش ويطغى ويغدر. والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في هذه الأرض…
في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب، ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل، ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة… في هذه اللحظة يجيء النصر كاملًا حاسمًا فاصلًا: (حَتَّىٰٓ إِذَا ٱسۡتَيَۡٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ جَآءَهُمۡ نَصۡرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُۖ وَلَا يُرَدُّ بَأۡسُنَا عَنِ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ). تلك سنة الله في الدعوات. لا بد من الشدائد، ولا بد من الكروب، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة. ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس، يجيء النصر من عند الله، فينجو الذين يستحقون النجاة، ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين، ينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون، ويحل بأس الله بالمجرمين، مدمرًا ماحقًا لا يقفون له، ولا يصدّه عنهم ولي ولا نصير…