بســم الــلــه الرحــمــن الرحيم
خيريةُ الأمةِ الإسلاميةِ وشهادتها على الناس… تشريفٌ وتكليف (1)
يقول الحق تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكونوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَيَكونَ الرَّسولُ عَلَيْكُمْ شَهيدًا﴾ ويقول جل في عليائه: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرونَ بِالْمَعْروفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنونَ بِاللَّهِ﴾.
لقد قضت مشيئة الله تبارك وتعالى بإرسال الرسل مبشرين الأمم برضوان الله وجنته، ومنذرين من سخطه وعذابه الأليم؛ فكان النبي يُبعث إلى قوم يدعوهم إلى عبادة الله وحده، ونبذ ما سواه من الأنداد والأوثان، فيؤمن به من يؤمن، وقليل ما هم. ويكفر به من يكفر، وكثير ما هم؛ فيُنجي الله رُسله ومن آمنوا معهم، ويُهلك الكافرين بعد أن يحق القول عليهم.
ثم اختار الله تعالى بني إسرائيل وفضَّلهم على العالمين في زمانهم ليحملوا لواء التوحيد، يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿يا بَني إِسْرائيلَ اذْكُروا نِعْمَتِيَ الَّتي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّي فَضَّلْتُكُمْ عَلى الْعالَمينَ﴾ فأرسل إليهم الأنبياء والرسل تترى، كُلما هلك نبي خلفه نبي، لكنَّ بني إسرائيل فرَّطوا بالأمانة التي وُكلوا بها، وما رعَوها حقَّ رعايتها، قال تبارك وتعالى: ﴿مَثَلُ الَّذينَ حُمِّلوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفارًا، بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذينَ كَذَّبوا بِآياتِ اللَّهِ، وَاللَّهُ لا يَهْدي الْقَوْمَ الظّالِمينَ﴾ وقال نافيًا صفة الإيمان عن أكثرهم: ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ، مِنْهُمُ الْمُؤْمِنونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقونَ﴾ ثم بَيَّن سبحانه أنهم أشركوا به وكفروا فقال في سورة براءة: ﴿وَقالَتِ الْيَهودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسيحُ ابْنُ اللَّهِ؛ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ؛ يُضاهِئونَ قَوْلَ الَّذينَ كَفَروا مِنْ قَبْلُ، قاتَلَهُمُ اللَّهُ، أَنّى يُؤْفَكونَ * اتَّخَذوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْبابًا مِنْ دونِ اللَّهِ وَالْمَسيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِروا إِلّا لِيَعْبُدوا إِلَهًا واحِدًا؛ لا إِلَهَ إِلّا هُوَ، سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكونَ﴾ ونتيجةً لتفريط أهل الكتاب، اليهود والنصارى، برسالة التوحيد التي وُكِّلوا بالإيمان بها وبتطبيقها على أنفسهم؛ فقد غضب الله على اليهود، بعد أن كتبوا الكتاب بأيديهم ونسبوه إلى الله، وقتلوا أنبياءهم ظُلمًا وعدوانًا، وطرد النصارى من ساحة الموحدين من بعد كفرهم وقولهم على عيسى بن مريم بهتانًا عظيمًا؛ حيث بدلوا نعمة الله كفرًا، وجعلوا الإنجيل أناجيل كثيرة، وخاضوا في أنبيائهم، وافتروا على الله الكذب .
ثم كانت بعثة المصطفى -صلوات ربي وسلامه علي- على فترة من الرسل، والكفر يموج في الأرض موجًا، ليس على الأرض رسالة توحيد تهدي الحائرين، هذا نصراني يجثو أمام راهب يمنحه صَــكَّ غفران من الذنوب… وهذا يهودي مغضوبٌ عليه ضُربت عليه الذلة والمسكنة… وذاك وثنيٌّ يَتمنَّى على حجرٍ أن يهبه العون والطمأنينة… ورابع يرى في النار قوةً تشبع عجزه وحاجته… وخامس يتبرك ببول بقرة… !.
ومن وسط هذا الكفر المستشري، كانت بعثة المصطفى -صلوات ربي وسلامه عليه- رسولًا لا لقومه دون سواهم، بل للناس كافة، أبيضهم وأحمرهم، عربيهم وأعجميهم، قال تعالى: ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إِلّا كافَّةً لِلنّاسِ بَشيرًا وَنَذيرًا﴾ فجاء برسالة الإسلام العظيم دين الله الأوحد؛ ليخرج الناس من ظلمات طواغيت الأرض إلى نور الإسلام وهدايته، فحمل رسول الله -صلوات ربي وسلامه عليه- دعوة الإسلام إلى قومه في مكة المكرمة كنقطة انطلاق، ثم أنشأ المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة، وأقام دولة الإسلام التي حملت دعوة الله باللسان والسنان حتى دانت العرب لأمر الله طوعًا وكرهًا، وكَوَّنَ أُمةً من دون الناس وصفها الله سبحانه في كتابه بالأمة الوسط: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ ووصفها بخير الأمم في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ﴾ وَأَكد الرسول -عليه الصلاة والسلام- على خيريتها هذه بقوله فيما رواه البخاري (باب ﴿كنتم خير أمّةٍ أخرجت للنّاس﴾ – حدّثنا محمّد بن يوسف، عن سفيان، عن ميسرة، عن أبي حازمٍ، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، كنتم خير أمّةٍ أخرجت للنّاس، قال: «خير النّاس للنّاس، تأتون بهم في السّلاسل في أعناقهم، حتّى يدخلوا في الإسلام»). [صحيح البخاري] ثم انتقل رسول الله -صلوات ربي وسلامه عليه- إلى الرفيق الأعلى من بعد أن أدى الأمانة ودخل الناس في دين الله أفواجًا، لِتنتقل أمانة حمل رسالة الإسلام من بعده لأُمَّتِه الأمة الإسلامية، أي أن أمانة تبليغ رسالة الإسلام أصبحت في أعناق المسلمين، وبذلك نالوا شرف الخيرية والشهادة على الناس، فإن تنكبوا وقصروا في حملها وتبليغها تحملوا وِزر تقصيرهم وأثموا. ويبقى السؤال الآن: هل مازال المسلمون خير أمة أخرجت للناس؟ وهل انتفت عنهم صفة الخيريةِ والشهادة على الأمم من بعد أن استدار الزمان عليهم، وتداعت عليهم الأمم تنهش لحومهم وتنتهك حرماتهم وتنهب ثرواتهم، بل وتعطل العمل بأحكام دينهم؟.
يحسن بنا ابتداء أن نقف على الآيتين الكريمتين من الزهراوين -سورتي البقرة وآل عمران- وننظر في دلالتهما على شهادة الأمة وخيريتها، ومن ثَم يظهر لنا طبيعة هاتين الصفتين من حيث استقرارهما واستمرارهما لأمة الإسلام من عدمه، فنقول وبالله التوفيق:
في الآية الأولى من سورة البقرة وهي قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكونوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَيَكونَ الرَّسولُ عَلَيْكُمْ شَهيدًا﴾ جاء الحديث عن شهادة الأمة الإسلامية على غيرها من الأمم في سياق الحديث عن تغيير القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ، أي في سياق تمييز الله لأمة محمد-صلوات ربي وسلامه عليه- بأن خَصَّها بقبلة تتجه شطرها، وبعد إسهاب الآيات طويلًا في بيان أحوال بني إسرائيل -اليهود والنصارى- حيث الكفر، وتبديل كلام الله، وقتل الأنبياء، والاعتراض على أوامر الله، والخوض في أنبيائه -عليهم السلام- فختم الله تبارك وتعالى الجزء الأول من سورة البقرة بقوله: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ؛ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ؛ وَلا تُسْأَلونَ عَمّا كانوا يَعْمَلونَ﴾.
وكأن في الأمر ختمٌ لحقبة تاريخية وإسدال للستار على تاريخ بني إسرائيل الأسود، والبدء بإبراز شهادة ميلاد أمة الإسلام وتاريخ أمة الإسلام، فجاءت الآيات التالية في مستهل الجزء الثاني في سورة البقرة تحكي حادثة تغيير القبلة إلى المسجد الحرام بيانًا لصفة هذه الأمة، وأنها الأمة الوسط شاهدة العدل على الناس ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكونوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَيَكونَ الرَّسولُ عَلَيْكُمْ شَهيدًا﴾.
جاء في كتاب (التيسير في أصول التفسير/للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشتة أمير حزب التحرير حفظه الله): “الوسط في كلام العرب: الخيار والخيار من الناس عدولهم. جاءَ في لسان العرب: إن أوسط الشيء أفضله وخياره، فوسط المرعى خير من طرفيه، ومنه الحديث: “خيار الأمور أوسطها” [رواه البيهقي 3/273 والقرطبي 2/154] وجاء فيه كذلك في معنى قوله سبحانه: ﴿وكذلك جعلناكم أمةً وسطًا﴾ أي عدلًا، ويضيف صاحب اللسان قائلًا: هذا تفسير الوسط، وحقيقة معناه، فإنه سبحانه تفضَّل على أمة محمد بأن جعلها أمةً وسطًا بين الأمم؛ لتكونَ شاهدةً على الناس، فجعلها الله سبحانه بهذا الوصف “الأمة الوسط” أي الأمة العدل؛ لتكونَ مؤهلةً للشهادةِ على الناس حيث إن العدالةَ هي الشرط الأساس للشهادة؛ وعليه يكون معنى الآية: إن الأمةَ الإسلاميةَ ستكون شاهد عدلٍ على الأمم الأخرى، على أنها بلَّغتهم الإسلام. والآية، وإن جاءت بصيغة الإخبار؛ إلا أنها في معنى الطلب من الله سبحانه للأمة الإسلامية أن تُبلِّغَ الإسلام لغيرها من الِأمم وإن لم تفعل أثِمت، فهي حجةٌ على الأمم الأخرى ﴿لِتكونوا شُهداءَ على الناس﴾ كما أن الرسول حُجةٌ على الأمةِ الإسلامية بسبب تبليغه إياها الإسلام ﴿ويكونَ الرسول عليكم شهيدًا﴾.
هذا من وجه أن الأمة الإسلامية شاهد عدلٍ على الأمم الأخرى بعد الإسلام من حيث تبليغها للإسلام لتِلكَ الأمم، ومن وجه آخر فهي شاهد عدلٍ على الأمم الأخرى قبل الإسلام، من حيث تبليغ الرسل السابقين رسالات ربهم لأقوامهم، كما جاء في الحديث: “يجيءُ النبي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي معه الرجلان، وأكثر من ذلك، فيُدعى قومه فيُقال لهم: هل بلَّغكم هذا؟ فيقولون: لا. فيُقال له: هل بلَّغت قومك؟ فيقول: نعم. فيُقال له: ومن يشهدُ لك؟ فيقول: محمد وأمته. فيُدعى محمدٌ وأمته فيُقال لهم: هل بلَّغَ هذا قومه؟ فيقولون: نعم. فيُقال: وما علمكم؟ فيقولون: جاءَنا النبي محمد عليه الصلاة والسلام فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا؛ فذلك قوله تعالى ﴿وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًَا لتكونوا شُهدَاءَ على النَّاسِ وَيكونَ الرَّسُولُ عَليكم شَهيدًا﴾ فالأمة الإسلامية شاهد عدل على الأمم الأخرى بعد الإسلام وقبل الإسلام على النحو الذي بينَّاه … “ [انتهى الاقتباس من كتاب التيسير]
وأما في الآية الثانية من سورة آل عمران في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرونَ بِالْمَعْروفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنونَ بِاللَّهِ﴾، فقد جاءت أيضًا بعد حديثٍ طويل عن أهل الكتاب؛ حيث نهى الله المسلمين أن يطيعوا الكافرين، ودعاهم إلى الاعتصام بحبله فلا يحذوا حذو أهل الكتاب؛ فجاءت الآية مُصرحةً بخيرية أمة الإسلام على الأمم كلها، قال عكرمة ومقاتل: “نزلت في ابن مسعود وأُبيِّ بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة، رضي الله عنهم؛ وذلك أن مالك بن الصيف ووهب بن يهودا اليهوديين قالا لهم: نحن أفضل منكم، وديننا خير مما تدعوننا إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية”. قال أبو هريرة: “معناه كنتم خير الناس، تجيئون بهم في السلاسل فتدخلونهم في الإسلام” قال قتادة: “هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لم يؤمر نبي قبله بالقتال، فهم يقاتلون الكفار فيدخلونهم في دينهم؛ فهم خير أمة للناس”. روى الترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: ﴿كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ﴾ قال: “أنتم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها عند الله”. وقال: هذا حديث حسن، قال ابن كثير: “يعني خير النَّاس للنّاس، والمعنى: أنَّهم خير الأمم وأنفع النَّاس للنَّاس”.
من هنا يتبين لنا أنَّ في الآيتين إخبار وطلب، إخبار بصفتين شرعيتين للأمة الإسلامية (الأمة الوسط، أي شاهدة عدل على الناس، وخير أمة أخرجت للناس)، وكذلك فيهما طلب وأمر بصيغة الخبر يدل على الوجوب، أي أن الأمة الإسلامية مكلفة بالمحافظة على وسطيتها وخيريتها، وذلك بالإيمان بالله وحده لا شريك له، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبليغ رسالة الإسلام إلى الناس كافة على وجه لافت؛ إلا أن هذا لا يعني أن قوله تعالى في الآية الأولى: ﴿لِتكونوا شُهَداءَ على الناس﴾ جاء للتعليل، أي لكون الشهادة على الناس علة على وجوب الحكم، فهي وإن كانت اللام فيها ﴿لِتكونوا﴾ لام تعليل بحسب قواعد النحو، إلا أنها لا تفيد التعليل وفق قواعد القياس الشرعي، ووفق دلالة الألفاظ والمعاني، ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلّا لِيَعْبُدونِ﴾، ويبقى أن الآية تدل على أن الله تعالى يأمر المسلمين أن يكونوا شهداء عدل على الناس بتبليغ رسالة الإسلام إليهم وحمل أمانة النبوة من بعد سيدنا محمد، صلوات ربي وسلامه عليه.
وكذلك الحال بالنسبة للآية الثانية من سورة آل عمران: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرونَ بِالْمَعْروفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنونَ بِاللَّهِ﴾ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله ليست علة تدور مع المعلول وجودًا وعدمًا، وهي وإن كانت وصفًا مُفهِمًا؛ إلا أنها لا تفيد التعليل الشرعي الباعث على تشريع الحكم، لأن العلة أَمارة وعلامة على تشريع حكم الأصل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هنا جاء بخطاب مستقل يُستفاد من ذات النص دون الحاجة إلى أمارة (علة) من أجلها شُرع، وكذلك فهي ليست شرطًا يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود؛ لأن الشرط من أحكام الوضع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أحكام التكليف، فالآية الكريمة فيها مسألتان: الأولى خيرية الأمة وهي إخبار وطلب، والثانية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يبقَ إلا أن الآية تأمر المسلمين الذين جعلهم الله خير أمة أخرجت للناس بأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، فكون الأمة موصوفة بأنها خير الأمم مسألة، وكونها مُكلفة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسألة أخرى؛ في حين أنَّ الشرط، وإن كان ليس جزءًا من المشروط، إلا أنه مُكمِّل لمشروطه فيما اقتضاه ذلك المشروط، فالوضوء مكمل لفعل الصلاة فيما يقتضيه الحكم فيها، فهو شرط في الصلاة، وهو مما اقتضاه الحكم في ذلك المشروط، فالشرط مع المشروط كالصفة مع الموصوف، ولا ينطبق هذا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه خطاب تكليف قائم بذاته وليس خطاب وضع؛ في حين أن الشرط من خطاب الوضع.
وبناء على ما سبق، فإن خيرية أمة الإسلام مستقرة مستمرة لهذه الأمة ما دامت الحياة؛ لأن وصف الله تعالى لها بالخيرية والشهادة على الناس وصف شرعي دلَّ عليه النص دلالة قطعية، فقد ثبتت بدليل قطعي في ثبوته، قطعي في دلالته. فالأمة الإسلامية خير الأمم، وهي الأمة الوسط، أي شاهدة عدل على الناس منذ أن بنى رسول الله، صلوات ربي وسلامه عليه، النواة الأولى لهذه الأمة، وإلى يومنا هذا وحتى تقوم الساعة، ولا يقدح في خيريتها هذه وشهادتها تلك ما نزل بالأمة من فتن وبلايا أبعدتها عن مستواها كأمة صاحبة رسالة عالمية خالدة مُكلفة بتبليغها، بعد هدم الخلافة الإسلامية مطلع القرن الماضي، ودليل ذلك أن وصف الأمة بالخيرية وصف شرعي غير معلل وغير مشروط حيث لا مجال للعقل أن يخوض فيه، وهو بهذا الوصف حكم توقيفي، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن النصوص التي تناولت مسألة الخيرية والشهادة على الناس من الآيات والأحاديث، جاءت بألفاظ عامة مستغرقة لعموم أفراد المسلمين من غير مخصِّص يُخصصها في جيل من الأجيال، وكذلك جاءت بألفاظ مطلقة غير مقيدة بزمان ومكان معينين، فقوله: ﴿كُنتُم﴾ وقوله ﴿وَجَعلناكُم﴾ ألفاظ تدل على العموم، وفي هذا المعنى يقول ابن عاشور في تفسيره: “والمراد بأمَّة عمومُ الأمم كلّها على ما هو المعروف في إضافة أفعل التفضيل إلى النكرة أن تكون للجنس فتفيد الاستغراق.”أي إنَّ إضافة اسم التفضيل ﴿خيرَ﴾ إلى اسم الجنس ﴿أمة﴾ يفيد الاستغراق، أي استغراق عموم المسلمين في كل مكان وزمان، وكل ما ورد من نصوص تناولت هذه المسألة، من آيات وأحاديث، جاء دالًا على تفاضل بين الأزمنة والأمكنة والأجيال بعضها على بعض، وهذه طائفة من النصوص الدالة على ذلك التفاضل:
أولا : نصوص في فضل الصحابة، رضي الله عنهم:
1-قال تعالى: ﴿لا يَسْتَوي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ، أولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذينَ أَنْفَقوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلوا، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلونَ خَبيرٌ﴾.
2- قال تعالى: ﴿لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرينَ الَّذينَ أُخْرِجوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا وَيَنْصُرونَ اللَّهَ وَرَسولَهُ، أولَئِكَ هُمُ الصّادِقونَ *وَالَّذينَ تَبَوَّأوا الدّارَ وَالْإيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدونَ في صُدورِهِمْ حاجَةً مِمّا أوتوا وَيُؤْثِرونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ، وَمَنْ يوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحونَ﴾.
3-عن عمران بن حصين رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثًا، ثم إن بعدكم قومًا يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن” [صحيح البخاري] كتاب فضائل الصحابة.
4-عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي. فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه” [صحيح مسلم] كتاب فضائل الصحابة.
ثانيًا: نصوص في فضل الأمكنة:
1-قال تعالى: ﴿سُبْحانَ الَّذي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصى الَّذي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا، إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ الْبَصيرُ﴾.
2-قال تعالى: ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذا الْبَلَدِ﴾.
3-عن أَبِي ذَرٍّ رضي اللهُ عنه قَالَ: “سَأَلْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ أَوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ عَامًا” [رواه البخاري ومسلم].
4-عن أَبِي شُرَيْحٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ:“إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم فِيهَا فَقُولُوا: إِنَّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ”. [رواه البخاري ومسلم].
5-عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه. هلم إلى الرخاء، هلم إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. والذى نفسي بيده، لا يخرج منهم أحد رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيرًا منه، ألا أن المدينة كالكير تخرج الخبيث، لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد”. [رواه مسلم]
6-عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إني رأيت عمودَ الكتاب انْتُزِعَ من تحت وسادتي، فنظرتُ، فإذا هو نورٌ ساطعٌ عُمِدَ به إلى الشام، ألا إنّ الإيمان -إذا وقعت الفتن- بالشام”. [صحيح فضائل الشام].
ثالثًا: نصوص في فضل الأزمنة:
1-قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذي أُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ﴾.
2-قال تعالى: ﴿إِنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، إِنّا كُنّا مُنْذِرينَ * فيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكيمٍ﴾.
3-عن ابن المسيب قال: قالت عائشة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء؟” [صحيح مسلم].
4-عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : يقول عليه الصلاة والسلام: “ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، يعني أيام العشرـ قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال ولا الجهاد في سبيل الله؛ إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء“. [رواه البخاري].
رابعًا: أحاديث في فضل الطائفة المنصورة
1-عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “… ولا تزال هذه الأمة ظاهرين على من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون”. [رواه البخاري].
2-وعن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يزال ناسٌ من أمتي ظاهرين، حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون”. [رواه البخاري ومسلم].
3-وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى بن مريم، فيقول أميرهم: تعال صلِّ لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة”. [رواه مسلم]
4-وعن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك”. [رواه مسلم].
خامسًا: نصوص في فضل الثبات والاستقامة والعمل لتحكيم الإسلام في أيام الهرج والفتن وأحسبها هذه الأيام:
1-قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا مِنْكُمْ وَعَمِلوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الْأَرْضِ كَما اسْتَخْلَفَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دينَهُمُ الَّذي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا، يَعْبُدونَني لا يُشْرِكونَ بي شَيْئًا، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأولَئِكَ هُمُ الْفاسِقونَ﴾.
2-قال تعالى: ﴿فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسوءوا وُجوهَكُمْ وَلِيَدْخُلوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّروا ما عَلَوْا تَتْبيرًا﴾.
3-عن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله زَوَى لي الأرضَ فرأيتُ مشارقَها ومغاربَها، وإن أمتي سيبلغُ مُلكُها ما زُوِي لي منها… ” [رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي].
4-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ، حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ! يَا عَبْدَ اللَّهِ! هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي تَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ” [رواه مسلم].
5-عن معقل بن يسار -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: “العِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ” [أخرجه مسلم]
6-عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء”. [رواه مسلم].
7-عن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يا أيها الناس، اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عز وجل عبادًا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله. فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس وألوى بيده إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله! انعتهم لنا، جَلِّهم لنا. فَسُرَّ وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- بسؤال الأعرابي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هم ناس من أفناء الناس ونوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها، فيجعل وجوههم نورًا، وثيابهم نورًا، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون”. [قال المنذري: رواه أحمد وأبو يعلى بإسناد حسن والحاكم وقال: صحيح الإسناد].
فهذه طائفة من النصوص تدل على تفاضل بين الأمكنة والأزمنة وفئات وطوائف من الأمة بعضها على بعض، ولا تدل على انتفاء خيرية الأمة وشهادتها على الناس في وقت أو مكان أو لدى جيل معين. [يتبع]