من أين نبدأ
1990/03/07م
المقالات
2,142 زيارة
حمزة عبد الودود
البقاع ـ لبنان
حين نقول بأن «إصلاح الفرد لا يصلح المجتمع» نعني أنه لا يكفي وحده لإصلاح المجتمع، ولا نعني أن إصلاح الفرد لا أهمية له في نظر، أو لا أهمية له في إصلاح المجتمع. ذلك أن إصلاح المجتمع يحتاج تغيير النظام المطبق في المجتمع، وتغيير الأفكار المهيمنة على المجتمع، وتغيير مشاعر الناس الطاغية على المجتمع.
وهذا التغيير لا يتم إلا بعمل كتلة قوية من الناس، وهذه الكتلة تتألف من الأفراد، وهؤلاء الأفراد لا بد من صلاحهم. وهذه الكتلة التي تقوم على الأفراد الصالحين لا ينتصر عملها على إصلاح أفراد وضعهم على جسمها، بل يصبح عملها الأساسي هو تغيير المجتمع، وذلك عن طريق تهيئة الأفكار والمشاعر عند الناس، أي تهيئة الرأي العام لهدم الدولة التي تحكم بأنظمة الكفر وإقامة الدولة التي تحكم بشرع الإسلام.
لا يختلف اثنان من المسلمين، على أن جميع الأوضاع السياسية والاقتصادية ومتغيراتها تجري لغير صالحنا، نحن المسلمين. وقد كثرت الأبحاث والاتجاهات التفسيرية لهذا الواقع.. وهنا يجدر بنا أن نلحظ نوعين من هذه التفسيرات.
إن بعض المفكرين يرمي من خلالها إلى عرض المشاكل مؤمناً أن الحلول لا تكون إلا بتفهم واقع المشكلة، كالطبيب لا يقدّم الدواء قبل تشخيص الداء.
إلا أن البعض الآخر يرمي إلى إحداث نوع من اليأس لدى المسلمين، وذلك عبر عقد موازنة بين رقيّ الأمم الأخرى من جهة، وتخلّف المسلمين عن ركب الحضارة من جهة أخرى، مظهراً واقعنا الأليم على جميع الأصعدة، ثم هو بعد ذلك لا يعرض حلاً شافياً أو لعلة لا يعرض أي حل ألبته، وكأنه يقول للمسلمين: هذا هو واقعكم ولن تتغيّروا!! وفي الحقيقة: أن هذا النوع من التفسير لمشاكل المسلمين، يجب التحذير منه.
لذلك، وجب على من يرغب في نهضة المسلمين، أن لا يكتفي بعرض مشاكلهم، وإلاّ فهو لا يقدم جديداً. وإنما عليه أن يشرع في وضع التصاميم المناسبة لإخراج المسلمين من مأزقهم وإعادتهم إلى واجهة العالم فيكونوا، كما أرادهم الله، خير أمة أخرجت للناس.
وهنا يطرح السؤال نفسَه: من أين نبدأ؟ وإذا عدنا إلى مجمل الإجابات وجدناها تندرج تحت اتجاهين اثنين:
الاتجاه الأول: يُعنى بإصلاح كل مسلم على حدة مهتماً بالبنية التحتية في المجتمع أي بالقاعدة الشعبية، على اعتبار أنه إذا توفر إصلاحها عادت للمسلمين عزّتهم كما كانت ]وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ[.
والاتجاه الثاني: يرى أن السبيل الأقوم هو إيجاد دولة تتولى عبء حمل الدعوة الإسلامية وحماية المسلمين من أمراضهم.. وبين الاتجاهين اختلاف في الطريقة وإن كانت الغاية واحدة، وهي إيجاد عزة المسلمين. وبما أن هذه الغاية مطلب حيوي، وجب أن نبحث في جدية لنعلم الصواب؛ أين هو؟
وقبل أن نجيب على السؤال الأخير لا بد أن نتفق على شيء جذري وهو أن تحديد الصواب أرشدنا إليه الإسلام، فمن تعاليمه الأساسية ما ورد في القرآن ]فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ[.
فلنرَ كيف بدأ الرسول في طريقته لتخليص مجتمع الجزيرة من التفكك الاجتماعي والسياسي حتى نهض أبناؤها يفتحون الدنيا:
صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يُعنى بإيجاد العقيدة الصحيحة عند كل داخل في الدين، باذلاً جهده في إصلاح هذه العناصر، لكنه لم يذكر يوماً أنه يؤمّل بذلك ـ فحسب ـ إيجاد مجتمع إسلامي. وكلنا يعلم أن صلى الله عليه وسلم كان دائماً يخرج في مواسم الحج إلى وفود القبائل في ضواحي مكة وشعابها داعياً إياها إلى الإسلام، فلماذا كان يدعو سائر القبائل فيما قريش لم تؤمن بعد!! ألا نرى أنه لم يقل: على أن أصرف جهودي إلى مجتمع مكة وأفراده لإصلاحهم وبذلك ينهض الإسلام! فما تفسير ذلك؟
التفسير الصحيح، هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم وجد أن القوة العسكرية لا بدّ منها وهذا الأمر لم يغب عن باله يوماً. حتى وهو يتخّذ سبيل الدعوة الفردية التي تعمل على إنقاذ كل فرد من النار. نعم، لقد كان هدفه أكبر، إنه يرمي إلى إنقاذ الإنسانية جمعاء من النار، ولن يتسنى له حمل أفكاره إلى الإنسانية إذا كان صوته مكبوتاً.
ومن هنا، كانت مرحلة طلب النصرة التي تلت مرحلة الإعداد العقائدي، ولكن هل انتظر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى صارت له قاعدة شعبية أو بنية تحتية في الحجم الذي يهدف إليه أصحاب الاتجاه الإصلاحي الأول الذي ذكرناه؟ الواقع التاريخي يشير إلى أنه صلى الله عليه وسلم حين طلب نصرة أهل الطائف ذهب وحيداً وطارده سفهاؤها بالحجارة، إذاً، لقد كانت الدعوة في مهدها ورغم ذلك كان مشروع محمد صلى الله عليه وسلم يضع في أولوياته طلب القوة. ومفهوم القوة هو الدولة.
ثم، ألم يكن صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه (قبل الهجرة طبعاً): «لم نؤمَرْ بالقتال بعد». أليس في هذا القول إشارة إلى أن القتال سيكون له شأن في نصرة الإسلام بعد قيام الدولة!
ويريد البعض منا أن نفهم أن أهل يثرب هم الذين قَدِموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه القدوم إليها للقضاء على الاختلاف القائم بين الأوس والخزرج. وهذا الفهم يؤدي بنا إلى التسليم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلب بنفسه إقامة الدولة بيثرب وإنما طُلب إليه. أي أن الأمر حصل اعتباطاً ودون سابق تصميم! ووقائع السيرة تشهد بخلاف ذلك. يكفي أن نقرأ رواية ابن هشام لتلك اللحظات الحاسمة في تاريخنا الإسلامي، ولا نثبت النصّ ككله، وإنما قول الأنصار: «إنا قد تركنا قومناً ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ ما بينهم فعسى أن يجمعهم الله بك، فستقدم عليهم. وندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين».
وقوله: «أجبناك» يستدعي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد «سألهم» النصرة. إلا إذا كان في كتب اللغة ما يفيد خلاف ذلك!
بقي أن نشير إلى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قرر وضع تقويم إسلامي، جعل السنة الأولى فيه عام الهجرة، وهل ذلك إلا لأن الهجرة هي ولادة الدولة الإسلامية، والمجتمع الإسلامي الأول؟ وهل يمكن لأحد الباحثين أن يتحدث عن مجتمع إسلامي قبل مجتمع المدينة؟ فبالله عليكم ـ كيف يقوم مجتمع إسلامي بغير دولة إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتسنّ له ذلك، وهو المؤيد بنصر الله ـ بعد ثلاثة عشر عاماً من الدعوة في مكة. هذا مع أنه صلى الله عليه وسلم ـ كما يعترف بذلك المستشرقون ـ لم يكن يواجه عقائد دينية خطرة. فكيف بنا اليوم، ونحن نواجه الأفكار العلمانية والمادية، والزحف «الحضاري» الغربي المدعوم بالقوة العسكرية وأجهزة المخابرات الأجنبية. أفنواجه كلّ ذلك عُزّلاً.
ومع ما ذكرنا من دلالات واضحة، يأبى البعض قياس الحاضر على الماضي بحجة أن أيام زمان تختلف وأن للرسول خصوصيات!! أو بحجة أن هذا القياس يدفعنا إلى الخيال والبعد عن الواقع. ومع أننا نأبى أن نقرّ لهذا البعض بأساس دعواه، مع ذلك، سننظر في واقعنا الحاضر ـ وإن منفصلاً عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلوبه العلاجي ـ وسنرى أن العقل، علاوة على الشرع، سيسير بنا إلى المسار نفسه…
ولنأخذ بلداً سكانه مسلمون، تتنازعه الأهواء والمشارب كالأحزاب المادية والاتجاهات العلمانية بالإضافة إلى صراعات الأديان الأخرى، ولتكن النصرانية مثلاً. ومن الطبيعي في مجتمع كهذا أن يكثر البعد عن الإسلام ويقلّ الوازع الديني وتضطرب العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين. وليكن في أذهاننا انطباع صادق أن المجتمع الذي أخذناه نموذجاً، إنما هو صورة شبة عامة لمجتمعاتنا ـ أو على الأقل لتلك التي تهدف إلى إصلاحها جميعاً وتختلف وجوه الإصلاح فيما بيننا.
لا بد هنا أن نلاحظ أن الأحزاب المادية مدعومة من أحد أعظم التكتلات السياسية والعسكرية في العالم، وأن الاتجاهات العلمانية تقوم بتنميتها الدول الغربية والشرقية على حد سواء، بالإضافة إلى الدول القائمة في العالم الإسلامي.. للأسف!!
أما النشاط التنصيري، المسمّى بالتبشيري ـ فإنه مدعوم من دول أوروبا ـ وتحديداً من فرنسا والفاتيكان. ونحن لا نستطيع أن نتخيل أن مدارس الإرساليات في لبنان مثلاُ، قامت على جهود نصارى لبنان وأنها تستطيع الاستمرار بهم وحدهم.
إذاً، الاتجاهات الفكرية التي تصارع الإسلام تستند إلى قوى عسكرية وسياسية، إنها تستند إلى دول إقليمية. ونحن، إلام نستند؟ إلى دول عالمنا الإسلامي وهي بين عميل ومتخاذل!! يكفي أن نراجع موقف السعودية ـ أرض الحجاز ومنبت الإسلام ـ إزاء تهجير المسلمين من البلغار. بل إننا نسأل: هل كان هذا التهجير يحصل لو كانت للمسلمين دولة تصون عزتهم وتثور لكرامتهم؟ لقد أحرق ـ قديماً ـ الخليفة العباسي المعتصم مدينة رومية وقتل تسعين ألفاً استجابة لنداء امرأة مسلمة انتهكت كرامتها من جندي رومي فصرخت: وا معتصماه! وقديماً قديماً، شنّ الرسول صلى الله عليه وسلم حرباً على اليهود في المدينة لأجل امرأة كشفَ عورتها رجل يهودي.. فمن يثأر للمسلمين اليوم، في فلسطين وأفغانستان وغيرهما: الخطابات، أم الاجتماعات والدروس والوعظية!
إن العين لا تقاوم مخرزاً.. ولكن السيف يكسر المخرز!
نخلص إلى النتيجة التالية: على كل تفكير هادف إلى نهضة المسلمين، أن يقوم على إحداث الوعي في الأفراد وبثّ العقيدة الإسلامية وإظهار زيف الحضارة الغربية مع محاولة إصلاح كل مسلم قدر الإمكان، وحلّ مشاكل المجتمع.. ولكن.. على أن يُوضع السبيل الكامل التام لنهضة المسلمين هي في تحقيق وحدتهم السياسية والاقتصادية تحت راية الخلافة، الدولة الواحدة، التي تقوم بحمل الدعوة كاملة، وأن يتّخذ العمل على إيجاد هذه الدولة الجهد الأكبر، طالما أنها هي الضمانة الأساسية لتطبيق الإسلام كاملاً.
هذا هو الاتجاه الإصلاحي الذي نؤمن به، لأنه الاتجاه الذي سار فيه الرسول صلى الله عليه وسلم. ولن نحيد عنه، ولن نقبل بأنصاف الحلول ونحن أناس لا توسُّط بيننا. لنا الصدر دون العالمين.. أو القبر.
1990-03-07