السؤال:
عند انصراف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع حَبَسَ الناس في مكان يدعى (غدير خُمّ) وخَطبهم، وفي هذه الخطبة ورد حديث الثَّقَلَينْ: «وأنا تارك فيكم ثقلين… كتاب الله… وأهل بيتي… » فما الذي دعا إلى حبس الناس في الطريق؟ وهل أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم دليل شرعي كالقرآن والسنة؟
الجواب:
أما عن سبب حبس الناس في الطريق بعد أن كانوا قفلوا عائدين إلى ديارهم فإنه قُبِيْلَ حجة الوداع تلك وبعد الفراغ منها مباشرة وصلت إلى مسامع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلمات فيها طعن بعلي رضي الله عنه، وسُمِعَ هذا الكلام من ناس كثير، وكان هذا الكلام جديداً وقد فشا في قسم من الحجيج. فأراد صلى الله عليه وسلم أن يصحح الموقف ويقطع دابر هذا الكلام قبل أن يتفرق الناس وتنتشر الأقاويل، فيصبح بعد ذلك من العسير التصحيح والتفهيم.
أمّا ما هي هذه المطاعن ولماذا جاءت في هذا الوقت فإليك البيان:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل خالد بن الوليد على رأس جيش إلى اليمن قبل بضعة أشهر من حجة الوداع. وقد روى الإمام أحمد في مسنده: (عن عبد الله بن بُريْدة قال: حدثني أبو بُريْدة قال: أبغضتُ علياً بُغضاً لم أُبغضه أحداً قط، قال: وأحببت رجلاً من قريش لم أحبّه إلا على بغضه عليّاً؟ قال: فبُعِث ذلك الرجل على خيل، فصحبته ما أصحبه إلا على بغضه علياً. قال: فأصبنا سَبْياً. قال: فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابعث إلينا من يخمّسه. قال: فبعث إلينا علياً، وفي السّبْيَ وصيفة من أفضل السبي. قال: فخمّس وقسّم فخرج ورأسه يَقْطُر، فقلنا: يا أبا الحسن ما هذا؟ فقال: ألمْ تَروا إلى الوصيفة التي كانت في السبي، فإني قسَمتُ وخمّست فصارت في الخمس، ثم صارت في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صارت في آل عليّ ووقعت بها. قال: فكتب الرجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: ابعثني. فبعثني مصدقاً. قال: فجعلت أقرأ الكتاب وأقول: صَدَقَ. قال: فأمسك يدي والكتاب فقال: «أتبغض علياً» قال: قلت: معم. قال: «فلا تبغضه، وإن كنت تحبه فأزدد له حُباً، فوا لذي نفس محمد بيده لنصيب آل عليّ في الخمس أفضل من وصيفة» قال: فما كان من الناس أحدٌ بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم أحبّ إليّ من علي).
وقد أورد البخاري هذا الحديث مختصراً. وقد كان ذلك قُبَيْل حجة الوداع. وقد رجع خالد بن الوليد إلى المدينة ورجع معه بعض الجيش وبقي بعضه مع عليّ في اليمن. وأراد عليّ أن يحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمّر على الجيش رجلاً وسار هو مسرعاً مع بعض الرجال ليدرك الحج.
جاء في سيرة ابن هشام: (لما أقبل علي رضي الله عنه من اليمن ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، تعجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف على جنده الذين معه رجلاً من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسا كل رجل من القوم حُلّة من البز الذي كان مع علي رضي الله عنه. فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم، فإذا عليهم الحلل. قال: ويلك! ما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجمّلوا به إذ قدموا في الناس. قال: ويلك! إنزع قبل أن تنتهي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فانتزع الحلل من الناس، فردها في البز. قال: وأظهر الجيش شكواه لما صُنع بهم).
وجاء في سيرة ابن هشام أيضاً: (عن أبي سعيد الخدري، قال: اشتكى الناس علياً رضوان الله عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيباً، فسمعته يقول: أيها الناس لا تشكو علياً، فوا لله إنه لأخشن في ذات الله، أو في سبيل الله، من أن يشكى).
وروى البيهقي: (عن أبي سعيد الخدري، قال: بعث رسول الله عليّ بن أبي طالب إلى اليمن، فكنت فيمن خرج معه، فلما أخذ من إبل الصدقة سألناه أن نركب منها ونريح إبلنا ـ وكنا قد رأينا في إبلنا خللاً ـ فأبى علينا وقال: إنما لكم فيها سهم كما للمسلمين قال: فلما فرغ عليّ وانطلق من اليمن راجعاً أمّر علينا إنساناً، وأسرع هو وأدرك الحج، فلما قضى حجته قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجع إلى أصحابك حتى تقدم عليهم». قال أبو سعيد: وقد كنا سألنا الذي استخلفه ما كان عليٌ منعنا إياه، ففعل، فلما عرف في إبل الصدقة أنها قد ركبت، ورأى أثر الركب قدّم الذي أمّره ولامه. فقلت: أما إن لله عليّ لئن قدمت المدينة لأذكرن لرسول الله ولأخبرنه ما لقينا من الغلطة والتضييق).
وجاء في سيرة ابن كثير: (والمقصود أن علياً لما كثر فيه القيل والقال من ذلك الجيش بسبب منعه إياهم استعمال إبل الصدقة واسترجاعه منهم الحلل التي أطلقها لهم نائبة، وعليٌّ معذور فيما فعل لكن اشتهر الكلام فيه في الحجيج، فلذلك ـ والله أعلم ـ لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجيته وتفرغ من مناسكه ورجع إلى المدينة فمرّ بغدير خُمّ قام في الناس خطيباً فبرّأ ساحة عليّ ورفع من قدره ونبّه على فضله ليزيل ما وقر في نفوس كثير من الناس).
وروى الإمام أحمد: (عن ابن عباس عن بُريدة، قال: غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة، فلمّا قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت عليّاً فتنقصته، فرأيت وجه رسول الله يتغيّر، فقال: «يا بريدة ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه»). قال ابن كثير عن هذا الحديث: إسناده جيد قوي ورجاله كلهم ثقات.
وقد أن خطابه عليه وآله الصلاة والسلاح في الناس بغدير خم يوم الأحد في الثامن عشر من ذي الحجة.
وليس الدافع لهذا الخطاب في هذا الوقت هو ما توهمه بعضهم من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يوصي بالخلافة من بعده لعلي رضوان الله عليه.
وأما حديث الثقلين فقد رواه الإمام مسلم في صحيحه (باب فضائل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه): «… حدثني يزيد بن حيّان، قال: انطلقت أنا وحُصيْنُ بنُ سَبْرَةَ وعمرُ بنُ مُسْلم إلى زيد بن أرقم، فلمّا جلسنا إليه قال له حُصَيْنٌ: لقد لقيت يا زيدُ خيراً كثيراً. حَدّثْنا يا زيدُ ما سمعتَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: يا ابنَ أخي والله لقد كَبِرتْ سنّي وقَدُمَ عهدي ونسيتُ بعض الذي كنتُ أعَي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما حدثتكمْ فاقبلوا وما لا فلا تُكلّفونيه. ثم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً بماءٍ يدعى خُمّاً بين مكةَ والمدينةِ فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكّرَ ثم قال: أمّا بَعْدُ ألا أيها الناسُ فإنّما أنا بَشَرٌ يوشكُ أن يأتي رسولُ ربي فأُجيب. وأنا تارك فيكمْ ثَقَلينْ أَوْلُهما كتابُ اللهِ فيه الهُدى والنورُ، فخذوا بكتاب اللهِ واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغَّبَ فيه، ثم قال: وأهَلُ بيتي أُذَكِّرُكُمُ اللهَ في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي. فقال له حُصَيْنٌ: ومَنْ أهل بيته يا زيدُ، أليسَ نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكنْ أهل بيته من حُرِمَ الصدقة بَعْدَهُ. قال: ومَنْ هُمْ؟ قال: هم آلُ عليّ وآل عَقيل وآلُ جعفر وأل عبّاس. قال: كلُّ هؤلاء حَرِمَ الصدقة؟ قال: نعم».
وهناك رواية ثانية لمسلم مثل الرواية السابقة. وعنده رواية ثالثة جاء فيها: «كتاب الله فيه الهدى والنور من استمسك به وأخذ به كان على الهدى ومن أخطأه ضل» وعنده رواية رابعة جاء فيها: «ألا وإني تارك فيك ثقلين أحدهما كتاب الله عزّ وجل هو حَبْلُ الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلاله. وفيه فقلنا: مَنْ أهل بيته نساؤه؟ قال: لا وأيمُ الله إنّ المرأةَ تكون مع الرجل العصر من الدهر ثُمَّ يُطلّقُها فترجعُ إلى أبيها وقومها. أهلُ بيته أَصْلُهُ وعَصَبَتُهُ الذين حُرموا الصدقة بعده».
هذه هي الروايات الأربع الواردة في صحيح مسلم وكلها عن زيد بن أرقم رضي الله عنه. الإمام البخاري لم يورد هذا الحديث. الإمام أحمد بن حنبل ذكر في مسنده سبع روايات لحديث الثقلين إحداها عن زيد بن أرقم، وهي تتفق مع ما رواه الإمام مسلم، وأربع روايات عن أبي سعيد الخدري، وروايتان عن زيد بن ثابت.
وروايات مسند أحمد عن أبي سعيد الخدري هي:
1- … عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني تارك فيك الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتابُ الله حبلٌ ممدود من السماء إلى الأرض، وعِتْرَتي أهلُ بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يَردا عليّ الحوض» [ج3/ ص14].
2- … عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني أوشك أن أُدعي فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين: كتابُ الله عز وجل، وعِتْرَتي. كتابُ الله حَبْلٌ ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهلُ بيتي، وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروني بِمَ تخلفوني فيهما؟» [ج3/ ص17].
3- … عن عطية بن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتابُ الله عزّ وجلّ حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهلُ بيتي، ألاَ إنهما لن يفترقا حتى يَردا عليّ الحوض» [ج3/ ص26].
4- … عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي: الثقلين أحدهما أكبر من الأخر، كتابُ الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعِتْرَتي أهلُ بتين، ألاَ وأهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» [ج3/ ص59].
وهذه الروايات الأربع ضعيفة ولا تنهض للاستدلال، ذلك أنها كلها عن عطية العوفي وهو السبب في ضعفها [أنظر كتاب: «حديث الثقلين وفقهه» للدكتور علي أحمد سالوس ص18].
وروايتا مسند أحمد عن زيد بن ثابت هما:
1- … عن القاسم بن حسان عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض أو ما بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» [ج5/ ص181].
2- … عن القاسم بن حسان عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني تارك فيكم خليفتين: كتاب الله وأهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يَرِدا عليّ الحوض جميعاً» [ج5/ ص189].
وهاتان الروايتان ضعيفتان ولا تنهضان للاستدلال، وهما عن القاسم بن حسان، وهو سبب ضعفهما [أنظر كتاب «حديث الثقلين وفقهه» د. علي أحمد السالوس ص22].
وقد أورد الترمذي روايتين لحديث الثقلين هما:
1-… عن عطية عن أبي سعيد والأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن زيد بن أرقم رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقان حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما» (حسن غريب).
وهذه الرواية ضعيفة بسبب عطية [أنظر المصدر السابق].
2-… عن زيد بن الحسن (هو الأنماطي الكوفي) … عن جابر بن عبد الله قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: «يا أيها الناس، قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي» (حسن غريب). وهذه الرواية ضعيفة بسبب زيد بن الحسن الأنماطي الكوفي [أنظر المصدر السابق ص24].
في موطأ الإمام مالك لا يوجد ذكر للثقلين وإنما يروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تركتُ فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه» [كتاب النهي عن القول بالقدر].
في سيرة ابن هشام خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ومما جاء فيها قوله صلى الله عليه وسلم: «وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بيناً: كتاب الله وسنة نبيه».
ولا خلاف بين المسلمين في أخذ الكتاب والسنة لأن الكتاب نفسه أوجب أخذ السنة. ولكن السؤال هو: هل أهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم هم دليل شرعي مثل الكتاب والسنة؟
روايات حديث الثقلين لم يصح منها إلا ما رواه مسلم وأحمد عن زيد بن أرقم رضي الله عنهم جميعاً. وهذه الروايات توصي بالتمسك بكتاب الله، وبالنسبة لأهل بيته (عترته) عليهم السلام فإنه يقول: «أُذكِركُمُ اللهَ في أهل بيتي» (ثلاثاً) وإذا علمنا أن سبب هذا هو القيل والقال الذي نشره بعض المسلمين ضد عليّ عليه السلام فإننا نفهم بشكل واضح أنه صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه» وحين قال: «أذكركم الله في أهل بيتي» لم يكن يطلب من المسلمين أن يجعلوا العِتْرة دليلاً شرعياً ولم يكن يوصي لعليّ بالخلافة، بل كان يحذّر المسلمين من إيذاء أهل بيته أو معاداتهم، وكان يأمر بمحبتهم وموالاتهم ومودتهم كما جاء في الآية الكريمة: (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فن الحديث يشرح أن أهل بيته صلى الله عليه وسلم الذين هم الثَّقَلُ الأصغر هم آل عليّ وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس، ولم يقل أحد من المسلمين بأن هؤلاء جميعاً دليل شرعي. والذين قالوا بأن العترة دليل شرعي قالوا بأن هذا محصور بالأئمة فقط من أولاد علي وفاطمة عليهم السلام.
حتى لو قال بعض المسلمين بصحة الروايات التي ذكرنا ضعفها فإنها تساوي بين أهل بيته (عترته) صلى الله عليه وسلم ولم يقل أحد من السنة أو الشيعة بكون جميع العترة هم دليل شرعي كالقرآن.
فالأمر باتٌّ وقطعي أن حديث الثقلين لا يجعل من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دليلاً شرعياً.
والحمد الله رب العالمين.