النظرية والتطبيق
1993/03/08م
المقالات
3,068 زيارة
ترتبط تصرفان الإنسان بأفكاره عن الحياة وما قبلها وما بعدها. وعندما يخالف سلوك الإنسان ما يتبناه من فكر، يحاول أن يشرح الأسباب التي دفعته لمخالفة أفكاره، أو يحاول إثبات أن السلوك المعين لا يرتبط بالفكرة التي يُظن أنه خالفها، أو يعترف صراحة أنه أخطأ.
وما ينطبق على الإنسان، في هذا المجال، ينطبق على الدول؛ خصوصاً تلك التي تقوم على أسس فكرية، كالدول الاشتراكية الرأسمالية والإسلامية. وفي معترك الحياة، كثيراً ما تتصرف الدول على خلاف مبادئها. وعندما يتم إثبات التناقض في الفعل بين الفكرة والعمل، يقول قادة تلك الدول ما مفاده: أن النظرية شيء والتطبيق شيء آخر، وأنه لا بد أحياناً من مخالفة بعض أجزاء الفكرة بهدف المحافظة على كل الفكرة، أو بغية إيجاد الظروف المناسبة لنشرها…
ويرد السؤال: هل يصح أن تخالف الأعمالُ الأقوالَ إذا فرض الواقع المضاد نفسه على ساحة العمل؟ وبعبارة أخرى: هل النظرية شيء والتطبيق شيء آخر؟
يشترط في القاعدة الفكرية شروط أساسية لصلاحيتها، والشروط هي:
1- أن تكون عقلية، بحيث تقنع العقل قناعة تامة لا يتطرق إليها أدنى شك.
2- أن توافق الفطرة، أي أن تلتقي مع طبيعة الإنسان.
3- أن لا تكون خيالية، أي أن لا تفرض على الحياة أموراً مستحيلة.
4- أن تتسع لتشمل معالجات لجميع مشاكل الإنسان ـ بما في ذلك الدولة ـ في كل زمان ومكان بحيث لا يضطر إلى إيجاد معالجات لبعض المشاكل من خارجها.
وفي إطار موضوعنا هذا، ينبغي التأكيد على الشرط الرابع، فالفكرة إذا عجزت عن التعامل مع الظروف المختلفة تكون ناقصة وغير صالحة. والقول: (النظرية شيء والتطبيق شيء آخر) يعني ببساطة عدم صلاحية النظرية للتطبيق.
إن ما يلاحظ من ارتباك واضح واضطراب ظاهر في تطبيق الرأسمالية والاشتراكية، إنما هو بسبب عجز هذين المبدأين الوضعيين عن الإحاطة بكل مشاكل الحياة، وعن وضع الحل الصحيح لكل مشكلة، لأن عقل الإنسان محدود ومعرفته محدودة.
إن أكثر ما يرقع به الرأسماليون والاشتراكيون نظرياتهم، لا يمكن اعتباره اجتهاداً في التطبيق، ولكنه اجتهاد في أصل الفكرة. والفرق بين الاجتهاد في التطبيق والاجتهاد في الفكرة آتٍ من جهة أن الاجتهاد في التطبيق إنما يكون في استنباط حلول للوقائع المتجددة على أساس الفكرة ومن خلالها؛ بخلاف الاجتهاد في الفكرة، الذي هو تغيير لبعض أسس الفكرة تحت ضغط الواقع الرافض والمناقض لتلك الأسس. فغورباتشوف، مثلاً، اجتهد في الفكرة عندما أجاز التعددية الحزبية بما يناقض «ديكتاتورية البروليتاريا»، بخلاف اجتهاد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عدم تقسيم أرض السواد في العراق. إذ أن عمر رأى أن يضع الخراج على الأرض والجزية على الرقاب، ويكون ذلك فيئاً للمسلمين: المقاتلة والذرية ولمن يأتي بعدهم. واحتج عمر بقوله تعالى: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) حتى بلغ (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ) ثم قال: «هذه استوعبت المسلمين عامة». فهذا الاجتهاد من عمر هو اجتهاد في تطبيق النصوص المتعلقة بموضوع الفيء على الواقع الحادث في زمنه. وهو حل لمشكلة استحدثت، وهي حاجة الجند للمال بشكل مستمر.
وهناك فرق كذلك بين سوء تطبيق الفكرة وبين عدم تطبيقها، فوجود نص في دستور دولة، تزعم أنها إسلامية، يبيح الربا هو عدم تطبيق صريح لقوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)؛ بخلاف ما فعله معاوية بن أبي سفيان من أخذه البيعة لولده يزيد بالحيلة والقوة، فإنه سوء تطبيق لأخذ البيعة التي من شروطها الرضا والاختيار. وكذلك، فوجود نص يسقط الجزية عن أهلها هو عدم تطبيق لقوله تعالى: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)؛ بخلاف أخذها على غير وجهها بما يظلم بين المال أو بما يظلمهم كدافعي جزية، فهو إساءة في التطبيق.
إن الله تعالى فرض على المسلمين الحكم بما أنزل، وجعل من يحكم بغير الإسلام إما كافراً وإمّا ظالماً وإمّا فاسقاً بحسب الأسباب التي دفعته ليحكم بغير الإسلام، قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ) وقال: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) وقال: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ).
وقد حذر الله تعالى ورسوله المصطفى محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من الركون ولو قليلاً إلى الكفار، ومعلوم أن خطاب الله تعالى لرسوله هو خطاب لأمته ما لم يأتِ دليل يخصص الخطاب بالرسول صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: (وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً @ إِذًا لأََذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا). وقال تعالى محذراً من معصيته: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا) وقال: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا).
وحيث أن الإسلام دين كامل، فإنه يعالج مشاكل الحياة في كل الظروف الشاذة الصعبة. فمع وجوب تطبيق الإسلام كاملاً من الأفراد والدولة، رخّص الله تعالى للأفراد والدولة في حالات اضطرارية القيام بأعمال تخالف الحكم الأصلي:
فقد رخّص للمضطر الذي لا يجد ما يسد به رمقه أن يأكل من المطعومات المحرمة بالقدر الذي يحفظ به حياته. قال تعالى: (فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
ورخّص الله تعالى للدولة أن تدفع لعدوها مالاً إذا كانت في حالة ضعف شديد، وتخشى أن يجتاحها ذلك العدو؛ أو إذا كانت في حرب فعلية ورأت عدوها أقوى منها، وخافت من الهزيمة. وذلك كما حصل في معركة الخندق، فعندما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وصل إليه المسلمون من بلاء شديد، وخطر داهم وبعد أن وصل الحال بالمسلمين إلى أشد ما يمكن أن يصل إليه، كما قال تعالى واصفاً حالهم: (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا) عندها أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن، وإلى الحارث بن عوف، وهما قائدا غطفان، وعرض عليهم أن يرجعوا بمن معهم من قومهم على أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة، فأبوا إلا النصف، وعندما حضر رسلهم لكتابة الاتفاق أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سيدي الأنصار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشارهم، فقالا له: يا رسول الله إن كان هذا عن وحي فامض لما أُمرِت به، وإن كان رأياً رأيته لنا فقد منا نحن وهم في الجاهلية، لم يكن لنا ولهم دين، فكانوا لا يطمعون من ثمار المدينة إلا بشراء أو قِرى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، فأحببت أن أصرفهم عنكم، فإن أبيتم ذلك فأنتم وأولئك» وقال عندها لوفد غطفان: «اذهبوا فلا نعطيكم إلا السيف».
ويجب ملاحظة أمر هام، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يلجأ إلى ذلك إلا بعد أن قام بكل الواجبات الشرعية والاحتياطات الأمنية، فقد أمر بحفر الخندق، بعد استشارة المسلمين، وعمل فيه بيديه، فكان يرفع التراب ليشجع المسلمين ويدعوهم لمضاعفة الجهد، حتى تم حفر الخندق في ستة أيام، وحصن المسلمون جدران المنازل التي تواجه العدو، وأخلوا المساكن التي ظلت وراء الخندق، وجيء بالنساء والأطفال إلى المنازل التي حُصِّنت، وخرج الرسول عليه وآله الصلاة والسلام في ثلاث آلاف من المسلمين، فجعل ظهره إلى هضبة سلع، وجعل الخندق بينه وبين أعدائه. ولم يكتف الرسول بتقوية الجبهة الداخلية، بل عمد إلى الأعداء للإيقاع بينهم، فقد جاء نعيم بن مسعود، وكان قد اسلم، وعرض على رسول الله أن يقوم بما يثبط الكفار، فذهب بأمر الرسول إلى بني قريظة وكانت لا تعرف أنه أسلم، وكان لها نديماً في الجاهلية، فذكرهم بما بينه وبينهم من مودة، ثم ذكر لهم أنهم ظاهروا قريشاً وغطفان على محمد، وقريش وغطفان ربما لا تطيقان المقام طويلاً فترتحلان، وتخليان ما بينهم وبين محمد فينكل بهم، ونصح لهم ألا يقاتلوا مع القوم حتى يأخذوا منهم رُهُناً يكونون بأيديهم، حتى لا تتنحى قريش وغطفان عنهم، واقتنعت قريظة بما قال؛ ثم ذهب إلى قريش فأسرّ لهم أن قريظة ندموا على ما فعلوا من نكث عهد محمد، وأنهم عاملون لاسترضائه وكسب مودته، بأن يقدموا له من أشراف قريش من يضرب أعناقهم، ولذلك نصح لهم إن بعثت إليهم اليهود يلتمسون رهائن من رجالهم ألا يبعثوا منهم أحداً، وصنع نعيم مع غطفان ما صنع مع قريش. الأمر الذي أدى إلى دب الشبهة في نفوس العرب من اليهود، ثم تحولت تلك الشبهة إلى اتهام عندما طلب اليهود رهائن حتى يقاتلوا. فتفككت بذلك لُحمة الأعداء.
إن ما يقوم كثيرون به اليوم، من ارتماء في أحضان الأعداء، ورضوخ لكل مطالبهم، ليس إلا انهزاماً وخيانة، فعزيمة الأمة قوية جداً، وها هي تقاتل الأعداء بالحجارة وبأقل القليل من السلاح، وتنزل بهم الضربات الموجعة. والأمة تملك من المال والرجال والعتاد ما يرهب كثيراً من الدول، ويدفع الدول الكبرى إلى الإيقاع بيننا بدل أن نقوم نحن بالإيقاع بينهم.
التطبيق يجب أن يكون من خلال الفكرة، وحيث أن ديننا الحنيف قد بيّن العلاجات لكل المشاكل في كل زمان ومكان، فعلى العاملين في الدعوة الإسلامية الإبداعُ في استنباط الحلول للمشاكل العديدة التي يواجهونها من خلال الكتاب والسنة وما انبثق عنهما، والصبرُ على كل الأوضاع الصعبة التي تحيط بهم حتى يحدث الله أمراً كان مفعولاً. قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) صدق الله العظيم .
1993-03-08