مع القرآن الكريم
1988/12/05م
المقالات
2,357 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
(سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لاً يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).
[سورة النور: 1 ـ 3]
ما هو حدُّ البكر، وحدُّ المحصن؟:
فرقت الشريعة الإسلامية بين حد البكر (غير المتزوج) وحد المحصن (المتزوج) فخفّفت العقوبة في الأول فجعلتها مائة جلدة، وغلّظت العقوبة في الثاني فجعلتها الرجم بالحجارة حتى الموت، وذلك أن جريمة الزنى بعد الإحصان (التَّزوج) أشد وأغلظ من الزنى المحض في نظر الإسلام فالجريمة التي يرتكبها رجل محصن من (امرأة محصنة) عن طريق الفاحشة أشنَع وأقبح من الجريمة التي يرتكبها مع البكر لأنه قد أفسد نسب غيره ودّنس فراشه وسلك لقضاء شهوته طريقاً غير مشروع مع أنه كان متمكناً من قضائها بطريق مشروع فكانت العقوبة أشد وأغلظ.
الجلد ثابت بالنص القرآني القاطع:
أما الجلد: فقد ثبت بالنص القرآني القاطع (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) والآية الكريمة إنما هي في حد الزاني (غير المحصن) والآية وإن كانت عامة في كل (زان) إلا أن السنة النبوية قد بينت ذلك ووضحته كما في حديث (عبادة بن الصامت) روي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: «كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أُنزل عليه الوحي كُرِبَ لذلك وتربّد وجهه، فأنزل الله عليه ذات يوم فلقي كَذلك فلما سُرِّي عنه قال: خذوا عني، خذوا عني قد جعل الله لهنَّ سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيبُ بالثيب جلد مائة والرجم».
ومهمة الرسول البيان كما قال تعالى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) وكفى بتوضيح الرسول وبيانه تفصيلاً وبياناً لمجمل القرآن!!
الرجم ثابت بالسنة النبوية المتواترة:
وأما الرجم: فقد ثبت بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله، وعمله، وكذلك بإجماع الصحابة والتابعين فقد ثبت بالروايات الصحيحة التي لا يتطرق إليها الشك، وبطريق التواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام (حد الرجم) على بعض الصحابة كماعز، والغامدية، وأن الخلفاء الراشدين من بعده قد أقاموا هذا الحد في عهودهم وأعلنوا مراراً أن الرجم هو الحد للزنى بعد الإحصان.
ثم ظلّ فقهاء الإسلام في كل عصر وفي كل مصر مجمعين على كونه حكماً ثابتاً وسنة متبعة وشريعة إلهية قاطعة، بأدلة متضافرة لا مجال للشك فيها أو الارتياب، وبقي هذا الحكم إلى عصرنا هذا لم يخالف فيه أحد إلا فئة شاذة من المنحرفين عن الإسلام هم (الخوارج) حيث قالوا: إن الرجم غير مشروع. وسنبين أن حد المحصن لم يكن إلا (الرجم) لا غير.
هل يُنْفى الزاني ويغرّب من بلده؟
يرى الإمام (أبو حنيفة) أن حدّ الزاني البكر هو الجلد مائة جلدة وأن النفي ليس من الحد في شيء وأنه مفوض إلى رأي الإمام إن شاء غرّب وإن شاء ترك.
ويرى الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) أن حده الجلد مائة جلدة وتغريب عام.
هل التغريب يشمل المرأة؟
ثم إن القائلين بالنفي ـ وهم الجمهور ـ اختلفوا هل التغريب خاص بالرجل أم يشمل المرأة أيضاً، فذهب مالك والأوزاعي إلى أن النفي خاص بالرجل ولا تُنفى المرأة لقوله عليه السلام: «البكر بالبكر» الحديث.
وقال الشافعي وأحمد: إن النفي عام للرجال والنساء فتغرب المرأة مع محرم وأجرته عليها ودليلهما عموم الأحاديث وهذا هو المشهور من مذهب الشافعية والحنابلة.
ما هو حد الذمي المحصن؟
اختلف العلماء في حد الذمي المحصن فذهب الحنفية إلى أن حدَّه (الجلد) وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن حده الرجم.
من الذي يتولى إقامة الحدود؟
الظاهر من قوله تعالى: (فَاجْلِدُوا) أنه خطاب موجه (لأولي الأمر) من الحكام لأن فيه مصلحة للمجتمع وذلك بدرء الفساد، واستصلاح العباد وكلُّ ما كان من قبيل المصلحة العامة، فإنما يكون تنفيذه على الإمام أو من ينيبه من القضاة أو الولاة أو غيرهم. وقد اتفق العلماء على أن الذي يقيم الحدود على الأحرار إنما هو الإمام أو نائبة أما الأرقاء (العبيد) فقد اختلفوا فيهم على مذهبين:
أ- مذهب (مالك والشافعي وأحمد) قالوا: يجوز للسيد أن يقيم الحد على عبده وأمته في الزنى والخمر والقذف وأما السرقة فإنه من حقّ الإمام.
ب- مذهب (الأحناف) قالوا: إقامة الحدود كلها من حق الإمام، ولا يملك السيد أن يقيم حدّاً ما إلا بإذن الإمام.
تحريم الشفاعة في الحدود:
لا تجوز الشفاعة في الحدود لقوله صلى الله عليه وسلم: «من حالت شفاعته دون حد حدود الله تعالى فقد ضادّ الله عز وجل». ولأن الحدود إنما شرعت للزجر والتأنيب، والشفاعةُ تدفع هذا المعنى ولا تحققه وقد دلت الآية الكريمة على تحريم الشفاعة وهي قوله تعالى: (وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) وقد تأولها السلف على أحد وجهين:
1- المراد منها تخفيف الحد، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن البصري.
2- المراد إسقاط الحد، وهو قول مجاهد والشعبي.
قال ابن العربي: وهو عندي محمول عليها جميعاً، فلا يجوز أن يحمل أحداً رأفة على زان بأن يُسْقط الحد أو يخفِّفه عنه.
حضور الحد وشهوده:
ظاهر الأمر في قوله تعالى: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ) يقتضي وجوب حضور جمع من المؤمنين عند إقامة الحد والمقصود من حضورهم (حدَّ الزانيين) التنكيلُ والعبرة، والعظة. وقد اختلف العلماء في هذه الطائفة على أقوال:
أ- الطائفة: رجل واحد فما فوقه وهو وقول مجاهد.
ب- الطائفة: اثنان فأكثر وهو قول عكرمة وعطاء وبه أخذ المالكية.
ج- الطائفة: ثلاثة فأكثر لأنه أقل الجمع وهو قول الزهري.
د- الطائفة: أربعة فأكثر بعدد شهود الزنى وهو وقول ابن عباس رضي الله عنه وبه أخذ الشافعية وهو الصحيح.
شروط الشهادة في الزنى:
أولاً: أن يكون الشهود أربعة لقوله تعالى: (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) الآية بخلاف سائر الحقوق فإنه يقبل فيها شهادة اثنين فقط.
ثانياً: أن يكون الشهود ذكوراً، فلا تقبل شهادة النساء في هذا الباب لقوله تعالى: (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) أي من الرجال وقوله تعالى: (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) الآية. والمراد بالشهداء الرجال بدليل تأنيث العدد.
ثالثاً: أن يكون الشهود من أهل العدالة لقوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ) الآية وقوله: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) الآية.
رابعاً: أن يكون الشهود (مسلمين عاقلين بالغين) وهذه شروط التكليف.
خامساً: أن يعاينوا الجريمة برؤية فرجه في فرجها كالميل في المكحلة، والرشاء في البئر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ادرءوا الحدود بالشبهات». فربما كانا في فراش واحد ولم تحصل منهما جريمة الزنى.
سادساً: اتحاد المجلس بأن يشهدوا مجتمعين، فإن جاؤوا متفرقين لا تقبل شهادتهم وهو مذهب الجمهور.
هذه هي الشروط التي تشترط لإثبات الزنى، وهي الطريقة الأولى..
وهناك طريقة ثانية لإثبات الزنى وهي طريقة (الإقرار) بأن يشهد الشخص على نفسه ويعترف صريحاً بالزنى. والإقرار ـ كما يقولون ـ سيّد الأدلة (بل الإنسان على نفسه بصيرة) وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم باعتراف ماعز والغامدية.
هل يصح الزواج بالزانية؟
اختلف علماء السَّلف في هذه المسألة على قولين:
الأول: حرمة الزواج بالزانية، وهو منقول عن علي والبراء وعائشة وابن مسعود.
والثاني: جواز الزواج بالزانية وهو منقول عن أبي بكر وعمر وابن عباس وهو مذهب الجمهور. وبه قال الفقهاء الأربعة من الأئمة المجتهدين.
دليل القول الأول:
وقد استدل القائلون بتحريم الزواج من الزانية بظاهر الآية الكريمة وهي قوله تعالى: (الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) الآية فقالوا: إن هذه الآية ظاهرها الخبر وحقيقتها النهي والتحريم بدليل آخر الآية (وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). وقد قال علي كرَّم الله وجهه: إذا زنى الرجل فرّق بينه وبين امرأته، وكذلك إذا زنت المرأة فُرّق بينها وبين بعلها.
واستدل الجمهور على جواز النكاح بغير العفيفة من النساء بما يلي:
أ- حديث عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل زنى بامرأة وأراد أن يتزوجها فقال: «أولُه سفاح وآخره نكاح، والحرامُ لا يحرِّم الحلال».
ب- ما وري عن ابن عمر أنه قال: «بينما أبو بكر الصديق في المسجد إذ جاء رجل فلاث عليه لوثاً من كلام وهو دَهِشٌ فقال لعمر: قم فانظر في شأنه فإنّ له شأناً، فقام إليه عمر فقال: إنّ ضيفاً ضافه فزنى بابنته، فضرب عمر في صدره وقال: قبَّحك الله ألا سترت على ابنتك؟ فأمر بهما أبو بكر فضربا الحد، ثم زوَّج أحدهَما الآخر وغرّبهما حولاً»
ج- وروي عن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال: أوله سفاح وآخر نكاح، ومَثُل ذلك كمثل رجل سرق من حائط ثمرة، ثم أتى صاحب البستان فاشترى منه ثمره، فما سرق حرام، وما اشترى حلال.
د- وتأولوا الآية الكريمة (الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً) بأنها محمولةٌ على الأعم والأغلب ومعناها أن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنى والفسق لا يرغب في نكاح المؤمنة الصالحة من النساء وإنما يرغب في فاسقة خبيثة مثله أو في مشركة، والفاسقة الخبيثة لا يرغب في نكاحها الصالح المؤمن من الرجال وإنما يرغب فيها الذي هو من جنسها من الفسقة والمشركين فهذا على الأعم الأغلب.
وقال بعضهم إن الآية منسوخة نسختها الآية في سورة النور (وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) والزانية من الأيامى.
حديث شريف
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له ثلاث بنات وسقاهن وكساهن من جِدَته، كنَّ له حجاباً من النار».
رواه الإمام أحمد
1988-12-05