الأقليات بين دولة الخلافة وبين الدولة العلمانية
2013/10/29م
المقالات
2,818 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأقليات بين دولة الخلافة وبين الدولة العلمانية
الدولة العلمانية نموذج لم يعرفه العالم الإسلامي إلا بعد سقوط دولة الخلافة العثمانية واستعماره من قبل الدول الغربية التي فرضت الدولة العلمانية فرضاً على المسلمين. وهي نقل لما هو قائم في الغرب مع الاختلاف البين بين حضارة الإسلام والحضارة الغربية في الأسس والفروع. وقبل الحديث عن الدولة العلمانية في العالم الإسلامي يحسن بنا أن نقف وقفات قصيرة مع الدولة العلمانية في الغرب حيث المنشأ لنستبين الفرق بينها وبين دولة الخلافة ونستوضح إن كان هذا النموذج يعالج مشكلة الأقليات:
إن نموذج الدولة العلمانية في الغرب هو الذي أفرز مشكلة الأقليات وأوجدها، لأن الدولة العلمانية التي تفصل الدين عن الحياة اضطرت إلى أن تعرف نفسها بمعرفات عرقية ولغوية وتاريخية وجاءت بالمفهوم القومي للأمة والدولة، فأدى ذلك إلى إقصاء عرقيات ولغات ومعرفات مرتبطة بالتاريخ والثقافة واستثنائها. أما دولة الخلافة فإنها لا تعرف نفسها بمثل هذه المعرفات العرقية واللغوية والتاريخية، ولا تجعل الأمة ولا الدولة ذات طابع قومي، بل هي معرفة إنسانياً وتصلح لتحكم العالم بأسره. وهي بذلك لا تعرف مشكلة الأقليات.
تبعاً لتعريف الدولة العلمانية قومياً مع ما يستلزم ذلك من المعرفات العرقية واللغوية والتاريخية الثقافية فإن وجود أعراق ولغات وثقافات أخرى غير تلك التي عرفت على أساسها الدولة يشكل تهديداً للدولة القومية، ولذلك تجد الدولة العلمانية القومية نفسها مجبرة من أجل الحفاظ على مقوماتها على التصدي للآخرين، والتضييق عليهم فتجبرهم من حيث تريد أو لا تريد على تعريف نفسهم والبحث عن هويتهم في العرق واللغة والتاريخ والثقافة المخالفة لما عليه الدولة القومية، وتستعدي بذلك المخالفين، فيبدأ الآخرون على شكل أقليات بالمطالبة بحقوقهم العرقية واللغوية والثقافية لشعورهم بالظلم والإقصاء، أما دولة الخلافة فلا تجد أي حرج في تعدد الأعراق واللغات لأن ذلك لا يهدد مقوماتها، بل تسمح للآخرين على نحو طبيعي دون نص على هذه الحقوق ودون عمل من قبل الأقليات لتحصيلها لأنها موفرة لهم طبيعياً، فدولة الخلافة لا تتدخل باللغات القائمة.
لما اعتمدت الدولة العلمانية بناء على المبدأ الرأسمالي مفهوم الأكثرية في تحديد الصواب، وجعلت رأي الأكثرية هو الحق المطلق فقد أهدرت بذلك حق الأقلية التي يمكن أن يكون رأيها أصوب من رأي الأكثرية، وأغلقت الباب في وجهها. أما دولة الخلافة فإنها لا تعتمد بناء على الإسلام رأي الأكثرية كضابط للحق والصواب، بل تعتمد على الشرع الذي حسم الأمر، وتتبع في القضايا الاجتهادية الرأي الذي يعتمد على دليل أقوى بغض النظر عن الأكثرية والأقلية، ولا تعتمد الأكثرية إلا في المسائل العملية التي لا يبحث فيها عن الحق والصواب. وبذلك فإنها لا تقع في إشكالية إقصاء الأقلية لأنه لا وجود للأقلية فيها بهذا المفهوم.
إن نشوء النموذج العلماني في الغرب لا ينفك عن الجو الفكري والشعوري الذي كان يتحكم في تفكير الغرب وشعوره. فقد ساد في الغرب رفض المخالف ومنعه من أية حقوق بل ومحاولة القضاء عليه. وهذا الأمر وإن لم يكن في العصور الوسطى يتخذ صورة الأقليات بالمفهوم السياسي الحديث إلا أنه كان رفضاً لكل مخالف ولو كان من الدين نفسه ولكنه خالف في الاجتهاد، وتاريخ أوروبا عامر بالأدلة على رفض الآخرين وقتلهم والتنكيل بهم لمجرد كونهم مخالفين، وما الحروب الدينية التي سادت بين المذاهب النصرانية إلا مثل من أمثلة رفض الآخر، ومع أن الفكر العلماني جاء كردة فعل على هذا إلا أنه لم يتخلص من المخزون الفكري والشعوري الغربي فبقي رافضاً لغيره مقصياً المخالف. فالأحزاب اليمينية والأحزاب المعادية للإسلام وهي أحزاب علمانية وتجد دعماً قوياً في أوساط الجماهير الغربية هي من الأمثلة لرفض الآخر في الحس الجماعي الغربي، وسائر الأحزاب لا تختلف عنها كثيراً. أما دولة الخلافة القائمة على أساس الإسلام فإنها تنظر إلى التنوع والاختلاف باعتباره آية من آيات الله في خلقه، وباعتباره معطىً ينسجم مع سنن الكون، ولذلك فإنها لا تجد أية إشكالية في التعدد والتنوع ضمن النظام العام، وليس عندها مخزون فكري وشعوري سلبي تجاه المخالف. وتاريخ الدولة الإسلامية شاهد على ذلك. تقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه (في شمس العرب تسطع على الغرب): «العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، فالمسيحيون والزرادشتية واليهود الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصب الديني وأفظعها؛ سمح لهم جميعاً دون أي عائق يمنعهم بممارسة شعائر دينهم، وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى، أوليس هذا منتهى التسامح؟ أين روى التاريخ مثل تلك الأعمال؟ ومتى؟».
هناك تناقض بيّن في الدولة العلمانية الغربية، فهي تزعم بأن المجتمع مؤسس على فكرة الحريات العامة، فكل فرد في المجتمع يتمتع بهذه الحريات بغض النظر عن الفوارق الدينية أو الفكرية أو العادات والتقاليد أو الفوارق اللغوية أو الثقافية، وفي الوقت نفسه تنادي بتقسيم الناس على أساس هذه الفوارق بدعوى حقوق الأقلية. وهي كذلك تقول بفصل الدين عن الحياة بما يقتضيه من إبعاد الدين عن معترك الحياة، وتنادي باستقلال الشعوب على أساس فروق دينية!
يقول منظرو الدولة العلمانية في الغرب بأن الدولة الدينية الكهنوتية كانت سبباً في ظلم الآخرين وإقصائهم وهذه مقولة حق، ويقولون كذلك بأن الحل لتحصيل العدالة والمساواة للجميع يكمن في الدولة العلمانية التي تكون على مسافة واحدة من الأديان والمعتقدات وهذه مقولة باطلة، فالدولة العلمانية لم تقف على مسافة واحدة من الأديان، كما أنها ظلمت الأديان كلها وخصوصاً الإسلام. أما أنها لم تقف على مسافة واحدة من الأديان فظاهر في اعتمادها على المعرفات التاريخية والثقافية والدينية في تحديد الدولة القومية، ولذلك يكثر الغربيون من القول بأن دولهم دول نصرانية، ولا يخفى ما تلاقيه الكنائس التقليدية من دعم الحكومات بينما لا تجد الكنائس الأخرى ولا الأديان الأخرى مثل هذا الدعم. وأما ظلمها للأديان فإنها فرضت على المجموعات الدينية أن تقبل بالدستور والنظام الديمقراطي العلماني من أجل الاعتراف بها رسمياً بوصفها مؤسسات دينية، ولكن هذا الشرط يتناقض في كثير من الأحيان مع العقائد الدينية حتى عند النصارى، فالحرية الشخصية لا تقول بها النصرانية ولا اليهودية لأن كلتا الديانتين تحرِّمان الزنا على سبيل المثال. وأما الإسلام فإنه يشكل تحدياً متميزاً للدولة العلمانية لا تستطيع حله، لأنه يعتبر ديناً من ناحية روحية، ولكنه نظام حياة من ناحية عقدية وتشريعية. فإذا رفضته الدولة العلمانية فقد رفضت ديناً ومنعته، وإذا قبلت به تحت شروطها فقد غيرته وحولته وأخرجت أهله عن دينهم. ولذلك فإن الدولة العلمانية في الغرب في حيرة من أمرها، وتفرض على المسلمين كي تقبل بهم التنازل عن أمور أساسية من أمور دينهم لتجعل دينهم كسائر الأديان، وهذا ولا شك يتناقض مع حرية العقيدة المدعاة، وهو ظلم عظيم. أما دولة الخلافة فإنها تستوعب الأديان كلها دون إشكالية لأنها تجعل للأديان خصوصية قانونية في المجالات الدينية وتتيح لأتباع الأديان المختلفة مساحة واسعة لممارسة دينهم والعيش بمقتضى عقائدهم ولا تفرض على أتباع الأديان الأخرى الإيمان بدستور الدولة والموافقة الفكرية عليه، بل تكتفي منهم بعدم الخروج على الدولة، والخضوع للنظام العام.
هذه بعض الأمور التي يظهر فيها الاختلاف النظري بين دولة الخلافة والدولة العلمانية الغربية في مسألة الأقليات. أما من الناحية العملية فإن الدولة العلمانية الغربية فشلت فشلاً ذريعاً في صهر الشعوب في بوتقة فكرها، وفي التعامل مع الأقليات بمختلف أشكالها. فالتفريق العنصري شائع في الدول الغربية ليس على مستوى الشعوب فحسب بل على مستوى الدول والحكومات، وعلى مستوى السياسيين والأحزاب السياسية، وهذا أمر ظاهر في الغرب بحيث لا يسع عاقلاً إنكاره، والدراسات التي نشرت في هذا الباب كثيرة جداً، ومن يعيش في البلاد الغربية يلمس ذلك بلا شك. وتعامل الدول الغربية مع الأقليات فيه إقصاء شديد لها، فقد أظهرت دراسة تحت عنوان «يوروموزائيك» ونشرها الاتحاد الأوروبي في عام 1996م أنه من بين 48 أقلية لغوية في الاتحاد الأوروبي يوجد 23 أقلية في طريقها إلى الاختفاء أو وجودها ضعيف جداً، و12 أخرى مهددة في بقائها. وحسب بيانات واردة عند «منظمة الشعوب المهددة» فإنه يوجد في أوروبا 40 مليون مواطن لغاتهم الأم غير معترف بها من قبل دول الاتحاد، وبهذا فإنه يجري تهميشهم، وليس هناك أمل باعتراف هذه الدول بلغاتهم وثقافاتهم. وهناك سياسات معادية للأقليات في كثير من الدول الأوروبية، فاليونان تنكر وجود أقليات عرقية كالألبان والأرمون والسلافوماتسيدونيين، وتتصرف بعنصرية تجاه الأقلية المسلمة من أصول تركية وبلغارية، وترفض فرنسا إعطاء ما يقارب خمسة ملايين مواطن من أقليات عرقية متعددة كالباسك والبريتونيين وغيرهم حقوقهم اللغوية والثقافية. ولا يختلف الأمر كثيراً في سائر الدول الأوروبية، وأما الأقليات التي تطالب بحقوق سياسية فإنه يجري قمعها ودفعها نحو الأعمال المادية لتبرير محاربتها، وذلك كما جرى مع الأقلية الباسكية في إسبانيا ومع الأقلية الكاثوليكية في المملكة المتحدة. وأما الأقليات العرقية غير ذات الشأن فحدث ولا حرج، فواقع الأقلية الغجرية (السينتي والروما) في أوروبا هو وصمة عار في جبين الدولة العلمانية الغربية، فملايين الناس من الغجر يعاملون معاملة الحيوانات في الدول الغربية ولا يعطون أدنى الحقوق، وكثير منهم لا يعترف بهم ولا يحملون جنسيات بل هم موزعون هنا وهناك، وتجري محاولات للتخلص منهم بأي ثمن كما حصل قبل مدة ليست ببعيدة حين قامت فرنسا بطردهم وإعادتهم إلى رومانيا، مع أن ذلك يخالف اتفاقيات الاتحاد الأوروبي والقوانين المعمول بها رسمياً. هذا في أوروبا، وأما في أميركا فالأمر ليس بأفضل حالاً، فالأقلية السوداء ما زالت تعاني حتى هذا اليوم من التهميش والتضييق وهذا بعد قرون من قيام الدولة العلمانية الديمقراطية، والأقليات الآتية من دول أميركا اللاتينية ليست أوفر حظاً. وأما السكان الأصليون فقامت دولة الولايات المتحدة الأميركية بإبادتهم وأخفت أثرهم، ومن بقي منهم فإنه مهمش لا قيمة له.
وأما المسلمون في الغرب فإن التضييق عليهم وخصوصاً بعد أحداث عام 2001م جاوز كل حد، فالمسلمون غير معترف بدينهم في كثير من الدول الغربية، ولا يستطيعون بناء مساجد إلا بشق الأنفس، وكثير من مصلياتهم غير معترف بها وهي موجودة في الساحات الخلفية وفي أماكن مهينة. ولا يستطيعون الحصول على كثير من المتطلبات الطبيعية البسيطة حسب دينهم، فالذبح الحلال مشكلة كبيرة والتضحية في عيد الأضحى مشكلة أكبر، والمقابر الإسلامية غير متوفرة بسهولة، وإذا وجدت فهي ضمن مقابر لغير المسلمين، والتضييق عليهم في شؤون دينهم كخمار المرأة المسلمة والصلاة في المدارس لم يقتصر على الشعوب بل تعداها إلى الدول التي أصدرت قوانين تمنع بنات المسلمين من لبس الخمار في المدارس ومن لبس النقاب في الحياة العامة وتضع عقوبة على ذلك. وإلزام أبناء المسلمين في المدارس بدروس السباحة والرياضة مع ما يتطلب ذلك من كشف العورات أمر شائع، ومثله مشاركة أبناء المسلمين في الاحتفال بأعياد النصارى. وإنشاء مدارس للمسلمين أمر في غاية التعقيد، بينما يتاح لغيرهم بقليل جهد. وأعياد المسلمين غير معترف بها في كثير من الدول فلا يستطيع العمال المسلمون أخذ إجازة رسمية للاحتفال بأعيادهم، وكذلك الأمر مع صلاة الجمعة فإن أغلب المسلمين لا يستطيعون أداءها لأنهم لا يمكنون من ذلك بسبب عملهم، ومثلهم طلاب المدارس الذين لا يسمح لهم بأخذ إجازة العيد. وفوق هذا كله فإنه يجري التمييز ضدهم في مختلف المجالات كالعمل والتوظيف واستئجار البيوت وفي المدارس والجامعات وفي مؤسسات الدولة. هذا وقد أصدرت الدول الغربية كلها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر قوانين بحجة محاربة الإرهاب واستعملتها ضد المسلمين، فأخذتهم بالشبهة والظنة، وقامت بمراقبة أبناء المسلمين في الجامعات عشوائياً، وراقبت مساجدهم ومصلياتهم، وتنصتت عليهم في حياتهم الخاصة وبيوتهم وعلى أجهزة اتصالاتهم، وحققت أجهزتها الأمنية مع كثير منهم، وفتحت ملفات تحقيق ضد الآلاف من المسلمين لمجرد أنهم ملتزمون بدينهم، وداهمت بيوت آلاف من المسلمين بحجة الإرهاب والتطرف، وأصدرت قرارات منع ضد جماعات ومنظمات إسلامية لأسباب تافهة، ولاحقت أعضاءها ومنتسبيها بغير وجه حق، وحكمت محاكمها ضد الكثيرين من أبناء المسلمين بعقوبات من غير أدلة، وطرد عدد كبير من أبناء المسلمين من الدول الغربية بحجة خطورتهم على أمن البلاد، وسحبت الجنسيات من عدد من المسلمين بذرائع مختلفة، وحصلت ضدهم مظالم لا تحصى، وقامت وسائل الإعلام بالتوازي مع ذلك وما زالت بشن هجوم عنيف على الإسلام والمسلمين وعلى نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم وعلى شريعة الإسلام، وخلقت أجواء من الشحناء والبغضاء ضد المسلمين، وأيدها في ذلك السياسيون والأحزاب السياسية، والجهات الرسمية، حتى أصبح المسلم متهماً عند جيرانه ومن قبل زملائه، وأدت هذه الأجواء المشحونة إلى اعتداءات يومية على المسلمين انتهى عدد منها إلى القتل، وقامت مجموعات باستهداف الإسلام والمسلمين وبتصوير الإسلام بأنه عدو التحضر والمدنية. وباختصار شديد فإن عيش المسلم المتمسك بدينه في البلاد الغربية أصبح صعباً جداً، والأمر مرشح لمزيد من التوتر والتصاعد خصوصاً في ظل الأزمة المالية الحادة التي تعاني منها أوروبا، ولا يبعد أن يكون المسلمون الكبش الذي يضحى به وتوجه إليه سيوف اللوم. ولنا أن نتساءل هنا عن حقيقة حقوق الأقليات في الدول العلمانية الغربية ونقيس ما يجري فيها بما كانت عليه دولة الخلافة الإسلامية من إحسان في معاملة غير المسلمين لنرى الفرق بينهما ولنعرف أي الدولتين أقدر على رعاية الشؤون والحكم بالعدل والإنصاف.
إن كل ما سبق عرضه هو عن الدولة العلمانية في الغرب، وأما الدول العلمانية التي خلقها الغرب في بلاد المسلمين فأمرها أكثر سوءاً، لأنها تجمع إلى جانب مساوئ الدول العلمانية الغربية السالفة الذكر مساوئ أخرى:
فالدولة العلمانية في العالم الإسلامي لم تكن وليدة تطور تاريخي طبيعي، بل فرضت فرضاً من قبل الدول الاستعمارية، ولم تقتنع الشعوب التي فيها بمبادئ العلمانية بل أجبرت على القبول بها إجباراً، الأمر الذي جعل علاقة هذه الدولة بالرعايا كلهم علاقة صراع وتنافر بدل انسجام وتواؤم. فأثر هذا على الأكثرية وعلى الأقلية وضيَّع حقوقهما.
تبعاً لما سبق فإن الحكام الذين حكموا الدولة العلمانية في البلاد الإسلامية لا يملكون شرعية ولا يستندون إلى أمتهم وشعوبهم، بل هم حكام نصبتهم الدول الاستعمارية لرعاية مصالحها وإبقاء استعمارها ولكن بأشكال أخرى. فأدى ذلك إلى أن يقوم هؤلاء الحكام من أجل تثبيت حكمهم بضرب الناس بعضهم ببعض، فضربوا الأكثرية بالأقلية وضربوا المسلم بغير المسلم، وصاحب المذهب بصاحب مذهب آخر، ولم يتركوا وجهاً من أوجه الصراع التي يمكن أن تتصور إلا استغلوه في الإفساد بين الناس. ولم يلتفتوا إلى رعاية شؤون الناس والقيام على مصالحهم بل ناصبوا الشعوب العداء وأكلوا أموالها وساموها سوء العذاب، فانعكس ذلك على الرعية كلها ولم يسلم منه أكثرية ولا أقلية. ولعل ما رشح من أنباء بأن أجهزة حسني مبارك هي التي كانت وراء تفجير كنيسة القديسين في مصر لإيقاع الفتنة بين المسلمين والنصارى نموذج صغير لما يفعله هؤلاء الحكام.
لقد وضعت حدود هذه الدول على نحو يخلق المشاكل بينها وفيها، فبدل أن يلتفت إلى حدود طبيعية كما هو الحال في الدول الغربية، وضعت الحدود بين الدول في العالم الإسلامي بحيث تقسم القبائل والشعوب بين هذه الدول على نحو يقود إلى صراعات بين هذه الدول، ويقود إلى صراعات في كل دولة منها، وخير مثال على ذلك ما حصل جراء إنشاء دولة في العراق وأخرى في سوريا وثالثة في تركيا بالإضافة إلى إيران ووزع الأكراد في هذه الدول. فخلق ذلك مشكلة أقليات لم تكن قائمة من قبل.
إن ظلم الأكثرية للأقلية وإهدار حقها أمر سيئ، ولكن شر منه أن تظلم الأقلية الأكثرية وتتحكم فيها وتهدر حقها. وهذا هو الطابع السائد في الدولة العلمانية في العالم الإسلامي، لأن الأقلية العلمانية في هذه الدول جميعها حكمت الأكثرية التي تؤمن بالإسلام ولا ترضى عنه بديلاً في الحكم والسلطان. وكانت هذه الأقليات العلمانية أحياناً مركبة، كما هو الأمر في سوريا حيث تحكم أقلية علمانية علوية.
لقد فتحت الدولة العلمانية الباب على مصراعيه للدول الاستعمارية الطامعة في بلاد المسلمين الناهبة لثرواتهم لتصول وتجول في البلاد ولتغذي النزعات الانفصالية والصراعات بين الأكثرية والأقلية حتى لم تسلم دولة من الدول القائمة من فتن طائفية أو حروب انفصالية، ولعل دولة العراق العلمانية الديمقراطية الحديثة خير مثال على ذلك، حيث ساد الهرج بين الناس ولم تسلم منه أكثرية ولا أقلية، حتى إن القاتل لا يدري فيما قَتل ولا المقتول فيما قُتل، مع أن القوة الحقيقية فيها هي «للدولة العلمانية الديمقراطية، ناشرة حقوق الإنسان، المدافعة عن الأقليات، الولايات المتحدة مع حلفائها الغربيين»!
هذه بعض الأمور التي تظهر أن الدولة العلمانية في العالم الإسلامي غير قادرة على القيام على أمر الناس ولا رعاية شؤونهم على نحو يضمن لهم حقوقهم، وليست الأقلية مستثناة من ذلك، وإنه لمن الغريب أن نجد بعض الأصوات في الأقليات الدينية على وجه الخصوص تطالب بالدولة العلمانية وتقدمها على الدولة الإسلامية مخافة أن تهضم حقوقها، فكأني بها لا تعرف التاريخ ولا ترى الحاضر. فهل أنصفتها الدولة العلمانية التي حكمت بعد إزالة دولة الخلافة؟! وهل تحصل هي اليوم على عشر ما كانت تحصل عليه من الحقوق والإنصاف أيام الخلافة العثمانية في آخر عهودها على ما كانت عليه الدولة العثمانية حينها من تدهور وسوء إدارة؟!
2013-10-29