التعددية السياسية والإسلام
1992/02/10م
المقالات
3,855 زيارة
يتردد على ألسن نفر من أبناء الأمة الإسلامية عبارة التعددية السياسية أو التعددية الحزبية.
وتطالعنا الصحف اليومية وتتناقل وكالات الأنباء تصريحات لبعض زعماء الدول العربية بأنهم يعتزمون العمل على توسيع قاعدة الحكم أو توسيع قاعدة المشاركة الشعبية فما هي هذه التعددية التي تتردد على الألسن؟
وما المقصود منها؟
وما هو موقف الإسلام منها؟
إن معنى التعددية السياسية من مفهوم النظم الرأسمالية هو أن يترك للناس حرية تشكيل الجماعات أو إنشاء التكتلات أو إقامة الأحزاب التي بدورها تختار من بين أعضائها ممثلين لها يشاركون في المؤسسات الدستورية من مجالس نيابية أو مجالس شورى أو غيرها.
ويعتبر هذا في نظرهم هو التمثيل الشعبي بغض النظر عن الفكرة التي تقوم عليها تلك الأحزاب،وقد يشاركون مباشرة في حكم البلاد وعندها يدخلون في السلطة التنفيذية فيصبحون وزراء في السلطة.
ومن مهام المجالس النيابية محاسبة حكام البلاد ويغلب ذلك على الذين لا يشاركون في السلطة التنفيذية ويسمون أحزاب المعارضة؛ ولكنها معارضة دستورية.
بخلاف ما عرف عن الدول التي تطبق القوانين والنظم الاشتراكية فقد ظلت ردحاً من الزمن تعتمد في حكم الناس على نظام التفرد بالحكم وهو ما يسمى نظام الحزب الواحد؛ أي لا يصح تشكيل الأحزاب أو إنشاء التكتلات سوى حزب واحد له وحده الحق في حكم البلاد كما كان حاصلاً في دول أوروبا الشرقية وبعض دول العالم الثالث ومنها بعض البلاد العربية.
وليس شرطاً أن يمثل هذا الحزب جميع فئات الشعب. ولا يجوز أن تكون له أحزاب أو تكتلات منافسة أو معارضة.
واستمرت هذا الحال حتى أعلن الزعيم السوفياتي غورباتشوف مبدأه في سياسة الشعوب والذي أطلق عليه (البريسترويكا والغلاسنوست) أي إعادة البناء وحرية التعبير عن الرأي.
فبدأت التحركات الشعبية في دول المنظومة الاشتراكية تنادي بالحرية والانعتاق من ربقة التبعية السياسية وتعمل للانقلاب من قيد كبلها زمناً طويلاً وهو نظام الحزب الواحد وتدعو إلى مشاركة الشعب كل الشعب في إدارة شؤون البلاد وممارسة أعمال الحكم.
فاضطر الحزب الحاكم وهو الحزب الشيوعي فيها أن يعلن عن حل نفسه في بعضها وإعطاء الحرية للشعب في اختيار ممثليه في الحكم أو أن يفسح المجال لأحزاب أخرى أن تتشكل ومن ثم تشاركه في الحكم كما حصل في هنغاريا وألمانيا الشرقية وبولندا..
تلك هي التعددية الحزبية في النظامين الاشتراكي والرأسمالي. والمقصود منها في عرفهم أن تقوم في الأمة أحزاب وتكتلات وتجمعات تتبنى أفكاراً وآراء تتعدد بتعددها لتعالج مشاكل الناس السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها مما ينفي في نظرهم صورة الحكم الانفرادي أو تفرد حزب واحد أو فئة واحدة في الحكم دون غيرها من فئات الشعب الأخرى فينعكس ذلك إيجاباً على حياة الشعوب ورعاية شؤونهم على حد زعمهم.
أما مسألة موقف الإسلام منها فهي ما يلي:
تؤسس التكتلات وتقام الأحزاب في ظل نظام الإسلام دون الحاجة إلى ترخيص أو تصريح من الدولة. ويجوز أن تكثر في الأمة وأن تتعدد. ويحق لكل جماعة أو حزب أن يصدر صحفاً ومجلات ينشر فيها آراءه وأفكاره التي تبناها ويدعو الناس لحملها وتبنيها ومحاسبة الحكام على اساسها. وعليه فلا بد أن يستهدف الحزب أو الجماعة في الأمة الإسلامية محاسبة الحكام ونشر الأفكار بين الناس.
ودليل ذلك قوله تعالى في سورة آل عمران الآية/ 104 (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ).
ففي الآية طلب بصيغة الأمر ـ وهو الفعل المضارع المقرون بلام الأمر ـ من الأمة أن تكون فيها جماعة لها صفات ثلاثة وهي الدعوة إلى الخير وهو الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخاصة والعامة. فإن لم يكن في الأمة تلك الجماعة الموصوفة وجب على الأمة أن توجدها وإلا وقعت في الإثم والتقصير.
ولم تحصر الآية الطلب بجماعة واحدة فقط فلم ترد كلمة «واحدة» بعد كلمة أمة، وجاءت كلمة «أمة» نكرة فيجوز أن تتعدد الجماعات والأحزاب في الأمة الإسلامية. ولكن الآية حصرت الناس الذين يشكلون الجماعة والناس الذين تتكشل منهم، فكلمة «منكم» في الآية تمنع أن تكون الجماعة أو الحزب من غير المسلمين وتحصر ذلك في المسلمين فقط.
ولكن ما هو الأساس الذي تبنى وتقام عليه هذه الأحزاب؟ إن واضح في الآية الدعوة إلى الخير والخير هو الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لجميع الناس حكاماً ومحكومين وحيث لا يتأتى ذلك من غير المسلمين كالعلمانية والشيوعية والوطنية والقومية.
ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلوب من المسلمين بالآيات والأحاديث الواردة في هذا الباب فلا حاجة إذن إلى ترخيص أو تصريح من الدولة لإقامة الأحزاب شريطة أن تقوم على أساس الإسلام وتدعو إلى الإسلام. ولكن يحق للدولة الإسلامية أن تطلب من هذه الأحزاب والجماعات بياناً لبرامجها وأفكارها ووسائلها وطريقة عملها لتتأكد أنها قائمة على أساس الإسلام.
ولا ينكر الإسلام تعدد الآراء في إطار أحكام الشرع بل يحث على التفكير والاجتهاد وهو بذل الجهد في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
وفي تاريخ أئمة الفقه وسيرتهم خير دليل على التوسع في الاجتهاد وإيجاد الحلول للمسائل الفقهية والحوادث التي تعرض للمسلمين في حياتهم حتى وصل الحال إلى وضغ الحلول للمسائل المفترضة عند بعض الفقهاء.
فالإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أبو حنيفة والإمام أحمد بن حنبل والإمام جعفر والإمام زيد وغيرهم قادة للفكر في هذه الأمة وكلًّ له راية في المسألة الواحدة وكل له تلاميذه.
وكل إمام مذهب أو فقيه كان ملتزماً فيما يصدر عنه من آراء وأفكار بالعقيدة الإسلامية وما انبثق عنها من أنظمة أحكام لا يحيد عنها قيد أنملة.
هذه هي شروط الإسلام في الأحزب وهذا هو الأساس الذي تقوم عليه وسبب تعددها في الأمة الإسلامية.
فما سبب ترويج ونشر دعوات التعددية الحزبية كما هي في نظم الديمقراطية بين أبناء الأمة الاسلامية؟
ومن هم المروجون لها؟
لا شك أن عدم تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وشيوع الأفكار الرأسمالية بين الناس وقيام أنظمة تطبق قوانين وضعية مستوحاة من مبادئ الكفر من اسباب رواج هذه الأفكار.
وأن معالجة مشاكل الناس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بأفكار وآراء المبدأ الرأسمالي وما انبثق عن عقيدته ـ وهي فصل الدين عن الحياة ـ من أنظمة جعل ثقافته تسود وتنتشر وتتربى عليها الأجيال من أبناء هذه الأمة.
ففي غيبة أحكام الشرع التي تعالج قضايا الناس بحسبها لم يجد الناس بداً من معالجة قضاياهم طبقاً للأنظمة الوضعية التي وضعها البشر.
ولا سبيل للقضاء على هذه الأفكار والدعوات الزائفة إلا باستئناف الحياة الإسلامية بإقامة الدولة الإسلامية حيث تطبق أحكام الإسلام كاملة في كل جوانب الحياة وينشأ أبناء الأمة جيلاً بعد جيل على ثقافة الاسلام، مقياسُ أعمالهم الحلال والحرام والحسنُ عندهم ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع وليس الهوى ولا المصلحة.
أما الذين يروجون لتلك التعددية فهم أولئك المضبوعون بالثقافة الغربية ومنها الديمقراطية. فقد بهرتهم الحداثة والمدنية ببهارجها وزخرفها، وساروا وراء كل ناعق دون تفكير أو إنعام نظر فيما يأخذون عنهم. وصدق فيهم قول رسولنا الكريم ﷺ: «لتتبعن سنن الذين كانوا قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلو جحر ضب لدخلتم وراءهم» وهؤلاء أمرهم مكشوف وقضيتهم خاسرة.
وهناك فريق آخر من المسلمين نسمعهم أو نقرأ لهم أقوالاً غريبة عجيبة فيقولون: إن الديمقراطية لا تخالف الإسلام وجوهر الديمقراطية من الإسلام فيقولون: «أليست الشورى من الإسلام وقد وردت نصوص في القرآن تحث عليها (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)؟ ففي زعمهم يجوز للأمة أن تتعدد فيها الأحزاب وتؤسس على أفكار متعددة لا فرق بين الأحزاب التي تقوم على أساس القومية أو الوطنية أو الاشتراكية والتي تقوم على أساس الإسلام. فحرية الرأي مكفولة للجميع وحرية العقيدة أيضاً مكفولة لهم أليس هذا هو عين مبدأ فصل الدين عن الحياة.
ألا يدرك هؤلاء الفرق بين الديمقراطية والدكتاتورية والتيوقراطية وغيرها من الأنظمة البشرية وبين الاسلام؟
إن الترويج للتعددية الفكرية والسياسية لا يجوز، وقد يقول قائل بأن لا خلاص من الدكتاتوريات والظلم الذي يرزح المسلمون تحته إلا برفع هذه الشعارات. وهذا في الواقع ليس مبرراً إذ لا يجوز اتخاذ الواقع مصدر الفكر بل يجب اتخاذ الواقع موضوع التفكير لتغيير الواقع، فالدكتاتورية أيضاً يجب التخلص منها بالعمل على هدمها وإقامة سلطان الإسلام. كذلك لا يجوز أن يتصرف المسلمون بردات الفعل كأن تجري المطالبة بالتعددية رداً على الفردية أو المطالبة بالديمقراطية رداً على الدكتاتورية.
ولا يقال هنا بأن مهاجمة الديمقراطية والتعددية تعني الدفاع عن الفردية والدكتاتورية ذلك لأننا لا نكتفي بمهاجمة الديمقراطية بل ونهاجم الدكتاتورية ثم نطرح البديل وهو الإسلام. أما لو اكتيفينا بترداد الهجوم على الديمقراطية فإننا عند ئذ نكون قد رضينا لأنفسا بأن نقف موقف الدفاع عن الدكتاتورية وهذا غير وارد.
لذا علينا رفض هذه الشعارات جميعها وعلينا أن ندرك أن هذه الشعارات تعني تركيز وجهة نظر الغرب دون أن نشعر أو نقصد ذلك، وهذا منزلق خطير حذّر منه الاستاذ أبو الحسن الندوي حين ذكر في كتابه «المسلمون تجاه الحضارة الغربية» إن المطالبين بفصل الدين عن الحياة هم عملاء، وهو وصف دقيق ذلك لأن العمالة ليست سياسية فحسب فقد تكون سياسية أو فكرية أو ثقافية وهذه أخطر من السياسية فهل أدركنا واقع التعددية نرجو أن يدرك شباب الأمة واقعها .
1992-02-10