علماء الشريعة المعاصرون بين التعديل والتجريح
2013/07/29م
المقالات
5,453 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
علماء الشريعة المعاصرون
بين التعديل والتجريح
عصام عميرة -بيت المقدس
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد،
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن العلماء المسلمين المعاصرين المتخصصين في علوم الشريعة الإسلامية في أوساط الناس، نظراً لازدياد المساحة الإعلامية التي يحظى بها هؤلاء العلماء في وسائل إعلام الحكام المسموعة والمرئية والمقروءة، وإشهارهم وتكريمهم وتسليط مزيد من الأضواء على فتاواهم وآرائهم الفقهية والفكرية والسياسية، وقد تباينت الآراء حول هذه المسألة تبايناً كبيراً حيث انقسم الناس إلى فريقين:
فريق يؤيد هؤلاء العلماء فيما ذهبوا إليه نظراً لكون أصحابه ينتمون إلى التيار الإصلاحي، أو ما يسميه الغرب الوسطي أو المعتدل، والذي يقوده هؤلاء العلماء، فيقلدونهم بحكم التبعية الفئوية أو التعليمية، ومعهم جمهرة من عوام المسلمين الذين نشأوا على احترام العلماء والثقة بما يقولون، كونهم مقلدين عاميين يأخذون قول غيرهم من غير حجة وهؤلاء هم المعدِّلون لهؤلاء العلماء، بل يرون من الخطر تجريحهم أو انتقادهم.
وفريق يرى في هذا المشهد مؤامرة تحاك ضد الإسلام والمسلمين، نظراً لأن المواضيع التي يتم التركيز عليها وأخذ الفتوى فيها تساهم كما يقولون في إبقاء حال المسلمين السيئ على ما هو عليه، وتعمل على امتصاص ضربات الصحوة الإسلامية الموجهة لهؤلاء الحكام الذين لا يحكمون بما أنزل الله. وهذا الفريق يتهم الحكام وبعض العلماء معهم باتباع أساليب ملتوية في ضبط الرأي العام الإسلامي وتوجيهه نحو السكوت والرضى بالحكام الحاليين، وعدم الخروج عليهم، خصوصاً في هذه الظروف الدقيقة التي تمر بها الأمة الإسلامية وهي تعيش حالة المخاض قبل ولادة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة قريباً إن شاء الله، وهؤلاء هم المجرِّحون لهذه الشريحة من العلماء، ويرون أن من الضروري كشفهم وفضح تواطئهم مع أنظمة الحكم القائمة في العالم الإسلامي.
وبين التعديل والتجريح نشأت مناقشات ومساجلات، منها ما يستحق النظر فيه، وهو ما كان مبنياً على قواعد أصولية صحيحة محكمة، وأحكام شرعية متفرعة عن تلكم القواعد، ومنها ما لا يستحق النظر فيه، وهو ما كان مبنياً على قواعد أصولية متهافتة غير محكمة، وما تفرع عنها من أحكام تزيد المسلمين وبالاً فوق وبالهم، أو كان نابعاً من تعصبات شخصية، أو انتماءات فئوية أو مدرسية، أو مجرد اتِّباع للهوى. فكان لا بد أن نتناول هذا الموضوع بالدراسة والتحليل، وبيان الصواب في هذه القضية الخطيرة ليس في زماننا وحسب بل في كل زمان، فالعلماء هم أمنة الناس كما النجوم أمنة للسماء. وببيان هذا الأمر، نكون قد أزحنا عقبة كأداء من طريق العمل لإعادة الخلافة الإسلامية الثانية الراشدة على منهاج النبوة. قال عليه الصلاة والسلام: “النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهبت أصحابي أتى أمتي ما يوعدون“. صحيح عن أبي موسى
وقبل مناقشة هذه المسألة ومحاولة بيان الصواب فيها أود أن أضع بين يدي القارئ بعض الحقائق ذات الصلة بهذا المبحث:
1- إن جميع حكومات الدول القائمة في العالم الإسلامي من غير استثناء (قبل الربيع العربي وبعده) لا تحكم بما أنزل الله، ولا تحرص على تطبيقه، ولا تفكر في إقامته، لا دفعة واحدة ولا بالتدريج، فمنذ إنشائها والقرآن فيها معطَّل، والسنة النبوية المطهرة مغيَّبة.
2- إن الأمة الإسلامية تخضع لمفهوم فصل الدين عن الحياة منذ أن هدمت دولة الخلافة الإسلامية قبل حوالى تسعة عقود إلى يومنا هذا. وقد أفرز هذا المفهوم وجود علماء مسلمين بزي معين وثقافة معينة، قُدِّموا للناس باعتبارهم مرجعيات فقهية يوثق بها، وأوعزوا للناس بشكل مباشر وغير مباشر عبر وسائل إعلامهم بأن أخد الفتاوى والآراء الشرعية من غير طريقهم لا يصح، مراهنين في ذلك على الحب المتأصل للعلماء البارزين في نفوس المسلمين.
3- لقد واجه بعض علماء المسلمين المخلصين أمثال شيخ الإسلام مصطفى صبري رحمه الله، وعلماء جامعة ديوبوند في الهند وعلماء الأزهر في مصر وغيرهم هذا التوجه الخبيث المنطلق من عقيدة غير إسلامية منذ البداية، وحاولوا منعه بكل ما أوتوا من قوة، وذلك قبل انهيار الدولة العثمانية وأثناء انهيارها وبعد الإطاحة بها. [المزيد من المعلومات حول هذا الموضوع يرجى الرجوع الى كتاب الأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة العثمانية لمصطفى حلمي الذي أسسه على كتاب النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة لمصطفى صبري، دار الدعوة للطباعة والنشر بالإسكندرية]، ولكن تيار العلمانيين ودعاة التغريب كان أقوى منهم، فجرفهم وسيطر على أجواء المسلمين الفكرية والثقافية، تماماً كما سيطر حكام دول الضرار على الأجواء السياسية التي وجدت في بلاد المسلمين بعد الحرب العالمية الأولى إثر زوال الدولة الإسلامية العثمانية عن الخارطة السياسية.
4- إن دور علماء الشريعة في المجتمع المسلم يأتي في المقام الأول بلا منازع، حيث إنهم الموقّعون عن الله في إخبار الناس بالأحكام الشرعية المنقولة عن أساطين الفقه الأوائل، وإفتاء الناس والحكام بما يستجد لديهم من وقائع كي يُعبد الله على علم وبصيرة، وهو أمر مستقر في وجدان الأمة الإسلامية، وراسخ رسوخ الجبال الراسيات.
5- ينبغي العلم بأن مستوى فهم العلوم الشرعية قد انخفض بشكل حاد نظراً لقلة التركيز عليه في المناهج الدراسية ووسائل الإعلام، مما جعل الناس عموماً، ومعظم خريجي المدارس الثانوية والمعاهد والجامعات وكليات الشريعة على وجه الخصوص، بعيدين عن الأسس التي تقوم عليها تلك العلوم، كأصول الفقه القطعية، وأصول التفسير، والقواعد الفقهية المقررة عند عامة فقهاء المسلمين في عصورهم الزاهرة، ما أدى إلى ندرة وجود المجتهدين الحقيقيين، وشيوع أصول فقه غير قطعية كالمصالح المرسلة وسد الذرائع وشرع من قبلنا وغير ذلك. وقد أهملت الكليات والمعاهد الشرعية عموماً تعليم الأحكام الشرعية المتعلقة بالحكم والسياسة الشرعية، والخلافة والبيعة، وقواعد النظام الاقتصادي الإسلامي، وما يصاحب ذلك من قطعيات لا تقبل التأويل كفرضية تنصيب خليفة واحد على المسلمين في دولة إسلامية واحدة، وحرمة سيطرة الكفار على المؤمنين وبلادهم ومقدساتهم، ووجوب تحريرها. وكذلك وجوب إقامة الحدود، وحمل الدعوة الإسلامية عن طريق الجهاد في سبيل الله، وحرمة الربا… أهمل ذلك كله بشكل متعمد من قبل واضعي مناهجها وفق السياسة المقررة من الحكام وأسيادهم الغربيين، فنشأ في المسلمين جيل من العلماء الشرعيين يفتقد الرؤية الواضحة في هذه المجالات، بل ليس مستعداً لتلقيها من جهات غير رسمية! فالقوالب العوجاء لا يكون إنتاجها إلا أعوج، مما أوجد ثغرات نفذ منها الكفار إلينا، فأقاموا أكثر من ست وخمسين دويلة في بلاد المسلمين، وفتحوا الباب لإقامة المزيد من الكيانات التي يرأسها موظفون غير سياسيين، عطلوا تنفيذ حدود الله، وأوقفوا حمل الدعوة الإسلامية عن طريق الجهاد في سبيل الله، وأشاعوا الربا وفواحش أخرى كثيرة جداً في ديار المسلمين، وتعرض المسلمون في عهودهم النحسات لشتى أنواع العذاب وضنك العيش من قتل وفقر وإهدار للكرامة الإنسانية مالم يتعرضوا له من قبل عبر تاريخهم الطويل.
6- لما وجد في المسلمين طائفة تتحلَّى بالوعي الفكري والسياسي، وتعمل على إعادة الخلافة وإنهاض المسلمين منتصف القرن الميلادي الفائت، لم يتمَّ التّصدي لها في بادئ الأمر، كون فكرتها لم تكن قد تجذرت بعد في أوساط المسلمين. ولكن لما اتسعت مساحة هذا العمل الإسلامي الهادف للتغيير الجذري الانقلابي، وكثر المطالبون بإقامة الخلافة والحكم بما أنزل الله في ديار المسلمين، قرع الحكام طبول الحرب عليها، واستنفروا طاقاتهم وإمكانياتهم كافة، وأشهروا سيوف علمائهم ومشايخ قصورهم الذين أعدوهم لمثل هذا اليوم العصيب عليهم.
في ضوء ما تقدم، فإنه يمكن القول بأن ظاهرة تكريم بعض العلماء، وإصرار الحكام على إظهار آرائهم وأفكارهم وفتاواهم على باقي الآراء والأفكار والفتاوى، إنما هي ظاهرة سلبية لا يراد بها وجه الله، ولا تخدم قضايا المسلمين بأي شكل من الأشكال، وجاءت على حساب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك للأسباب التالية:
1- لو كان الحكام حريصين على احترام الدين الإسلامي وإشاعة أحكام الشريعة الإسلامية لطبقوها كامة غير منقوصة، لا سيما وهم يتبوؤون مراكز اتخاذ القرار، ويستطيعون تنفيذ ذلك دون معارضة تذكر. وحتى لو وجدت معارضة فعليهم التعامل معها، واتخاذ الإجراءات اللازمة بحقها طلباً لمرضاة الله، مهما كان الثمن ومهما كانت النتيجة.
2- لو كان العلماء المعنيون حريصين على تنفيذ تعليمات الدين الإسلامي وإشاعة الأحكام الشرعية الإسلامية لما التزموا بالإسلام المسموح به من الحكام، ولما أغفلوا جوانب الإسلام الممنوع تناولها بأمر الحكام وأسيادهم، ولسمعنا منهم قولاً صريحاً يدين الحكام الذين لا يحكمون بما أنزل الله، ولوجدناهم يحركون جماهير المسلمين فوراً للإطاحة بأنظمة الكفر وإقامة دولة الخلافة الثانية الراشدة على منهاج النبوة وفيها حكم الله الذي نزل من فوق سبع سماوات، بمجرد إتاحة الفرصة الأولى لمخاطبة المسلمين جماعياً عبر شاشات الفضائيات وغيرها من وسائل الإعلام، خصوصاً وأن المسلمين يتوقون أكثر من أي وقت مضى لتحكيم شرع الله بينهم، وحمله رسالة هدى ونور إلى العالم أجمع عن طريق الجهاد في سبيل الله، وعندها فقط ستسترد الأمة مفقوداتها النفيسة، وسيعود الجهاد الحقيقي الذي يحقق لها الكرامة والعزة، ويحقق الأهداف العليا لبناء وصيانة المجتمع الإسلامي.
3- في الوقت الذي يكرَّم فيه هؤلاء العلماء وتسلَّط الأضواء عليهم وتزداد نشاطاتهم في الإطار الذي رُسم لهم، فإننا نرى ونسمع عن كثير من العلماء المخلصين الذين رفضوا أن يبيعوا دينهم بعرض من الدنيا زائل، أنهم قد أودعوا السجون، أو علّقوا على أعواد المشانق، أو نزلوا تحت الأرض مستخفين عن أنظار هؤلاء الجبابرة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً! فلماذا يتعامل الحكام هذا التعامل المزدوج مع علماء الشريعة، ويكيلون لهم بمكيالين مختلفين متناقضين؟ وليس الأمر مقتصراً على ذوات العلماء وأكابر الفقهاء من الفريقين، بل إن الأمر قد انسحب على مؤيديهم وثقافتهم وأهليهم، فمؤيدو الفريق الأول مقربون، ومؤيدو الفريق الثاني مقصَون محسَّرون! وثقافة الفريق الأول وأخباره مباحة تغرق بها الأسواق ووسائل الإعلام، فيما ثقافة الفريق الثاني وأخباره ممنوعة، ومساحتها الإعلامية لا تكاد تذكر، وإن وجدت بعض الاختراقات للجدُر الإعلامية الكثيفة، فسرعان ما ترقع، والأبواب دون أهلها توصد! حتى المساجد، بيوت الله، لم تسلم من هجمتهم الظالمة وهيمنتهم القاهرة، وعلى رأسها المساجد الثلاثة التي تشد الرحال إليها!
وأحب أن أضيف إلى ما تقدم أن الذين انبروا للدفاع عن علماء القصور والسلاطين قد أتوا بأدلة مطلقة وعامة تحرّم النيل من العلماء أو التعرض لهم بالنقد والتجريح، ولكنها لا تصلح وحدها للاستدلال على المسألة، كونهم أغفلوا الأدلة التي تقيد ما ذهبوا من إطلاق احترام العلماء، وتخصص عموم ما أوردوا من تحريم الاعتراض عليهم وتسفيه آرائهم، فالمطلق يُحمل على المقيد، ويُحمل العام على الخاص، كما تقرر في علم أصول الفقه. إضافة إلى كونهم قد خرجوا أحياناً عن أدب الخطاب الإسلامي في الرد على المجرِّحين، فوقعوا غفر الله لنا ولهم في شر ما نهوا عنه. وتلكم الأدلة هي:
1- تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم من الأئمة المضلين، ومن كل منافق عليهم باللسان، ومن رؤوس الفتوى الجهال: قال صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخاف عليه أمتي الأئمة الضالة»، أورده القرطبي في تفسير قوله تعالى: ]الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا…[ سورة إبراهيم آية 2، وقال: هو حديث صحيح، وما أكثر ما هم في هذه الأزمان والله المستعان. وقيل، يستحبون أي يلتمسون الدنيا من غير وجهها، لأن نعمة الله لا تلتمس إلا بطاعته دون معصيته، ويبغونها عوجاً أي يطلبون لها زيغاً وميلاً لموافقة أهوائهم وقضاء حاجاتهم وأغراضهم. انتهى كلام القرطبي. وعن أبي عثمان النهدي قال: كنت مع عمر بن الخطاب رحمه الله فسمعته يقول في خطبته: «أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان»، فقال عنه الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد الحنبلي المقدسي المتوفي (643 هجرية) في الأحاديث المختارة ج1 ص344: إسناد حسن. وأخرج البخاري عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتَوا بغير علم، فضلُّوا وأَضَلُّوا».
2- التشنيع على العالم الذي يتعلم العلم ليقال عالم: روى مسلم عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد، فأتي به فعرَّفهُ نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذب، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار». وأخرحه الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين بلفظ: «أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة». وهذا حديث صحيح الأسناد ولم يخرجاه، وأخرجه الترمذي، قال أبو عيسى حديث حسن غريب. فإذا لم يدرك العالم خطورة هذا المشهد، ويبتغي بعلمه وجه الله، فإنه يكون قد أساء لنفسه قبل أن يسيء للعلم أو للناس الذين وثقوا بعلمه.
3- التبكيت على كتم العلم: قال تعالى: ] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [. وجاء في المسند المستخرج على صحيح مسلم لأبي نعيم الأصبهاني بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كتم علماً ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار»، وأعلم صلى الله عليه وسلم أن هذا العلم الذي أوعد كاتمه هو ما يتقنه ويحفظه. ألا يعلم علماؤنا أنه يحرم على المسلمين أن يكون لهم أكثر من دولة واحدة؟ فلماذا يسكتون عن وجود نيف وخمسين دولة، ولا يرون غضاضة في زيادتها على هذا الرقم المخيف؟ عن عرجفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد وجاء رجل يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه». وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما». الحديثان رواهما مسلم في صحيحه بسند في ج 3 ص1480.3-
4- العالم إذا أتى سلطانَ المسلمين الجائر: جاء في مجمع الزوائد للهيثمي عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا كعب بن عجرة، إذا كان عليك أمراء، من دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولا أنا منه ولا يرد علي الحوض، ومن دخل عليهم فلم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه. يا كعب بن عجرة، إنه لا يدخل الجنة لحم ولا دم نبتا من سحت فالنار أولى به. يا كعب بن عجرة، الناس غاديان ورائحان، فغاد في فكاك رقبته فمعتقها، وغادٍ فموبقها. يا كعب الصلاة برهان والصدقة تذهب الخطيئة كما يذهب الجليد على الصفا». رواه الترمذي باختصار، ورواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات. وأخرج ابن ماجة، وقال المنذري رواته ثقات، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن ناساً من أمتي سيتفقهون في الدين، يقرؤون القرآن يقولون: نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بديننا، ولا يكون ذلك، كما لا يُجتنى من القتاد إلا الشوك، كذلك لا يجتنى من قربهم إلا الخطايا». ويستأنس في هذا المقال بما أخرج البيهقي قال: «يأتي على الناس زمان يكون فيه علماء ينقبضون من الفقهاء وينبسطون من الكبراء، أولئك الجبارون أعداءُ الرحمن». وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: يقال ما شيء شرٌ من البطالة في العالِم. وقال سفيان: قال بعض الأمراء لأبي حازم: إرفع إلي حاجتك، قال هيهات هيهات! رفعتها إلى من لا تحول الحوائج دونه، فما أعطاني منها قنعت، وما زوى عني منها رضيت… وأضاف أبو حازم يقول: كان العلماء فيما مضى يطلبهم السلطان وهم يفرون منه، وإن العلماء اليوم طلبوا العلم حتى إذا جمعوه بحذافيره أتوا به أبواب السلطان، والسلاطين يفرون منهم وهم يطلبونهم. وجاء في كتاب فيض القدير للمناوي ج 2 ص 407 ما يلي: إن أبغض الخلق إلى الله العالم الذي يزور العمال، عمال السلطان الذين يعملون ما لا يحل، لأن زيارتهم توجب مداهنتهم والتشبه بهم والانحلال إلى بيع الدين بالدنيا. ولما خالط الزهريُّ السلاطين كتب إليه أبو حازم: «عافاك الله، قد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يرحمك ويدعو لك، وأيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم، وسهلت سبيل الغي بدنوّك منه، اتخذوك قطباً يدور عليك رحا باطلهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلائهم، وسلّماً يصعدون فيك إلى ضلالهم، يدخلون بك الشك على العلماء، ويقودون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما عمروا عليك في جنب ما خربوا عليك، فداوِ دينك، فقد دخله السقم، ولا يخفى على الله من شي، والسلام». وجاء في فيض القدير أيضاً ج 4 ص 382: العلماء بالعلوم الشرعية أمناء الله على خلقه، لحفظهم الشريعة من تحريف المبطلين وتأويل الجاهلين، ففيه أنه يجب الرجوع والتعويل في أمر الدين عليهم. والأمناء جمع أمين وهو الثقة الحافظ لما اؤتمن عليه، وقد أوجب الحق سبحانه سؤالهم والرجوع إليهم حيث قال: ] فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [ سورة النحل آية 43، قاله الغزالي. وإذا كانوا أمناء الله على خلقه فيجب أن يتكفل كل عالم بإقليم أو بلد أو محلة أو مسجد بتعليم أهلها دينهم، وتمييز ما يضرهم عما ينفعهم، وما يشقيهم عما يسعدهم، ولا ينبغي أن يصبر إلى أن يُسأل بل يتصدى لدعوة الناس إلى نفسه، فإنهم ورثة الأنبياء، وهم لم يتركوا الناس على جهلهم بل كانوا ينادونهم في الجامع، ويدورون على دورهم في الابتداء، ويطلبون واحداً بعد واحد فيرشدونهم، فإن مرضى القلوب لا يعرفون مرضهم، كما أن من ظهر على وجهه برص ولا مرآة له لا يعرف برصه إلا من غيره. وهذا فرض عين على العلماء وعلى السلاطين أن يرتبوا في كل محلة من يعلم الناس دينهم؛ فإن الدنيا دار مرض، إذ ليس في بطن الأرض إلا ميت ولا على ظهرها إلا سقيم، ومرض القلوب أكثر من الأبدان، والعلماء أطباء والسلاطين قوّام، فكل مريض لا يقبل العلاج بمداواة العالم سلم للسلطان ليكف شره عن الناس كما يسلم الطبيب المريض لمن يحميه. وجاء في سير أعلام النبلاء لأبي عبد الله الذهبي ج 6 ص 262، وفي تهذيب الكمال لأبي الحجاج المزي ج 5 ص 88، عن جعفر بن محمد يقول: الفقهاء أمناء الرسل، فإذا رأيتم الفقهاء قد ركنوا إلى السلاطين فاتهموهم. فماذا عسانا نقول للعلماء الذين لا يفارقون أبواب حكام الجبر والجور؟ بل إن منهم من عمل وزيراً أو إمام حضرة أو مفتياً عندهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
5- إن الطاعة لا تكون إلا للإمام المبايع، والذي يحكم بما أنزل الله: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثره علينا، وان لا ننازع الامر أهله، قال: «إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان». أخرجه البخاري ومسلم. وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اسمعوا وأطيعوا وإن أُمِّر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة»، رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً حبشياً مجدوع الأطراف»، رواه مسلم. وعن أم الحصين رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول: «ولو استعمل عليكم عبدٌ يقودكم بكتاب الله، اسمعوا وأطيعوا» رواه مسلم، وفي لفظ له: «عبداً حبشياً مجدوعاً». وأخرج ابن جرير بسنده ج 5 ص 150 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيليكم ولاة بعدي، فيليكم البر ببره والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، وصلوا وراءهم فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم». وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون، قالوا يا رسول الله: فما تأمرنا؟ قال: أوفوا بيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم». أخرجه البخاري ومسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»، رواه مسلم. وروى مسلم أيضاً عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال: «دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة والناس مجتمعون عليه، فأتيتهم فجلست إليه فقال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل (يباري في الرمي)، ومنا من هو في جَشره (الجشر: المرعى) إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه لم يكن نبي من قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن هذه الأمة جُعلت عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتن يرقق بعضها بعضاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله وباليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبة فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر»، قال فدنوت منه فقلت: أنشدك بالله آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأهوى إلى اليسرى وقلبه بيده وقال: سمعته أذنادي ووعاه قلبي فقلت له: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا، والله تعالى يقول: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [، قال: فسكت ساعة ثم قال: أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله». وجاء في مجمع الزوائد للهيثمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيكون بعدي خلفاء يعملون بما لا يعلمون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن أنكر عليهم برىء، ومن أمسك يده سلم، ولكن من رضي وتابع»، رواه أبو يعلى ورجاله رجال أبي بكر محمد بن عبد الملك بن زنجويه وهو ثقة. وجاء في مجمع الزوائد للهيثمي ج5 ص 228 عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيكون أمراء من بعدي يأمرونكم بما لا تعرفون ويعملون ما تنكرون فليس أولئك عليكم بأئمة». رواه الطبراني وفيه الأعشى بن عبد الرحمن ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات، وقال الألباني حديث حسن. فواجب العلماء بيان حقيقة الطاعة وأهمية المحاسبة وعدم الرضى بالحاكم المسيء، وضرورة النهي عن متابعته حتى يكون الناس على بينة من أمرهم، فلا يدخلوا مدخل الحكام، فقد جاء في تاريخ الطبري ج 3 ص 307 أن الحسين بن علي بن أبي طالب خطب الناس بالكوفة فقال: أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله».
6- تحريم أخذ العطاء إذا كان رشوة على الدين: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خذوا العطاء ما دام عطاءً، فإذا صار رشوة على الدين فلا تأخذوه، ولستم بتاركيه يمنعكم الفقر والحاجة، ألا إن رحا الإسلام دائرة، فدوروا مع الكتاب حيث دار، إلا أن الكتاب والسلطان سيفترقان، فلا تفارقوا الكتاب، ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم، فإذا عصيتموهم قتلوكم، وإن أطعتموهم أضلوكم، قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع؟ قال: كما صنع أصحاب عيسى بن مريم، نشِّروا بالمناشير وحُمِّلوا على الخشب، موتٌ في طاعة الله خير من حياة في معصية الله». رواه الطبراني وقال: يزيد بن مرثد لم يسمع من معاذ، والوضين بن عطاء وثقه ابن حبان وغيره، وبقية رجاله ثقات. فماذا عسانا نطلق على أُعطيات الحكام لبعض العلماء إلا أنها رشوة على الدين، كي يبقى حال المسلمين على ما هو عليه فلا يؤمر بمعروف ولا ينكر منكر؟
7- تحريم تعطيل الجهاد أو القول بوقف قتال الكفار في سبيل الله دون سبب شرعي: قال تعالى: ] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من أصل الإيمان، الكف عمن قال لا إله إلا الله لا يكفره بذنب ولا يخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله عز وجل إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار». وحديث مكحول عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الجهاد واجب عليكم مع كل أمير براً كان أو فاجراً». ونحن اليوم نرى كافة العلماء المشهورين ساكتين عن تعطيل الجهاد مع وجود مقوماته وموجباته، بل إنهم، هداني الله وإياهم، يتهربون من مجرد ذكر قتال الكفار، أو حسم قضايا المسلمين معهم بالقوة المسلحة مما يبقي جيوش المسلمين المجحفلة مرتزِقة تنتظر الأوامر لقمع الشعوب وقتال إخوانهم، والظهور الزائف في الاستعراضات العسكرية والمراسم!
8- ذم العالم الذي يجيب عن كل ما يُسأل عنه، ومدح الذي يقول لا أعلم إذا كان لا يعلم أو يرى أن غيره أعلم منه: جاء في كتاب أدب المفتي والمستفتي للإمام الشهرزوري ج 1 الصفحات من 72-75 مع تصرف بسيط للتبسيط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن العلماء ورثة الأنبياء»، رواه أحمد وأبو داود وابن حبان وابن ماجه وغيرهم، فأثبت للعلماء خصيصة فاقوا بها سائر الأمة، وما هم بصدده من أمر الفتوى يوضح تحققهم بذلك، ولذلك قيل في الفتيا إنها توقيع عن الله تبارك وتعالى. وفيما نرويه عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال: «من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء عليهم السلام فلينظر إلى مجالس العلماء. وقد هاب الفتيا من هابها من أكابر العلماء العاملين وأفاضل السالفين والخالفين، وكان أحدهم لا تمنعه شهرته بالأمانة، ومعرفته بالمعضلات في اعتقاد من يسأله من العامة، من أن يدافع بالجواب، أو يقول لا أدري، أو يؤخر الجواب إلى حين يدري». فروينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال: «أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول»، وفي رواية: «ما منهم من أحد يحدث بحديث إلا ودَّ أن أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ود َّأن أخاه كفاه الفتيا. وروينا عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون». فهل نجد في بعض مشاهير العلماء من يتحلى بأدب الإفتاء هذا؟
9- التعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن ديدان القراء وقلانس البرود عند ظهورهم: جاء في كتاب نوادر الأصول في أحاديث الرسول للحكيم الترمذي ج 2 الصفحات 327 329 عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون في آخر الزمان ديدان القراء، فمن أدرك ذلك فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومنهم، وهم الأنتنون، ثم تظهر قلانس البرود فلا يستحي يومئذ من الرياء، والمتمسك يومئذ بدينه كالقابض على جمرة، والمتمسك بدينه أجره كأجر خمسين، قالوا: أمنا أو منهم؟ قال: بل منكم»، وعلق عليه الحكيم الترمذي بكلام مطول. والحديث أخرجه أبو نعيم في الحلية عن أنس رضي الله عنه بإسناد قال عنه الحاكم: لا أعلم له علة. ولا أظن إلا أن زماننا مقصود في هذا الحديث والله أعلم، كون التركيز من قبل الحكام اليوم على برامج تحفيظ القرآن للنشء الصغار من المسلمين فقط، وحرمان باقي شرائحهم من هذا الخير. ومن جهة أخرى فإن كثيراً من علماء الشريعة يلبسون لباساً معيناً يميزهم عن غيرهم من المسلمين، وهذا واضح جلي في الديار المصرية والحجازية ووسط آسيا وجنوب شرقها بل وفي معظم الأماكن التي يوجد فيها علماء مسلمون.
10- العالم وسيط مؤتمن بين الناس والولاة: إن العالم من موقعه يكون نائباً طبيعياً عن الناس في وصف أحوالهم ورفع حوائجهم إلى أمرائهم، فردياً وجماعياً، فهم الأقدر على التعبير عما يعانيه الناس، والأفصح لساناً بحكم معرفتهم باللغة وأساليب الخطاب المناسبة، وعلمهم بالأحكام الشرعية التي تنظم سياسة الرعية، فهم يحسنون التخدل، ويحدثون الأثر المرجو. جاء في كتاب الجرح والتعديل للأنان الحافظ أبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الحنظلي التميمي (المتوفى عام 327 هجرية) رحمه الله تعالى ما يلي: كتب الأوزاعي رسالة إلى المهدي بن أمير المؤمنين في شفاعة لأهل مكة في تقويتهم قال فيها: «أما بعد فإن الله عز وجل جعل رسوله صلى الله عليه وسلم لمن بعده من ولاة المؤمنين إماماً وقدوة وأسوة حسنة في رحمته بأمته والرأفة عليهم، وخفض جناحه لهم في عفوه عنهم، قال الله عز وجل في صفة رسوله: ] بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [، فأسأل الله أن يعزم لأمير المؤمنين والأمير على الصبر بالتشبه بنبيه صلى الله عليه وسلم، والاعتصام بسنته، ومنافسة الأخيار أعمال البر، ويجعل ثوابهما في يوم البعث الأمن والإفضاء إلى رضوان الله عز وجل، وقد أصبح الأمير حفظه الله من خليفة المسلمين بحال الأمين المصدق، إن شكا لمن مسه الضر من أمته لم يتهم نصحه، ولم يجبه قوله، وإن دافع عنهم رهقاً أو طلب لهم عفواً، أخذ بقلب الخليفة توفيقه، وأحدث له بما ألقى إليه من الفضل سروراً إن شاء الله، فجعل الله الأمير لأمته أمنة ومألفاً، ورضّاهم به، وأخذ بأفئدتهم إليه، ثم أنه أتاني من رجل من مقانع أهل مكة كتابٌ يذكر الذي هم فيه من غلاء أسعارهم، وقلة ما بأيديهم، منذ حبس عنهم بحرهم، وأجدب بَرُّهم، وهلكت مواشيهم هزلاً، فالحنطة فيهم مُدّان بدرهم، والذرة مدان ونصف بدرهم، والزيت مد بدرهم، ثم هو يزداد كل يوم غلاءً، وإنه إن لم يأتهم الله بفرج عاجلاً، لم يصل كتابي حتى يهلك عامتهم أو بعضهم جوعاً، وهم رعية أمير المؤمنين أصلحه الله، والمسؤول عنهم. قد حدثني من سمع الزهرى يقول إن عمر بن الخطاب في عام الرمادة، وكانت سنة شديدة ملحة، من بعد ما اجتهد في إمداد الأعراب بالإبل والقمح والزيت من الأرياف كلها حتى بلحت (جاء في لسان العرب: بلحت البئر إذا ذهب ماؤها) مما أجهدها، قام يدعو الله عز وجل فقال: اللهم اجعل أرزاقهم على رؤوس الظراب (الروابي الصغار)، فاستجاب الله عز وجل له وللمسلمين فأغاث عباده، فقال عمر: والله لو أن الله عز وجل لم يفرجها ما تركت أهل بيت لهم سعة إلا أدخلت عليهم أعدادهم من الفقراء، فإنه لم يكن اثنان يهلكان من الطعام على ما يقيم الواحد. فبلغنا أنه حمل إلى عمر من مصر وحدها ألف ألف إرْدَب. وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هل عسى أحدكم أن تبيت فصاله رواء وجاره طاو إلى جنبه»، فإن رأى الأمير أصلحه الله أن يلح على أمير المؤمنين في إغاثة أهل مكة ومن حولهم من المسلمين في بره وبحره، بحمل الطعام والزيت إليهم قبل أن يبتلى بهلاك أحد منهم جوعاً، فعل. وقد حدثني داود بن علي أن عمر بن الخطاب قال: «لو هلكت شاة على شاطئ الفرات ضياعاً ظننت أن الله عز وجل سيسألني عنها». وإنما الأمر واحد، وكلٌّ من العدل في الحكم عليه يوم القيامة مشفق، إلا أن يعفو الله عز وجل ويرحم، وهي أمتكم وأحق من خلفتم فيها بالعفو والرأفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألحقكم الله به مصلحين، وأوردكم عليه بإحسان، والسلام. كتب في خمس من شهر ربيع الآخر سنة ثنتين وخمسين ومائة. فمن من العلماء المشهورين اليوم يتصدى لرفع مظالم الناس وهي كثيرة جداً، إلا الحكام، مع أن بعض العلماء يعتبر من أهل الحظوة عند هؤلاء الحكام؟
وعليه فإن العلماء الذين تعرضوا لحملات النقذ والتجريح قد خرجوا في رأيي عن طائفة العلماء الذين يحرم النيل منهم، فاستحقوا ما لاقوا جزاءً على سوء صنيعهم، ولعذاب الآخر أكبر، إلا أن يتوبوا ويصلحوا ما أفسدوا فإن الله غفور رحيم. ولا شك أن الله يفرح بتوبتهم وأوبتهم، ويسعد الناس بتخندقهم معهم، وترك ملوك الجبر في العراء يلاقون مصيرهم. وأكتفي بما تقدم للدلالة على الجانب الذي أغفله المدافعون عن بعض علماء الشريعة المعاصرين الذين أصابهم ما أصابهم جراء قربهم من سلاطين الجور وأصحاب إمرة السفهاء.
مواقف مشرَّفة
بقي هناك جانب آخر ينبغي الإشارة إليه في هذا السياق، مع الاختصار الشديد، وهو موضوع المواقف المشرَّفة والكثيرة التي وقفها علماء الأمة الأفاضل من المتقدمين والمتأخرين مما يستحق كل الاحترام والتقدير، وفيه أسوة لمن جاء بعدهم.
فمن المتقدمين أكتفي بذكر موقف واحد لعالم جليل عرف خطورة موقعه في المسلمين فقام بما يمليه عليه دينه طلباً لمرضاة ربه. فرحمك الله يا حطيط الزيات! جاء في كتاب بغية الطلب في تاريخ حلب ج 5 ص 2048 عن جعفر بن أبي المغيرة قال: كان حطيط صواماً قواماً، يختم في كل يوم وليلة ختمة، ويخرج من البصرة ماشياً حافياً إلى مكة في كل سنة، فوجّه الحجاجُ في طلبه فأُخِذ فأُتي به الحجاج فقال له: أيها؟ (بنبرة الظالم) فقال: قل، فإني قد عاهدت الله لئن سُئلت لأصدقن، ولئن ابتليت لأصبرن، ولئن عوفيت لأشكرن ولأحمدن الله على ذلك، قال: ما تقول فيّ؟ قال: أنت عدو الله، تقتل على الظِّنّة، قال: فما قولك في أمير المؤمنين؟ قال: أنت شررة من شرره، وهو أعظم جرماً، قال: خذوه ففظعوا عليه العذاب، ففعلوا، فلم يقل حساً ولا بساً، فأتوه فأخبروه، فأمر بالقصب فشقق، ثم شد عليه، وصب عليه الخل والملح، وجعل يستل قصبة قصبة فلم يقل حساً ولا بساً، فأتوه فأخبروه فقال: أخرجوه إلى السوق فاضربوا عنقه، قال جعفر: فأنا رأيته حين أخرج فأتاه صاحب له فقال: لك حاجة؟ قال شربة من ماء، فأتاه بماء فشرب، ثم ضربت عنقه، وكان ابن ثماني عشرة سنة، رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته مع سيد الشهداء حمزة، فهو بحق رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله.
ومن المحدثين الذين تخرجوا من الأزهر نفسه وانضم بعضهم إلى جمعية علمائه، والبعض الآخر الذي تخرج من الجامعات الأخرى الإسلامية وغير الإسلامية في الديار المصرية والحجازية وغيرها، لما حملوا لواء الدعوة إلى الإسلام، وأظهروا قوة وصلابة في مواقفهم الشرعية تجاه أحكام الطاغوت والجاهلية، أُقصي بعضهم من المناصب الدينية الرفيعة، واختفى البعض الآخر تحت الأرض لشدة الطلب، وشكلت لبعضهم مجالس ضبط إدارية حرموا بعدها من ألقابهم العلمية ومناصبهم الوطيفية، أمثال سيد قطب، وعبد العزيز البدري، وتقي الدين النبهاني، وعبد القديم زلوم، وإبراهيم الخولي وغيرهم، فجزاهم الله جميعاً عنا وعن المسلمين خير الجزاء، فهم والله أحق بالصدارة، وأجدر بالاتباع، وأوثق أن نأمنهم على ديننا. ومن أراد المزيد حول هذا الموضوع فليرجع إلى كتاب: الإسلام بين العلماء والحكام للشيخ عبد العزيز البدري، وليتابع أخبار حملة الدعوة الإسلامية في سجون ومحاكم دويلات الضرار! وإليكم موقفاً من أعظم العلماء المعاصري المجددين مع ملك من ملوك الطوائف في عصرنا:
جمع الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله العلماء من شتى مدن فلسطين، وفي هذه الأثناء كان يحاورهم في طريق النهضة الصحيحة، وكان كثيراً ما يناقش القائمين على الجمعيات الإسلامية والأحزاب السياسية والقومية والوطنية، مبيناً لهم خطأ سيرهم، وعقم عملهم، وفساد أمرهم، كما أنه كان يعرض للعديد من القضايا السياسية في خطاباته التي كان يلقيها في المناسبات الدينية في كلٍ من المسجد الأقصى، ومسجد إبراهيم الخليل وغيرهما من المساجد، حيث كان يهاجم النظم العربية بقوله إنها من صنائع الاستعمار الغربي، ووسيلة من وسائله يستعين بها لإبقاء بلاد المسلمين في قبضته .أغضب هذا الملك عبد الله بن الحسين عليه فاستدعاه على أثر خطاب ألقاه في مسجد نابلس الكبير وأجلسه في مجلسه واستجوبه بنفسه عن سبب تهجمه على النظم العربية بما فيه النظام في هذا البلد… فلم يجب الشيخ تقي الدين النبهاني على ذلك وتظاهر بعدم السماع، مما جعل الملك عبد الله يكرر السؤال ثلاث مرات، ولكن الشيخ تقي الدين لم يجبه، فغضب الملك وقال له :” هل توالي من نوالي ،وتعادي من نعادي” فقال الشيخ في نفسه “إذا ضعفت عن قول الحق اليوم فماذا أقول لمن ورائي ممن أتكلم إليهم… فوقف وقال “ :عاهدت الله أن أوالي من يوالي الله ،وأعادي من يعاديه، وأبغض النفاق والمنافقين” فأغضب بذلك الجواب الملك مما جعل الملك عبد الله أن يأمر بإخراجه من المجلس وإلقاء القبض عليه، وبالفعل ألقي القبض عليه من قبل البادية…
هذا وإن الإجراءات لا زالت مستمرة لقمع أي توجه مخلص لدى أمثال هؤلاء العلماء، ودليل ذلك أن المحكمة الإدارية العليا في مصر برئاسة المستشار محمد المهدي قد أيدت في عهد الرئيس المخلوع مبارك قرار حل جبهة علماء الأزهر التي تضم أساتذة في جامعة الأزهر لأنهم يقفون مواقف معارضة لشيخ الأزهر السابق محمد سيد طنطاوي، وبسبب موقفهم القوي من الروايات الشيطانية التي تطبعها وزارة الأوقاف المصرية لتغذي بها عقول الأجيال المسلمة في مصر. ومن المعروف أن أحكام المحكمة الإدارية العليا تكون نهائية وغير قابلة للطعن فيها أو استئنافها أمام أي جهة قضائية أخرى. هكذا ينتقم النظام من كل من يقول لا لفتاوى السلاطين ومن يفتون للسلاطين! (مجلة الوعي 166 الصادرة في ذي القعدة 1321 هجرية).
وفي الختام فينبغي لمشاهير علماء زماننا أن يغيروا من أحوالهم حتى يغير الله ما بنا وبهم، وأهيب بجميع المسلمين أن يعرفوا عمن يأخذون دينهم، وأن لا تضيق صدورهم عن سماع آراء مخالفيهم إذا كان رأياً إسلامياً، وأدعو الذي يعلمُ خائنة الأعين وما تخفي الصدور قائلاً: اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ونعوذ بك اللهم من علم يضر بصاحبه. ونسأله سبحانه وتعالى أن يهدينا والعلماء لما يحب ويرضى، وأن يمنَّ على الأمة الإسلامية بنصر قريب وفرج عاجل، وأن يبرم لها أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، وأن يعجل بخلافتها ويرد عليها ضالتها.
آمين آمين، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان، وسار على نهجهم بإتقان إلى يوم الدين. والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
2013-07-29