من أجل فهم صحيح للإسلام
1989/11/10م
المقالات
2,853 زيارة
لا شك أن حكماً صحيحاً على أي واقع في هذه الحياةِ لا يتأتى إلا بعد تفقُّه عميق ومستنير في ذلك الواقع، وإذَّاك يكونُ الحكم الصادرُ حكماً مبنياً على العقل ومطابقاً لذلك الواقع المبحوث فيه.
والإسلامُ، الدينُ الذي بعثَ اللهُ به سيِّدنا محمداً ﷺ رسولاً للناس كافةً، قد حضَّ الإنسانَ على التفكُّر والتفقُّهِ في واقعه كإنسان وفي واقع الكون والحياةَ حتى يخلصَ إلى الحقيقة اليقينية التي تُبنى عليها كلُّ الأفكار الأساسية والفرعية المتعلقةِ بالكون والإنسان والحياة وعلاقتها بما قبلها وعلاقتها بما بعدها.
يقول تعالى: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ) ق (6ـ 11) ويقول سبحانه لافتاً النظرَ والبصائر إلى آياته في خلق الإنسان والأرض: (وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ) الذاريات (21)، ثم إنه ينعي على أولئك ذوي التفكير المنحط (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ ) الطور (35)، ثم يُطلقُ تعالى التحدي الأكبر الذي يستحث العقلَ الآدمي على التفكير العميق فيقول: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) الحج (73).
[للوقوف على تفاصيل متعلقة بوجوب وجود خالق للكون هو الله أنظر بحث (الإيمان بالله) المنشور في مجلة الوعي العدد رقم 29].
ومعنُ النظر في واقع الدين الإسلام يخلصُ إلى نتيجة مؤداها أنَّ هذا الدين هو عقيدةٌ عقليةٌ منبثقٌ عنها نظامٌ شاملٌ متكاملٌ قد أجاب عن تساؤلات العدةِ الكبرى المتعلقة بالوجود والخلقِ إجابةً واضحةً يُقرّها ويسلِّم بها ويذعنُ لها العقَلُ ويطمئنُ إليها القلبُ والوجدان. وهذه العقيدةُ التي أساسُ انعقادها في النفس خضوعُ العقلِ لها عن يقين قد انبثقت عنها أفكارٌ ومفاهيم من أجل رعاية شؤون الناس وسياستهم ومعالجة كل ما ينتجُ عن اجتماعهم من مسائل ومشاكل متعلقة بالاجتماع والاقتصاد والحكم وما إلى ذلك. (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً… ) النحل (89)، وقد أوجب الشارع الكريم الاحتكام إلى شريعته في كلِّ صغيرة وكبيرة وأوجب الرجوع إليها لمعالجة كل اضطراب ولفضِّ كل نزاع فقال: (وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ… ) المائدة (49)، وفي آية ثانية قال سبحانه: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ… ) النساء (124). وتوعَّدَ سبحانه مَنْ بلغهم الذكر فزعموا الإيمان ثم أعرضوا عنه ولهثوا وراءَ شرائع وضعية لا تُسمنُ ولا تغني من جوع (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ… ) النساء (60)، ومتى بلغ المرء الإسلام ودانَ له واعتنقه بعد أن سلَّمَ عقلاً واطمأن وجداناً لوجود الخالق وجب عليه أن يديم النظرة العميقة والمستنيرة إلى أفكار هذا الدين وأحكامه، الذي جعله الله سبحانه وتعالى خاتم الأديان، وجعل شريعته خاتمة الشرائع ونسخ بها ما قبلها من الشرائع، قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ… ) المائدة (48)، ووجب عليه أيضاً أن يعيش عبودية حقيقية لله الواحد القهار لأن الغاية التي خلق الله سبحانه وتعالى من أجلها الإنسان واضحة كل الوضوح في قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات (56)، ومفهوم العبودية: الخضوع التام من قبل العبد لأوامر المعبود، وهذا الخضوع الذي نحن بصدده خضوعٌ عام ومطلق ملزم به العبد في كل صغيرة وكبيرة تجاه ما صدر عن المعبود من أوامر ونواهٍ.
فالعبودية _ هي أن نُحكِّمهُ في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا وأن نحتكم إليه ونرجع لشرعه في كل أمورنا وأن نبغض ونرفض ونأبى الخضوع لأي حكم أو أمر أو نهي غير حكم الله وأمره ونهيه. إذا ارتضينا بحكم غير حكم الله في أي جانب من جوانب حياتنا الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية فإن معنى العبودية لله قد انتفى بنفي الحاكمية له، وعندها يحق علينا قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ).
وجوب الحكم بما أنزل الله:
إن الحكم الشرعي بتعريف الفقهاء له هو: «خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد»، وقد صُنِّف إلى:
1- الواجب (الفرض).
2- المباح.
3- الحرام.
4- المندوب.
5- المكروه.
فالمسلم: العبدُ الحقيقي لله، قبل أن يقوم بأي فعل، كَبُرَ ذلك الفعل أم صَغُرَ، يتساءلُ عن حكم الله فيه، فإن كان مباحاً قام به وإن كان حراماً أقلع ولم يقرب منه. ولو حصل وزان كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية أفعاله بميزان الشرع واحتكم إليه قبل القيام بها لأدرك حقيقة الإسلام ولأضحى أفراد الأمة جميعاً تياراً قوياً جارفاً لكل أفكار الكفر، ولأعادوا للإسلام مجده بأن بات سيداً على سدة الحكم يرعى شؤون الناس ويسوسهم حسب ما أراد الله وبيّن في كتابه الحكيم وفي سنة رسوله الكريم. ولكن حالنا كأمة إسلامية غير ذلك، فبلاد المسلمين تزخر بالأحزاب الكافرة وتعج بالأفكار والمفاهيم الفاسدة، فمئات التنظيمات والأحزاب والتيارات في بلاد المسلمين ترفعُ رايات غير راية الله، فبعضها ينادي بالمبدأ الشيوعي، والبعض الآخر ينادي بالتكتل على أساس قومي، وبعض ثالث يجمع بين الدعوة للمبدأ الاشتراكي (الشيوعي) ولأفكار التجمع القومي، وبعض رابع ينادي بالإسلام وبالقومية العربية معاً ويقول إن الإسلام والعروبة توأمان. وبيت القصيد هنا هو لفت النظر إلى أن روافد هذه الأحزاب الأساسية وسوادها الأعظم والروح التي تغذيها هي من جسم الأمة أتراد من شبابها وأبنائها الذين يدينون بالإسلام. أما تساءل أولئك ولو للحظة واحدة عن حكم الله في الأفعال التي يقومون بها والتي تخرجهم من ولائهم لله ولرسوله؟! كيف يوفقون بين طرحهم القومي وبين قول رسول الله ﷺ: «ليس منّا من دعا إلى عصبية»، كيف يوفقون بين من يقول بأزلية المادة وبعدم وجود خالق للكون وبين الإسلام الذي أساسه «لا إله إلا الله محمد رسول الله»؟!.
إن الوعي ضرورة ملحة، والنفوس التي تقول أنها مسلمة وتنضوي تحت رايات الاشتراكية أو القومية أو الوطنية أو غير ذلك مما شاكلها لا ريب أنها نفوس مغرر بها ويقصها الوعي على دينها والنظرة الجادة المستقيمة في تبني الأفكار.
فالأحزاب العلمانية التي تطرح الدين جانباً وتحتكم إلى أنظمة وقوانين وتشريعات قد وضعها الإنسان، هذه الأحزاب التي تسعى لبلوغ الحكم من خلال برامجها المستندة للقوانين الوضعية، كيف يمكن للمسلم أن يكون سنداً لها وظهيراً، ويقول عن نفسه بأنه مسلم، والله يقول: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ) المائدة (45)) وفي آية ثانية يقول سبحانه: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ) المائدة (44).
إن نظرة بسيطة ولكن جادة ينظرها المسلم إلى واقع تلك الأحزاب والتنظيمات التي لا تجعل الإسلام أساساً لها ومقياساً لأعمالها وأفعالها، تجعله نقيضاً لها وتجعله عاملاً نشطاً من أجل إعادة الحكم بما أنزل الله الذي هو رأس الفروض، لأنه الفرض الذي بتحققه يتحقق تطبيق كل أحكام الإسلام في الواقع، ويصبح الإسلام سيداً على سدة الحكم كما أراد الله: (وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ… ) المائدة (49). بعضهم يقول ها أنذا مسلم أصوم وأصلي وأحج وأزكي وأخلاقي حسنة وحميدة، لكنه وللأسف يمد في عمر حزب علماني من خلال انتمائه إليه، ناهيك عن ارتكابه لمخالفة شرعية توجب غضب الله ورسوله عليه.
نقول لهذا الصنف من المسلمين: ليس هذا بالفهم الصحيح الإيمان، لأن إقامة الحد على الزاني فرض، ورفع راية الجهاد في سبيل الله وجلب تارك الصلاة واستتابته إن كان عاصياً وتطبيق الحد الشرعي عليه إذا استمر على معصيته فرض. وهذه وغيرها الكثير الكثير من الفروض والواجبات الشرعية معطلة… أما تساءل ذلك الصنف من المسلمين لماذا لا تطبق تلك الأحكام؟!
إن تطبيق الحد الشرعي على الزاني أو السارق مثلاً لا يتأتى إلا بوجود سلطان للمسلمين يحكم بما أنزل الله، وبما أن هذا السلطان أو الإمام غير موجود واقعاً في هذه الأيام فإن مجمل الأحكام الشرعية المتعلقة بالحدود معطلة وواجب الأمة أتراد تطبيق الحدود لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا.. ) المائدة (38). ويقول أيضاً: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) النور (2)، والملاحظ أن خطاب الشارع هنا عام لكل الأمة أتراد، وعدم تطبيق الحكم الشرعي الوارد في الخطاب يترتب عليه تعطيل من الأمة لحكم أو أحكام من مجموعة أحكام الإسلام، أي لجانب كبير من الشريعة أتراد، وواجب الأمة أن تطبق تلك الأحكام حتى تكون عبوديتها لله حقيقة، وحتى تتحقق الغاية التي من أجلها خلق الله الإنسان. والفهم الإسلامي يقول بانتداب الأمة واختيارها لشخص منها له مواصفاته من حيث أنه مسلم، بالغ، عاقل، حر عدل يقوم عنها بتطبيق أحكام الإسلام من خلال مبايعته على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وهذا الشخص هو الخليفة. وبما أن هذا الواجب الشرعي معطل لعدم وجود خليفة للمسلمين فقد تحتم والحال هذه على الأمة أتراد أن تقوم بالعمل من أجل تنصيب خليفة للمسلمين يقوم بواجبه الشرعي في تطبيق أحكام الإسلام لأن القاعدة الشرعية تقول: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، فواجب الأمة أن تطبق أحكام الشريعة، ومجمل أحكامها لا يتأتى تطبيقه إلا بوجود سلطان للمسلمين. وبناء على ذلك أضحى واجباً شرعياً على الأمة أن تسعى لتنصيب خليفة للمسلمين يقوم برعاية شؤونهم في الداخل بتطبيق أحكام الله عليهم ويقوم برفع راية الجهاد من أجل نشر الإسلام في الخارج. وهذا السعي من أجل تنصيب خليفة للمسلمين يستدل عليه أيضاً من حديث للرسول ﷺ: «من مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية». والآن لا يوجد إمام أو خليفة للمسلمين حتى يبايع، والواجب الشرعي أن على المسلم أن يعقد بيعة طاعة وولاء لخليفة المسلمين وإمامهم على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، فأضحى واجباً شرعياً السعي من أجل تنصيب خليفة للمسلمين حتى يتحقق بوجوده مبايعة الولاء والطاعة.
إنها لدعوة صريحة من أجل بلورة فهم حقيقي في الأذهان عن الإسلام حتى يوظف هذا الفهم في سبيل العمل من أجل إعادة الحكم بما أنزل الله، فهلاَّ لبى النداء من سمعه. قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ ) يوسف (108).
سعيد رضا الخطيب
طرابلس
1989-11-10