لكل أمة مشروعها… ومشروع الأمة الإسلامية:
الخلافة الراشدة على منهاج النبوة
سليمان المهاجري – اليمن
إن أنظمة الحكم التي تقوم في الحياة، إنما تقوم على تشريعات وقوانين تبين شكل الدولة وصفتها، وقواعدها وأركانها، والأساس الذي تقوم عليه، وتضبط العلاقات بين الراعي والرعية وبين الناس فيما بينهم، وتبين نظرتها للحياة، أي مجموعة الأفكار والمفاهيم والمقاييس التي ترعى الشؤون بمقتضاها وتشكل لها طريقتها في العيش، وتحدد مفاهيم السلطان والسيادة والطاعة، وتحدد الدستور والقوانين التي تطبقها، وتفصل في أحكام الخروج على تلك الأحكام وعلى الدولة، وتفصل في طريقة اختيار الحاكم، وصلاحياته، وأجهزة الحكم والإدارة التي تكوّن الحكومة وتنظم عملها، وبالنظر في الإسلام نجده حدد مفاهيم دقيقة تفصيلية في كل هذا، ومنها دار الإسلام ودار الكفر والأمان، وما شابهها…
فقد نزلت آيات تفصيلية في التشريع الحربي والجنائي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والمعاملات والقضاء والعقوبات، وغيرها… وكلها أُنزلت للحكم بها ولتطبيقها وتنفيذها. وقد طُبقت بالفعل في الواقع العملي أيام الرسول ﷺ، وأيام الخلفاء الراشدين، رضوان الله عليهم أجمعين، ومن أتى بعدهم من حكام المسلمين. مما يدل دلالة واضحة على أن الإسلام فيه نظامٌ محدد للحكم والدولة، وللمجتمع والحياة، وللأمة والأفراد. كما يدل على أن الدولة لا تملك الحكم إلا إذا كانت تسير وفق نظام الإسلام. ولا يكون للإسلام وجود إلا إذا كان حيًا في دولة تُنفذ أحكامه. فالإسلام دين ومبدأ، والحكم والدولة جزء منه، والدولة هي الطريقة الشرعية الوحيدة التي وضعها الإسلام لتطبيق أحكامه وتنفيذها في الحياة العامة. ولا يوجد الإسلام وجودًا حيًا إلا إذا كانت له دولة تطبقه في جميع الأحوال، كما يدل دلالة قاطعة على أن الإسلام حدد بالتفصيل شكل نظام الحكم وتفصيلاته، وطبقها واقعًا عمليًا في دولة النبوة الأولى في المدينة، ومن ثم في دولة الخلافة من بعده، مما يدل دلالة واضحة على أن الأمة الإسلامية لها مشروع رباني، هو دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة .
فقد أقام الرسول ﷺ الدولة الإسلامية في المدينة، وبين أجهزتها ونظامها، فعين الولاة، والقضاة، والمعاونين، وأقام نظام الشورى، مما يدل دلالة واضحة على أن شكل الدولة الإسلامية ونظامها تشريع رباني، وأن الأحكام نزلت ونزلت معها طريقة تطبيقها، ولم تترك الأمر لأهواء الناس وما تعارفوا عليه!
إن الله سبحانه قد كرم الأمة الإسلامية وجعلها أمة واحدة بهذا الدين الإسلامي الذي جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فآمن به المسلمون الأوائل، وطبَّقوه كاملًا في دولة واحدة، هي دولة الخلافة الإسلامية، واستمرت مئات السنين وهي ترعى شؤون المسلمين وغير المسلمين ممن هم من رعاياها. كل هذا يدل دلالة قاطعة لاشك فيها، على أن هذا المشروع الذي تحمله هذه الأمة مشروع عظيم، كيف لا، وهو من لدن حكيم خبير؟! وكيف ﻻ يكون عظيمًا، وهو منبثق من عقيدة لا إله الا الله.
إن ارتباط مشروع الأمة الإسلامية (دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة) بالعقيدة الإسلامية هو ارتباط وثيق؛ بحيث لا يجوز فصل أحدهما عن الآخر، بل إن من مقاصد الشريعة الإسلامية هو إقامة النظام الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى للعباد، والأدلة على ذلك كثيرة منها:
قال الحق سبحانه وتعالى: ]لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ[، يقول الشيخ ثائر سلامة في كتاب (إقامة الدولة الإسلامية في ظل قانون السببية والسنن الإلهية والسنن التاريخية): «وقوله، ]لَقَدۡ[ اللام واقعة في جواب قسم محذوف، واللام في قوله ]لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ[ هي لام التعليل، فأحد أهم المقاصد الكلية من إنزال البينات مع الرسل هي أن يقوم الناس بالقسط وفق الأحكام التي نزلت مع هؤلاء الرسل والأنبياء.
فالدين إذًا: نزل ليكون نظام حياة يُحكِّم الناسُ أحكامَهُ في حياتهم وجوبًا، ]كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ[ واللام في قوله ]لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ[ هي لام التعليل، فأحد أهم المقاصد الكلية من بعث النبيين ومعهم البشارة والنذارة أن يحكم الكتاب بين الناس، ليصلح معاشهم، ويسود الحق والعدل في كل شأن من شؤون حياتهم، أي ليحكم من خلال دولة، وبالتالي فإن تطبيق هذه الأحكام في واقع الحياة إنما هو مقصد الشريعة الأعظم، ومقصد إرسال الرسول ﷺ، ومقصد إنزال الكتاب! وأساس الدين المتين، وإقامته في حياة الناس إنما هو من أوجب الواجبات، فإقامة الدولة الإسلامية، أي دولة الخلافة، هي الطريقة التي يتم من خلالها تحقيق المقاصد التي لأجلها بعث الله الرسول ﷺ، والتي لأجلها أنزل الكتاب!»
فإقامة هذا النظام إذًا، هو إقامة لمنظومة الأوامر والنواهي الإلهية المنبثقة عن العقيدة الإسلامية المنزلة بالوحي، والتي أمرنا بالاستقامة عليها، واعتبر الخروج عليها طغيانًا، وتحكيم غيرها كفرًا أوفسقًا أوظلمًا، واحتكامًا للطاغوت الذي أمرنا أن نكفر به، سواء الأحكام المتعلقة بالعبد كفرد، مثل أحكام الصلاة والصيام، وتغيير المنكر الفردي، أو المتعلقة بالأمة كجماعة، والتي تطبق من خلال الدولة مثل أنظمة العقوبات، والمعاملات، والقضاء، والاقتصاد، والاجتماع، والتعليم، والسياسة الداخلية والخارجية، والمعاهدات، والحروب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما إلى ذلك، وجماع هذا كله يكون في نظام الدولة الإسلامية التي تسمى دولة الخلافة؛ لذلك كان بديهيًا أن يقال بأن إقامة هذه الدولة هو إقامة لكل أحكام الإسلام في الأرض، فهو من أوجب الواجبات وأولاها بالعناية وتشمير السواعد ليقوم الناس بالقسط!
وهل أنزل الله الشريعة إلا لتطبق، والأحكام إلا لتكون الفرقان بين الحق والباطل، والفيصل بين العدل والجور، وليقوم الناس بالقسط بإنزالهم أحكام الله على النوازل فيمتثلون أوامره وينتهون عن نواهيه، ويقيمون فيهم سلطانه، ويجعلون السيادة لشريعته؟
جمع الله تعالى كل ما أنزل من أحكام وشرائع، ومن أوامر ونواهٍ، تحت تسمية واحدة جامعة مانعة، سماها: ]ٱلۡأَمۡرِ[: ]ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨ [، ] أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ[، فالله جمع مجموع ما أنزل من أوامر ونواه تحت مسمى الأمر، أمرًا لتساس حياة الناس وفقًا له، وجعل ولاية هذا الأمر لولي الأمر،
والولاية: النصرة، والسيادة، وتولي رعاية الشؤون، فهو من يتولى رعاية الشؤون وفق أوامر الله، فأمر بإقامة ولي للأمر، وجعل له الطاعة مقابل تطبيق الأحكام وإقامة الدين، وقرن طاعته بطاعة الله ورسوله، عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي»!.
وجعل الخروج عن طاعته مؤذنًا بخلع ربقة الإسلام من العنق، فإنْ صاحَبَ الخروجَ شقٌّ لعصا المسلمين أمر بالقتل درءًا لفتنة تفرق المسلمين! فأي أمر عظيم هذا الذي غلَّظ في العقوبة عليه، وفي التنفير من اقترافه، بل إنه جعل غيابه فتنة، قال تعالى: ]وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ[.
أو لم يجعل الله كل حكم غير حكمه جاهلية وطاغوتًا أمر أن نكفر به، وأمر كل أمة أن تحكم بما أنزله تعالى، وقال عن اليهود والنصارى: ]قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَسۡتُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡۗ [ فغلَّظ في وصف ]وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٤٤[ ]ٱلظَّٰلِمُونَ[ ]ٱلۡفَٰسِقُونَ[، فجعله بين الكافر أو الفاسق أو الظالم، وفوق ذلك جعل عقوبة من حكم بما أنزل الله، ولكنه غشَّ في الحكم أن لا يشم رائحة الجنة!
وقال ابن سعد في طبقاته: أخبرنا إسماعيل بن عبد الله بن خالد السكري قال: حدثنا أبو المليح قال: كتب عمر بن عبد العزيز: إن إقامة الحدود عندي كإقامة الصلاة والزكاة! فكيف بعد هذا لا يكون مشروع الأمة، الخلافة الإسلامية، مشروعًا عظيمًا؟ أو أن الدين لم ينزل ليقيم دولة؟ أو أن الدولة فكرة عرضية في الإسلام من الدرجة الثانية من الأهمية؟ أو لم يجعل الله تعالى الخروج عليها خلعًا لربقة الإسلام من الأعناق، وتكون ميتة المسلم بلا بيعة لخليفة ميتة جاهلية؟!… أو لم تقرن في الإسلام طاعة الخليفة بطاعة الله تعالى ورسوله ﷺ بـقولـه تعالى: ]يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا٥٩[. أو لم يعدَّ الله كل نظام غير نظام الإسلام طاغوتًا أمرنا بالكفر به، وأي تنازع إلى غيره دليل على أن الإيمان مجرد زعم، وذلك من قوله تعالى: ]أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدٗا٦٠[ ألا يشير ذلك إلى أن الحكم بما أنزل الله هو من صميم الإسلام. وطريقته الشرعية لذلك هي الخلافة الإسلامية. ومن أدلة الحكم بالإسلام الكثيرة، قوله تعالى: ]وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ١[، وقوله تعالى: ]وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكٞ فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ ١٥٥[، وقوله تعالى: ]يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡۖ[.
ومن هنا نقول: إن الإسلام بأحكامه ونظامه ودولته، هو الذي صنع المسلمين الأوائل، وجعلهم في سابق عهدهم أهل عزّ وكرامة، وعقيدته هي التي هذبتهم، وجعلتهم يختلفون عن باقي الخلق والمخلوقات.
ودولته هي التي كان المسلمون يستظلون بظلها، هي التي كانت تحفظ بيضتهم، وتذود عنهم، وبها ومعها صنعوا عزّتهم ومكانتهم بين الأمم، وكانت لهم تلك الكرامة.
فواللهِ، إنه لا عزّة ولا كرامة للمسلمين بين الأمم إن لم يعودوا إلى ربهم وعقيدتهم، ويعيدوا بناء دولة الحبيب المصطفى، صلوات ربنا وسلامه عليه، تلك العقيدة وتلك الدولة التي صنعت للمسلمين الأوائل تاريخًا غير تاريخهم الذي كانوا عليه من قبل، وغيرت حالهم، فمن عبودية ومهانة وإذلال وانقياد وانصياع للكفر وأهله، إلى سيادة وريادة ورحمة وعزَّة ومنعة.
أولئك الذين سبقونا، أرادوا لأنفسهم ولدينهم ولأمتهم العزة في الله، وحقّ لهم أن يسعوا لها، ويصلوا إلى ذرى المجد فيها؛ فهم عملوا لذلك حق العمل، وأعدوا لها ما يلزم من عتاد، وملكوا من القوة ما جعلهم أقوياء يُرهبون عدو الله وعدوهم؛ لأنهم فهموا وعملوا بقول ربّ العزة جل في علاه: ]وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ[ فكان لهم ما أراد لهم ربهم من خيرية بين الأمم، وبقي إلى أن هُدمت دولة الخلافة، ففقدت أمة محمد، صلوات ربنا وسلامه عليه، ذلك المشروع الحضاري العظيم، فقدت الراعي والحامي، فهانت بعد عزّ، وذلّت بعد كرامة، وأصبحت في ذيل الأمم!. ولماذا لا يكون ذلك طالما ابتغى المسلمون العزة بغير الله، وبغير دينه؟! وكيف لا يكون مثل هذا الهوان، والله عزّ وجلّ يقول: ]مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ جَمِيعًاۚ[؟! . وكيف لا يكون هذا الهوان، وسيدنا عمر رضي الله عنه يقول: «لقد كنّا أذلاء فأعزنا الله بالإسلام ، فإذا ابتغينا العزة بغيرهِ أذلنا الله»؟!.
أما آن للمسلمين، بعد طول غياب عن تحكيم كتاب الله في شؤون حياتهم من خلال دولة الإسلام التي يرعاها خليفة المسلمين وسلطانهم، أما آن لهم أن يعودوا إلى مَعين عزتهم ومصدر قوتهم ووحدتهم، بعد أن رأَوا بأم أعينهم ما جرّت عليهم معصيتهم هذه من ويلات؛ وذلك ببعدهم عن دينهم وتخليهم عن دستورهم الخالد وهداياته الباهرة، وصدق الله العظيم حين قال: ]وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ ١٢٤ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرۡتَنِيٓ أَعۡمَىٰ وَقَدۡ كُنتُ بَصِيرٗا ١٢٥ قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتۡكَ ءَايَٰتُنَا فَنَسِيتَهَاۖ وَكَذَٰلِكَ ٱلۡيَوۡمَ تُنسَىٰ ١٢٦[.
والمتبصر بأحوال المسلمين على امتداد التاريخ الإسلامي، يجد هذه الحقيقة القرآنية ماثلة للعيان، فحين ابتعدت الأمة عن مشروعها الرباني الذي ارتضاه الله لها أصابها الضعف، واعتراها الهوان، وطمعت بها أمم الأرض للسيطرة عليها، واحتلال أرضها، ونهب خيراتها، وطمس حضارتها بإلقائها في النهر كما فعل المغول، أو نهبها ومحاربة عقول علمائها كما فعل الاحتلال الأميركي في العراق، تحت ستار تحريره، بل تجريده من كل شيء…فاعتبروا يا أولي الأبصار…
إنه لا مخرج للأمة مما تعانيه إلا الرجوع إلى دينها، والحكم بما أنزل الله، فهذا هو السبيل الوحيد لنهضة الأمة، والذود عن كرامتها، وحماية أرضها. وكما حررت الأمة بلادها من اجتياح المغول في عين جالوت، وكما ردّت الحملات الصليبية في حطين، يوم كان الشعار: واإسلاماه، وكان الحاكم لا يبتسم وبيت المقدس أسير الاحتلال.
أفلم يأْنِ لك، أمةَ الإسلام، بعد هذا وذاك، أن تتدبري أمرك فتعلمي أنَّ المخرج الوحيد والأوحد من هذه الظلمات المتراكمة بعضها فوق بعض هو نظام الخــلافـة الرباني؟
إن الخلافة هي المنقذ للأمة من ذُلِّها وشقائها، وهي الكافية الوافية لإعادة عزة المسلمين وكرامتهم، وهي النظام الذي أوجبه الله رب العالمين، وجعل النصر معقودًا بنواصيه. فبالخلافة تعود سيرة المعتصم، وبالخــلافـة تَـنْـفِرون لقتال عدوّكم، يكون خليفتُكم أمامَكم في القتال، لا أمامكم في الفرار، تتقون به وتقاتلون من ورائه، فيقودكم من نصر إلى نصر، لا من هزيمة إلى هزيمة.
أيها المسلمون، أقيموا دولة الخلافة تعزّوا وتفلحوا، وإلا بقيتم في ظلمات الحكم بغير ما أنزل الله، ظلماتٍ بعضها فوق بعض، واستبدلكم الله بقوم خير منكم، يتحقق فيهم وعد الله سبحانه: ]وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ[، وتتحقق على أيديهم بشرى رسول الله ﷺ» ثم تكون خلافةً على منهاج النبوة«
فوالله الذي لا إله إلا هو، إنّ أوجب الواجبات على المسلمين الآن هو الدعوة والعمل إلى إقامة شرع الله في الأرض، وهذا لا يكون إلا بإقامة دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة… ووالله الذي لا إله إلا هو، لا عزة ولا كرامة للمسلمين بدون دولة الإسلام الغائبة المغيّبة، دولة الخلافة الراشدة، يستظلون بها، ويحتمون بإمامها، يدفع عنهم وعن الدين، ويحمي بيضتهم ويقوي شوكتهم، ويكون المسلمون كلهم تحت إمرته وطاعته لنشر هذا الدين؛ لتنعم البشرية بدين الله تبارك وتعالى، وتخرج من نير العبودية والبهيمية وظلمات الأحكام الجائرة والقوانين الوضعية الرأسمالية والأفكار الضالة المضلة إلى نور الإسلام العظيم.
يقول الحق تبارك وتعالى: ] وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ٥٥[.اللهم أقم فينا دولة الإسلام، واغفر لنا تقصيرنا، واستخلفنا ولا تستبدلنا، إنك نعم المولى ونعم النصير.